إذا كنت تتجول بشوارع العربي بن مهيدي أو ساحة الشهداء ورأيت صفا من النسوة يلبسن ''عجارا'' ويلتحفن الحايك وفي أيديهن قلائد وخواتم ذهبية فاعلم أنك في سوق الذهب أو ''دلالة الصياغة'' التي يحلو للعاصميين تسميتها. لا تحاول كثيرا الاقتراب فالمكان حتى وإن كان يستهوي ''النشالين'' واللصوص إلا أن بعض الدلالات لا يشعرن إطلاقا بأي نوع من الخوف على مصوغاتهم الثمينة أو حتى على أنفسهن، والسر في ذلك أن كل واحدة منهن تتعامل مع مجموعة من الشباب أصحاب السوابق ليؤدوا دور ''البودي غارد'' في حمايتهن. وإن دفعك فضولك وأحببت معرفة أسعار الذهب بدون نية في الشراء فإنك تكون قد أخطأت العنوان.. هكذا هي هذه السوق وهكذا هم باعتها، وأنت تتجول بين جنبات هذا المكان تتبادر إلى مسامعك أصوات الدلالات وهن يبدين غضبهن وتذمرهن على الزبائن وكأنهن ينتقمن من واقعهن المرير بطريقتهن الخاصة.هؤلاء النسوة يأتين من كل صوب وحدب، كل صباح يحملن حقائب يدهن أو قففهن الصغيرة، يأتين من الأحياء المجاورة للعاصمة وضواحيها وحتى من الولايات القريبة، وجهتهن واحدة شارع العربي بن مهيدي، أزقة الرويسو، ساحة الشهداء، واد كنيس، باب الزوار والرغاية، عناوين واحدة لأماكن عرفت بتجارة الذهب فيها تدر أموالا طائلة بالنسبة للبعض، في حين يبحث البعض فيها عن لقمة العيش لإعالة أسرهن البسيطة دون البحث عن الرزق الكثير أو الطمع فيما يفوق سد حاجاتهن اليومية. أحد الشباب أخبرنا أن الدلالات يبعن أكثر من محلات صياغة الذهب وأن ربحهن يتجاوز ربح هذه المحلات. وعن ثقة الزبائن قال لدينا زبائن أوفياء وهم كثر وبالرغم من الإشاعات الأخيرة التي تم تداولها بخصوص دخول معدن يشبه الذهب إلى حد كبير ولا يتعرض للتلف فإن الزبائن لم يكترثوا كثيرا فهم يضعون كامل الثقة فينائ. ''الدلالة''..شر بقاع الأرض! ''الدلالة'' ليست مهنة سهلة كما يظنها البعض فشرها وسمعتها السيئة سبقت مرتاديها، الباعة هناك على اختلاف الأعمار والأجناس يخافون هذه السوق ويعلمن جيدا الخطر المحدق بهم في كل لحظة، قد يتعرضون للسرقة أو للاعتداء أو لحجز بضائعهم من طرف أعوان الأمن أو حتى للنصب والاحتيال من طرف بعض الزبائن الذين يقومون ببيع الذهب المستعمل والإكسسوارات المكسورة، انقلبت الموازين وأصبح هؤلاء الباعة يشترون الذهب القديم والمستعمل لأخذه لورشات الصياغة التي تشتغل في الخفاء والتي تبيعهم الذهب وهذا بعدما أثرت الأزمة المالية على سوق الذهب وأصبح المعدن الأصفر عملة نادرة يصعب تداولها في الأسواق وخاصة بعد لجوء المستثمرين إليها كونها الأكثر ضمانا. حسين شاب كان يعرض سلعته هو الآخر تحدث ل''البلاد'' قائلا ''هذا المكان هو فعلا شر بقاع الأرض نحن لا نعرف زبائننا، قد نبيع اليوم قطعة من الذهب لأحد الزبائن ولكن إن اكتشف أمره رجال الشرطة فسوف يدلهم على مكاننا وحينها يأخذوننا إلى السجن''، حسين روى لنا قصة حدثت معه العام الماضي، قال إن فتاة جاءته وباعته سوارا من الذهب ثم عادت مرة ثانية وباعتني كذلك سوارا آخر لتبيعني في المرة الأخيرة ''محزمة'' من الذهب وبمبلغ جد مغر، قال لنا الفتاة كانت تبدو مترفة كنا نتحدث مع بعض في الهاتف وعرفتها لمدة سبعة أشهر، كانت تبدو فتاة عادية، قال لنا إن والدها كان صاحب محال تجارية في باب الزوار وقال لنا إنها قامت بسرقة جميع ما كانت تمتلكه والدتها من ذهب وأخذت مبلغ 150 مليون سنتيم من والدها وهربت إلى فرنسا. وأضاف أن الزبائن الذين نشتري من عندهم الذهب هم على هذه الشاكلة، لا نعرف من أين يأتون بالذهب، هل يسرقونه أم أنه ملك خاص بهم؟ ''الشرطة والدلالات''.. القط والفأر ''الدلالات'' أكثر عرضة للسرقة كونهن فريسة سهلة، يتدخل الشباب المجاور لهن في حمايتهن أحيانا، البعض منهن يأتين مع أولادهن، ولكن يبقى الخطر الأكبر في نظر هؤلاء، هم رجال الشرطة فإن زاروا المنطقة فهم يقومون بإلقاء القبض على بعضهن وحجز سلعهن وإحالتهن على القضاء، في حين يقوم بعضهن الآخر بدفع رشوة لبعض ضعاف النفوس من سلك الشرطة ليغضوا الطرف عنهم وكما صرح منير فإنهم يأخذون مبالغ لا بأس بها. سألنا الباعة كيف يعرفون أن أعوان الأمن سيقومون بزيارة المنطقة أجابونا بأنهم في بعض الأحيان يعلمون من رجال الأمن الذين يأخذون الرشاوى منهم، ولكن في معظم الأوقات تتم مباغتتهم فلا يبقى من حل أمامهم سوى الهرب. ''الدلالات'' كذلك أجمعن على أن المهنة ليست سهلة حتى على الرجال فهي صعبة جدا، ولكن لقمة العيش ليست سهلة هي الأخرى والحياة تجبرهن على ذلك، إذ تتعرض سلعتهن للحجز ولكنهن يعاودن مزاولة هذا النشاط دونما أي حرج أو خوف، بعضهن تقول إنها لم تجد مهنة أخرى وإنها لا تعرف حرفة أخرى ولا تستطيع تأمين حياتها بأسلوب آخر والبعض من هؤلاء النسوة تقول إنها كبرت في السن ولا يمكنها مزاولة نشاط آخر رغم مخاطر المهنة. ''السوق السوداء'' مدرسة تلاميذها شباب يافعون وأساتذتها دلالات منير شاب تحصل على البكالوريا هذه السنة وسجل في جامعة دالي إبراهيم تخصص اقتصاد، أخبرنا أنه يزاول هذه المهنة في فترة الصيف منذ ثلاث سنوات هو وصديقه وبأنه يساعد أسرته في جني قوت يومهم، سألناه عن مصدر الذهب أخبرنا أن هناك ورشا خاصة تصنع الذهب بطريقة سرية وتبيعه للدلالات وهي معروفة فالكل يشتري من نفس المكان، لذلك تجدين الأنواع المعروضة للبيع متشابهة، وعن نسبة الربح في كل قطعة أخبرنا أن نسبة الربح تختلف من شخص لآخر أومن دلالة لأخرى فهناك من تصل فائدتها في القطعة إلى 5000 دج في حين أن فائدة الأخريات على حد قوله قد لا تصل عتبة الألف دينار، وعن الأوضاع المعيشية لهؤلاء البائعات أخبرنا أن معظمهن محتاجات فلولا الحاجة ما كن يلجأن إلى مثل هذه المخاطرة. خالتي فاطمة إحدى ''الدلالات'' التي اقتربنا منها، تجاور منير كل يوم يحرسها وهي تعلمه أسرار المهنة، هذه السيدة كما كانت تبدو امرأة قوية وصعبة المراس رفضت في البدء الحديث معنا لولا طمئنة منير لها، بدأت تتحدث شيئا فشيئا فأخبرتنا أنها تزاول هذه المهنة منذ خمس وأربعين سنة وهي تشتري بضاعتها عند نفس البائع ولها زبائنها الأوفياء حتى إن بعض زبوناتها يزرنها أحيانا في المنزل عندما تحضر سلعة جديدة وهي تتصل بهم بدورها للترويج لكل سلعة جديدة، أخبرتنا أنها امرأة محتاجة وأنها أم لخمسة شبان يعمل بعضهم كسائقي سيارات أجرة ولكن بطريقة غير شرعية هم الآخرون، كانت تتحدث بحسرة عن أولادها وتقول إنها تعبت من مزاولة هذه المهنة ولكنها إلى اليوم لم تستطع تزويج أولادها لذلك لاتزال تزاول هذه المهنة الصعبة وقالت لو كان لأولادي مهن ثابتة ما كنت لجأت للمخاطرة وأنا في مثل هذه السن، قالت لنا إنها تعرضت ثلاث مرات في حياتها لمصادرة ما كان بحوزتها وإنها اضطرت لتقديم الرشوة في بعض الأحيان ليغض عنها رجال الشرطة البصر، قالت لنا كذلك إن ''الهامل'' يريد تهميلهم من ساحة