رغم الخطة الاستعجالية التي بادر بها وزير الصحة والسكان وإصلاح المستشفيات، عبد المالك بوضياف، في أولى أيامه على رأس الصحة من أجل النهوض بالقطاع والرفع من نوعية الخدمات المقدمة، من خلال جملة من الإصلاحات الهادفة إلى توفير الأدوية، الأجهزة الطبية، ووضع نظام معلوماتي جديد من أجل التنظيم الدقيق للمواعيد، لوضع حد لمشكلة سوء التسيير، وضمان علاج مستمر مع استقبال لائق للمرضى، غير أن الكثير من المستشفيات العمومية يبدو أنها ألفت انتهاج سياسة الإهمال واللامبالاة والتقصير في الأداء تجاه المريض. عبد الله ندور احترت من أين أبدأ حكاية يوم واحد قضيته بأحد أكبر مستشفيات البلد، مستشفى مصطفى باشا الجامعي، الذي يتوافد عليه المرضى من كل أنحاء الوطن طلبا للعلاج، لما لهذا المستشفى من سمعة وإمكانيات، قد لا يجدها المريض في أي مستشفى آخر. من هنا تبدأ الصعوبات.. اضطررت إلى نقل أحد الأقارب إلى مستشفى مصطفى باشا، وهو في حالة استعجالية، حتى يراه الطبيب الجراح الذي أجرى له عملية جراحية مؤخرا، لكن الدخول إلى المستشفى ليس بالأمر الهين، فالأمر يتطلب انتظار قرابة نصف ساعة كاملة وأنت في زحمة السيارات للدخول، الكل ينتظر إذن مسؤولي الحراسة، غير أن الأمر يتطلب مراقبة صارمة للوثائق حتى يسمح لك بدخول المشفى. وبمجرد أن وصلت إلى مصلحة الجراحة العامة "أ" وجدت صعوبة كبيرة لركن السيارة في مكان قريب يمكنني من تخفيف معاناة المريض الذي لا يستطيع المشي. فلا عربة لنقل المرضى ولا سرير متوفر يرتاح عليه وينقل به ليفحصه الطبيب. تسرب المياه يُلغي الفحوصات الطبية! اتجهنا إلى الطابق السفلي للمصلحة، المفاجأة.. خلت للوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بزلزال عنيف هز الطابق السفلي للبناية!! الكراسي متناثرة.. القاعة مليئة بالمياه المتسربة.. السقف لا أثر له.. إنها أشغال ترصيص لقنوات المياه. لقد تم تأجيل الفحوصات الطبية إلا للحالات الاستعجالية. توجهنا للطابق العلوي حيث يفترض أن نجد الجراح الذي نود رؤيته ليفحص المريض، مفاجأة أخرى، الطابق الأرضي كتب على مدخله أنه مصلحة مخصصة للرجال ولكن للأسف إنه مخصص للنساء، والخطأ نفسه وجدناه في الطابق الأول الذي يشير إلى أن المكان مخصص للنساء ولكن في حقيقة الأمر مخصص للرجال، يبدو أن المسؤولين على قسم الجراحة العامة لا يفرقون بين الجنسين!! وأخيرا.. ها هو الطبيب الساعة كانت تشير إلى العاشرة صباحا، لقد قضينا ما يقارب ساعة ونصف الساعة ونحن ننتظره، لا يوجد أي مكان يمكن للمرضى أن يستريحوا فيه.. إنه الوقوف المؤلم. بعد أن تمكنا من إدخال المريض إلى طبيبه المعالج.. بعد فترة أسمع من يناديني، طلب الجراح مني أن أتوجه إلى مركز الأشعة المركزي لأحضر له "طلب سكانير"، غير أن العون بهذه المصلحة أقسم ألا يملك هذه الوثيقة! طلب مني مرة أخرى أن أتوجه إلى أمانة قسم الجراحة العامة.. أكد لي رئيس المصلحة أنه لا يملك هذه الوثيقة.. طلب مني الجراح مرة أخرى أن أبحث عن "طلب السكانير" لدى أمانة مصلحة الرجال.. الشيء نفسه فالوثيقة لا أثر لها... "المعريفة" للحصول على وثيقة لاحظ أحد الممرضين حالة الغضب والقلق التي انتابتني جراء انعدام هذه الوثيقة، طلب مني أن أرافقه، عاد بي إلى رئيس مصلحة قسم الجراحة العامة "أ"، ودون علم منه أني كنت مختبئا خلف الباب أراقب الوضع.. وأخيرا حصلت على "طلب السكانير"، وبعد أن ملأ الطبيب الوثيقة، أودعتها لدى مصلحة الأشعة بالقرب من قسم الجراحة العامة "أ".. مفاجأة أخرى ومن العيار الثقيل، لأن الأمر يتطلب أسبوعا لأتعرف على موعد إجراء السكانير، وحسب بعض المتعودين على إجراء الفحص في هذه المصلحة فإن الأمر قد يتطلب انتظار 15 إلى 20 يوما!! نتائج تحاليل الدم بعد ثلاث ساعات طلب منا الطبيب التوجه إلى مصلحة الاستعجالات الجراحية لطلب إجراء تحليل