فنانو الجزائر بين "مطرقة" التقشف و"سندان" التهميش تُعدُ ثقافة أي بلد مفتاح قوتهِ ونهضته الفكرية والحضارية التي ترسمُ واجهتهُ بين الأُمم، إذا ما ضعُفت هذه المُعادلة بحساباتِ الدولة،أضحت منسية التوجُه والفكر وتُصبحُ لا محالة في عِدادِ الثقافاتِ البائدة.والجزائر، بلدٌ يمتلكُ كل مُؤهلات التنوع الثقافي والفني وحتى الفكري، ما يجعلهُ مادة زاخرة بجميع المقاييس إذا ما تم إستغلالُ مُكوناتها المادية والبشرية بأسلوبٍ يُحدد رُؤيةً للتجربة الفكرية الإنسانية التي تعملُ بها باقي الدول حتى تُحافظ على صُورة هويتها التي تُقدمُ بها نفسها للآخر. والمُثير للاستغراب هُو أن قطاع الثقافة في الجزائر نفسهُ يحتاجُ إلى من ينهضُ به، فحتى الآن لم يفرض سياسة مُوّحدةً لهذا التنوُع الذي من شأنه أن يُغير الكثير من حالات الجُمود والموت "القصري" للإبداع والمُبدعين. فعندما يتحولُ المُثقف الجزائري إلى "نقطة ضعفٍ" في المُجتمع، فاعلم أن هُناك إرادة سياسية تجعلُ منهُ الرقم الأقل وزناً في سُلم الأولوياتِ. حمل موضُوع طريقة التسيير المالي بوزارة الثقافة "سُوقاً" كلاميا عارماً في كواليس الإعلام وقطاع الثقافة في عدة مُناسبات وتظاهرات وطنية. وأصبح تراشقُ التُهم يجوبُ المواقع ويتصدرُ عناوين الجرائد، يعترضُ فيه أصحابهُ على هدر مبالغ وُصفت ب "الخيالية" بمُختلف التظاهرات الثقافية لهذه السنة والتي حسبهم لم تقدم شيئا للقطاع، بل كانت مُجرد تبديدٍ لميزانيتها في عز حالة "التقشُف" التي تعرفُها البلاد، وهذا ما فتح جِدلا افتراضيا وآخر بالواقع حول مدى "جِدّية" المسؤولية التي تتحمل تبعاتها وزارة الثقافة، فعلى غرار هذه الهُجومات التي تتكررُ مع كل مناسبة، لم يتردد بعض المُتحمسين للقضية في توزيعها هُنا وهناك، و كان عنصر الإثارة في الجدال المفتوح حاضرا بين "أنصارالوزارة"، و"الخوارج" عن تيار قطاع الثقافة من مُعارضين، وذلك ضد كيفية تسيير ذلك القطاع، وفي حركة مد وجزر تحول المنبر إلى ساحة لتصفية الحسابات وتبادل التُهم والفضائح، بالأسماء والمراكز!
وزارة الثقافة تبخس الفنانين حقوقهم أحياء وأمواتا..
عرف الموسمُ الثقافي لسنة 2016 موجة تنديد كبيرة من طرف مُثقفين وفنانين تموقعُوا بصف المُهمشين ضد ما أسموهُا بالمهزلة الحاصلة علناً، دُون تدخل الجهات المعنية "المُغيّبة" تماماً عن التفاعل مع ما يحصُل، حيث أطلق بعضهم صفارة الإنذار بضرورة إعادة مُراجعة الحسابات والسياساتِ المُرافقة لها. وما أثار استياءهُم هو سُكوت وزارة الثقافة وتجاهلها الرسائل التي صوّب أصحابها زنادهُم إليها، وعلى ما يبدُو أن هذه الأخيرة قد أثارت "حفيظة" وسائل الإعلام من حيث كيفية تناولها بطريقة موضوعية، ومدى اعتبار مُختلف المنابر المفتوحة عبر الأنترنت مصادر معلوماتية صحيحة من شأنها إثارة قضايا الموسم الثقافي لهذا العام والتي يبقَى التساؤُل مطروحا فيما يتعلق بمسألة تصفية حسابات فقط أم أن ردود الأفعال التي ثارت من حولها تعلن تحول مختلف أطراف الرأي العام في صب وجهات النظر نحو