كانت محاولة عدة آلاف من الجيش التركي الانقلاب على الحكومة الشرعية ، خارج التاريخ وغريبة على الزمن الذي نعيشه ، موضة الانقلابات التي كانت رائجة في الستينات والسبعينات لا مكان لها في عصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي ، خاصة مع شعب متحضر ومتقدم ومتمسك بالديمقراطية والحريات. في الماضي كان يكفي أن تسيطر على المقرات الحساسة والتلفزيون والإذاعة لتحسم الأمر، الآن يجب على الانقلابيين السيطرة على ملايين الهواتف الذكية ، وهو ما شهدناه أمس حين استعمل الرئيس التركي هاتفه الشخصي كوسيلة للتواصل مع الشعب بعد انقطاع الوسائل الأخرى. قد نختلف كثيرا مع الرئيس التركي أردوغان ، وقد نعارض سياسته الخارجية المتخبطة وإعادة التطبيع مع إسرائيل ، زيادة على محاولته إقصاء الخصوم في الداخل و التضييق على الإعلام ، لكن الشعب التركي وحده من يقرر مصير رئيسه عن طريق الأساليب الديمقراطية ، وعصر الدبابة انتهى إلى غير رجعة في المجتمعات الحية والمتحضرة ، لهذا ظهر الموقف الشعبي القوي الرافض للانقلاب بنزول ملايين الأتراك إلى الشوارع ، وحتى المعارضة التركية التي تتصارع يوميا مع أردوغان وتتهمه بأشد الأوصاف، وقفت بقوة في وجه الانقلاب ودعمت شرعية الحكومة المنتخبة. في المجتمعات المتحضرة انخفاض شعبية رئيس أو فشله في التسيير والحكم ، لا يعني السماح بالإطاحة به بالقوة ، فقط صناديق الاقتراع من تعاقبه بعد انتهاء عهدته الانتخابية ، ولنا أمثلة في زعماء عدة دول أوروبية انخفضت شعبيتهم إلى مستويات قياسية كما يحصل اليوم مع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الذي لا يحظى بأكثر من 15 بالمئة من الدعم الشعبي ، لكن هذا لم يدفع بأحد حتى لمجرد التفكير باستبداله قبل انتهاء عهدته الانتخابية . أمس وضعت تركيا حدا لعقود من التدخل العسكري في الحياة السياسية والذي لم يولد إلا الخيبة والفشل الاقتصادي والتدهور السياسي ، في السابق كان الأتراك يذعنون لفوهة البندقية ، حتى وصل الأمر بالقادة العسكريين إلى إعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس سنة 1960 ، وهذا التاريخ مع الانقلابات له جذور حتى في الدولة العثمانية التي شهدت عدة انقلابات عسكرية على السلاطين من قبل الجيش الانكشاري ، لكن في سنة 1826 ذاق العثمانيون درعا بتصرفاتهم فكانت الواقعة الخيرية أو مذبحة الإنكشارية، و هي مقتلة جرت بعد ثورتهم بإسطنبول ، اثر تنبههم لنية السلطان محمود الثاني إنشاء جيش نظامي حديث، فثاروا عليه ولكن في تلك المرة وقف معظم الجيش والأهالي ضدهم، وأجبرت وحدات الفرسان الموالية للسلطان الإنكشارية على التراجع إلى ثكناتهم، ثم أطلقت المدفعية نيرانها على ثكناتهم، موقعة بهم خسائر فادحة، ليتم بعدها إعدام أو عزل الناجين، وبعد سنتين قام السلطان محمود الثاني بمصادرة آخر ممتلكات الإنكشارية. أنس جمعة للتواصل مع الكاتب من خلال صفحته الرسمية على موقع "فيسبوك": https://www.facebook.com/anesdjemaa/ أو من خلال البريد الإلكتروني: [email protected]