الدم، الساعة تشير حاليا إلى حدود الثالثة بعد الزوال، كنت أعتقد لأول وهلة أن الأمر لا يتطلب أكثر من نصف ساعة، ولكن في الواقع قضينا ثلاث ساعات ونحن ننتظر ظهور النتائج، وسبب التأخر مجهول.. وفي غمرة الانتظار لاحظت وجود عينة من الدم في أنبوب مع وصفة طبية.. كان من المفروض أن تجرى له تحاليل، غير أنه بقي مرميا على أحد المولدات الكهربائية في مصلحة التحاليل الاستعجالية.. حاولت أن أستفسر عن سبب التأخر في ظهور النتائج والحصول على بطاقة زمرة الدم للمريض، علمت بعد مدة من أحد الأطباء الذي جاء ليسترجع نتائج أحد معارفة بأن أحد الأجهزة معطل، مما تطلب نقل عينات الدم إلى مخبر آخر داخل المستشفى، وهو ما أخر ظهور النتائج. ملائكة في جحيم المستشفى في خضم كل هذه المشاكل التي اعترضتني طيلة هذا اليوم المتعب، أثلج صدري أني رأيت ملائكة في جحيم هذا المستشفى، يصلن ويجلن، وهن مبتسمات. هؤلاء الجمع الذين لا ينتبه إليهم الكثير، إلا المرضى الذين ينتظرونهن بشغف كبير، خاصة الذين قدموا من ولايات بعيدة، حيث لا أب هنا ولا أم في العاصمة، يسأل عنه أو يتفقده، إلا هذه الوجوه الملائكية التي تسعى لنشر الابتسامة بين المرضى للتخفيف من آلامهم. وهم جمعيات خيرية، أو أناس يحبون فعل الخير. وتصادف حضورنا بجولة قامت بها إحدى الجمعيات، لا أذكر اسمها، بزيارة في إطار برنامجها المتعلق بالعمل التضامني الجواري لفائدة المرضى بالمستشفيات، فبادرت ببرمجة زيارة للأطفال المرضى بمصلحة طب الأطفال. وشملت الزيارة جميع الأجنحة بما فيها جناح الأطفال المرضى بالسرطان، وقام المشرفون على هذا النشاط من شباب الجمعية بتوزيع الحفاظات والمناشف المعقمة والألعاب والهدايا على كل المرضى، المبادرة لاقت استحسان الأطفال المرضى وأوليائهم وأدخلت على نفوسهم البهجة والسعادة ولو للحظات، كما تم توزيع ألبسة وهدايا على المرضى، وتوزيع مصاحف بطباعة جميلة وعطور ومياه معدنية. ورافق الجمعية في خرجتها هذه فرقة بهلوانية، أدخلت البهجة والسرور في نفوس الأطفال المرضى وذويهم. حلاق المرضى أثناء تجوالي بمصلحة الجهاز الهضمي، بحثا عن أحد الأطباء تعود المريض التعامل معه، وإذا بي أجد شابين يوزعان حساء ساخنا على المرضى، يطرقون أبواب الغرف، ويستأذنون قبل الدخول، ويسألون المرضى إن كانوا يريدون تناول وجبة العشاء، ممثلة في حساء ساخن من الخضر والدجاج. ويقول أحد الشباب مطمئنا مريضا "ما تخافش السوبة دارتها لعجوز في الدار". وهو يقدم له وجبة العشاء في صحن أحضره معه مع تفاحة وماء، إذا بأحد الشباب يطرق هو الآخر أبواب المرضى يسألهم عمن يريد أن يحلق شعر رأسه أو لحيته أو شاربه. إنه حلاق على ما يبدو، حسب دردشة مع أحد المرضى الذين يرقدون في هذه المصلحة، فهمت أن الحلاق متعود على زيارة المرضى يعاملهم كأفراد عائلته يخفف عنهم آلامهم وهو يحدث أحدهم قائلا "اليوم نرجعك عريس ياخو.. لو كان يزوروك الدار ما يعرفوكش". مسجد المستشفى.. المكان الوحيد للراحة بعد يوم صعب وشاق، وفي انتظار انتهاء العملية الجراحية البسيطة والاستعجالية، التي من أجلها جئنا بالمريض إلى المستشفى، يرفع صوت الحق مؤذنا لصلاة العشاء، توجهت مع مرافقي إلى مسجد المستشفى المحاذي لمصلحة حفظ الجثث، لأول مرة أؤدي الصلاة في هذا المسجد، لم أتصور أن أجده على تلك الحال. يختلف كلية عن أي مسجد، وهو الذي كان عبارة عن كنيسة صغيرة في يوم من الأيام. روائح عطرة تنبعث من المكان، ونظافة لا مثيل لها في بيت الوضوء أو في قاعة الصلاة، كل شيء مرتب، في المسجد جهاز تلفاز يبث صورا من أدعية المساء والصباح وأذكارا بعد كل صلاة. دقائق قليلة تمكنت فيها من الجلوس بعد يوم من الوقوف، شعرت براحة لا مثيل لها في هذا المكان الذي كان أنظف بقعة في هذا المستشفى، وأهدأ مكان في خضم آلام وتأوهات المرضى، ومشاحنات ذويهم، ونرفزة حراس المشفى