الأنترنت بعد أن فشلت المنابر العامة في ضمان تحريرها. من جهتها نفت وزارة الثقافة "تُهمة" تبديد الأموال "العُمومية"، حتى أنها مازالت تملكُ وِجهة نظر مُخالفة تماما لمَ تقدم به مُعارضوها عن غمُوض طريقة صرف الميزانية المُخصصة لأهم الفعاليات الثقافية المُنظمة وطنياً وكذلك تلك التي أخذت منحى دوليا بالجزائر، وقالت إن ما تحدثت عنه بعض وسائل الإعلام من فضائح وتبديدات مالية ارتكبت خلال تظاهرة قسنطينة العربية أو تلك المُتعلقة بمهرجان وهران للفيلم العربي وبعض الحفلات والمهرجانات التي إستقطبت أسماء فنية عربية معروفة، لا أساس لها من الصحة وهي حسبها مُجرد تأويلاتٍ هدفها التشويش على برنامج الوزارة الحالي، مُشيرة في الوقت ذاته، إلى أن الوزارة والهيئات التابعة لها مُستعدة لفتح أبوابها للتدقيق المالي. كما أشارت إلى أنها ليست ضد أي تدخُلٍ حُكومي فيما يتعلق بالاستفسار عن ميزانية 2016 وما صُرف منها، مُؤكدة أن بعض الجهات تحاولُ تلطيخ سُمعة الوزارة دون أن تملك أي دليل. إن الصراع القائم في الحقل الثقافي الآن، تحكمهُ حساباتٌ من الواقع يقف عندها كُل مُتتبع للمشهد، نشاطاتٌ باهتة، دُور سينما مغلقة وبعضها تحول إلى صالاتٍ للأعراس الخاصة، وأخرى لأوكارٍ لا يُعرف نوع نشاطها بعد ما إذا كانت تُقدم أفلاماً أم توفر أمكنة لقاءات مشبُوهة. إنعاشُ هذه المنظومة ليس بالأمر الهيّن، إذا لم يتوفر تكاتفٌ بالإجماع على القيام به من جهة الوزارة والفواعل التابعة لها من مُؤسسات وأفراد. فالأغلفة المالية التي سُخرت لمُعظم الأنشطة التي طبعت هذا الموسم تكفي لإعداد مشاريع ضخمة للقطاع، نظراً للتحصيل الباهت التي خرجت به تلك التظاهرات التي بدت غير مُجدية، خُصوصا أنها خدمت بعض الأسماء العربية على حساب أخرى جزائرية أعطت الكثير ولم تجد نفسها سوى بمصافِ "المُهمشين" فنياً. فأغلب من تحدثنا إليهم أكدوا حصولهم على "تقاعُدٍ" مُبكر، لعدم استدعائهم لأي عملٍ، أو حتى تقديم دعم أو مُوافقة على بعض العروض واقتراحات من قِبلهم في إنتاج ما يُعيدهم إلى الساحة والجمهور. وفي نُقطة أخرى للتوظيف الذي رافق تلك التنظيمات والفعاليات، إذ لم يُعتمد حسب هؤلاء المسؤولين على عُنصر الكفاءة والخبرة، وإنما كان على أساس الصداقة وأبعد عدد من الفنانين والخبراء الذين كان بوسعهم تقديم نصائح وإرشادات في المجالات الفنية والإبداعية، وهذا ما فتح النار بين مُؤيديهم والمُعارضين وجعلها تتأججُ بينهم. هؤلاء يُؤكدون أن الوزارة وبكُل أسف لم تعُد تُولي أهم مشاربع الثقافة أي اهتمام، على الرغم من حرصها على لقاء بعض الفنانين والمُثقفين في جلسات اجتماع، إلا أنها لا تُقدم لهم أي دعم. وبالتالي فوزارة الثقافة غير مُدركة للوضع الحقيقي الذي تُعانيه الساحة الثقافية في الجزائر، حيث تحولت أكثر من 286 دار ثقافة عبر كل الوطن إلى مُجرد هياكل دون روح، ما يدعُو للتساؤل حقاً عن أسباب إصرار الوزارة على "مَركزةِ" القرار التي زجّت فيه الثقافة والمُثقفين في مأزق في غياب استقلالية المؤسسات الثقافية.