الشهداء كما أنه قام بطرد الدلالات في كل من باش جراح والرويسو وباب الوادي، قالت لنا إنهم مهما حاولوا جاهدين في طردهم فإنهم سيبحثون في كل مرة عن سوق جديدة ''السامط يغلب القبيح'' على حد تعبيرها، قالت لنا أولادنا وهؤلاء الشباب لا يملكون وظائف ثابتة وأشارت إلى شاب كان جالسا أمامها قائلة هذا الشاب مكانه في المكتب وليس في السوق، إنه خريج كلية الحقوق ويتقن اللغات ولكنه لم يجد وظيفة وهو اليوم يبيع ''الشوشوات'' أي إكسسوارات الشعر وإكسسوارات البنات، ليس لدينا حل آخر والمضطر يشتغل في هذا المجال وإن لم يجد فإنه سيلجأ للسرقة أو للإجرام. وأضافت، إن تم القضاء على هذا السوق الذي يجني منه البعض قوت يومه، فما عساهم يفعلون، ليس من طريق آخر أمامهم سوى السرقة، لو وفرت الدولة مناصب عمل لهؤلاء لما كانوا زاولوا نشاطات كهذه محفوفة بالمخاطر، أخبرتنا عن أحد الشباب قائلة إنه حاول المشاركة في مسابقة توظيف في الحماية المدنية لأكثر من مرة وكونه لا يملك أية واسطة ولا يملك المال لم يستطع، أخبرتنا أنه في مرة من المرات عرض عليه أحد العاملين بالحماية المدنية أن يدفع له مبلغ 10 ملايين دينار جزائري وبما أن الشاب لم يكن يملك ذلك المبلغ حينها لم يحصل على الوظيفة وقالت إنه حاول الهجرة إلى الصين أو اليابان كما فعل بعض قرنائه ولأنه لم يكن قد تدرب على السلاح كونه كان معفيا من آداء الخدمة الوطنية لم يستطع الحصول على تأشيرة للسفر. حتى هنا الطبقية لها مكان! حسين قال لنا إن الدلالات في هذا السوق طبقات، هنالك الدلالة الفقيرة وهي عادة ما تعرض القليل من الذهب وهنالك الغنية المترفة العيش، سألناه ما دامت مترفة فلماذا تمارس هذه المهنة، قال لنا هنالك منهن من يجرهن الطمع بالرغم من الأموال التي يملكنها والتي لا تلتهمها النيران فهن يزاولن هذه المهنة لما تدره عليهن، وهنالك من تربح 50 مليون دينار جزائري في الشهر، وأشار لنا إلى أن السيدة التي كنا نتحدث معها واحدة من هؤلاء، قال لنا لها 45 سنة وهي في هذا المجال جنت منه الكثير وعلمت أولادها وهم الآن جميعهم إطارات في الدولة وقال إنها تأتي بسائق خاص كل صباح ويأتي لاصطحابها مساء. كما كشف لنا أنها حتى وإن وقعت في ورطة مع رجال الأمن فهي تجد مخرجا لها دوما وأحيانا حتى وإن وصلت للقضاء فهي تستطيع الخروج من الورطة كالشعرة من العجين. المقبلات على الزواج وفيات لأصحاب المهنة وتلجأ العديد من الجزائريات إلى اقتناء هذا الذهب من الأسواق غير الشرعية، وخصوصا المقبلات على الزواج بالرغم من الشكوك السائرة حوله فيما يخص مدى صحة نوعية الذهب التي تعرضها الدلالات إلا أنهن لا يمتنعن عن اقتنائه نظرا لسعره المغري بالنسبة لهن. عرجنا على أحد صائغي الذهب المتواجدين بالمنطقة فأخبرنا أن هذا الذهب الذي تقتنيه السيدات من الدلالات يحتوي على نسب كبيرة من غبرة النحاس وأن ورشات صناعة الذهب تقوم بزيادة وزنه عن طريق إخلاط القطع النقدية من فئة العشرة دنانير الصفراء اللون، هذا ما يسبب كسره بسهولة وما يجعل عملية تصليحه شبه مستحيلة. إنها ظروف الحياة القاسية التي تجبرهن على مزاولة هذه المهنة دون غيرها دون التفكير في حجم المخاطرة أو حتى الوعي بنوع الخطر الذي يعيشن فيه أو الربح الوفير الذي تدره هذه المهنة عليهن يجعلهن يدمن على هذه المهنة حتى وإن كن قد كون ثروات من ورائه وحسن من وضعيتهن فإن بعضهن لا يقلع عن إدمانه .