تراجع عدد قاعات السينما والإنتاج السينمائي
من جهة أخرى، فإن موضوع السينما في الجزائر يبقى محل جدل كبير وواسع، على اعتبار أنه ركيزة الفن الجزائري ثقافاتها عبر السنين، فما يطرح التساؤل هو تراجع معدل تسويق السينما في الجزائر التي أنتجت 150 فيلما سينمائياً منذ الاستقلال، وهو رقم ضئيل جداً مقارنة بالميزانيات الضخمة التي تُصرف في هذا القطاع الذي لم يسجل أي تقدم حتى الآن، بل ما يحصل هو العكس، لتبقى كل الأفلام المُنتجة بمئات المليارات مُجرد أرقام لا يتعدى ظُهورها حدود العرض الشرفي بعدها يتم ضمها إلى الأرشيف، هذا ما اعتبرهُ مختصون من مُخلفات "السياسة الثقافية العرجاء" التي تنتهجها وزارة الثقافة. وفي سياق آخر يُعدُ استغناء وزارة الثقافة عن 99 مهرجانا ثقافيا من بين 176، تغييرا كبيرا في الظاهر، لكنه في حقيقة الأمر ووفقا لآراء فاعلين في المجال الثقافي، لم يأت بالجديد، والتغيير الكبير الذي تحدث عنه ميهُوبي مطولا من جهة وتطلع إليه المثقفون من جهة أخرى، قد اختلفت المواقف بين مُنتقد ومُؤيد للخارطة الجديدة التي لم تبق سوى على سبعة وسبعين مهرجانا، فهناك الكثير من انتقد الأسس والمعايير التي تم على وفقها انتقاء التظاهرات المُتبقية التي قيل عنها إنها "فارغة" ووصلت حد وصفها ب "الجهوية". فما أقدم عليه ميهوبي، تم تبريره بعيدا عن سياسة التقشف التي انتهجتها الحكومة، على أنه من غير المعقول أن تكون هُناك ثلاث تظاهرات فقط خاصة بالكتاب، في حين توجد العشرات من التظاهرات الفنية التي ليس لديها أي معنى وتعتبر تبذيرا للأموال.
مركزية التظاهرات الفنية وغياب المجتمع المدني
مازال الكثير يعتبرُ عدم وجود فعاليات مُؤثرة في المشهد الثقافي أمرا يتطلبُ مراجعة استعجالية، فالمهرجانات التي تستنفد الملايير تأثيرها ظرفي، خصوصا أن الحركية الثقافية يجبُ أن تتم في شكلين، ما يشرفُ عليها المجتمع المدني والجمعيات، وهي التي يجب أن تكون حُرة ومتعددة، فما يطرحُ التساؤلات اليوم هو ما إذا كانت هذه المهرجانات تقدم شيئا للساحة الوطنية، أم هي مجرد مضيعة للوقت وهدر للأموال، ومُجرد تعبئة لا أكثر، كذلك فتركيز الخارطة الجديدة للمهرجانات على الولايات الكبرى، وخاصة الشمالية على حساب الولايات الجنوبية التي تم إقصاؤها بشكل معلن، أثار حفيظة سكانها الذين كانوا يُعوّلُون كثيرا على التغييرات الجديدة التي تحدث عنها ميهوبي، خصوصاَ وأنهم كانوا يطمحُون لترسيم مهرجانات جهوية هناك، من شأنها تعزيز الحركية الثقافية للمنطقة، حيث تنام الصحراء على مورث ثقافي وفني كان لابُد من إستثماره والترويج له من خلال المهرجانات، فلا أحد ينفي حالة الرُكود التي تعيشها ولايات الصحراء على مدار السنة التي كانت تنتظرُ مهرجانات موسمية حتى تُنعش الحركة الثقافية هناك، لكن ومع قدوم الخارطة الجديدة، انتهت آمالهم فيما يخص مسألة النًهوض هذه. الفاعلون في المجال الثقافي اليوم لم يكونوا ضد تواجد ميهوبي على قطاع الثقافة، خصوصا أنه محسوب على النخبة كونه كاتبا ومثقفا، بقدر ما هم معترضون على سياسته كوزير مسؤول عن الكثير من القرارات، التي تبدو مُجحفة بحق القطاع حسبهم. معارضُو الوزير الحالي عز الدين ميهوبي يرون أنه كان عليه تغيير السياسة الثقافية في الجزائر وتغيير معالم خارطة المهرجانات، وهذه الاستنزافات المالية التي لا يأتي من ورائها شيء، خصوصا أن التغيير الذي يتحدثُ عنه الوزير لم يأتِ على مُستوى النوعية، ومثال على ذلك أن أغلب المهرجانات التي تم الإبقاء عليها هي تظاهرات فارغة ومركز في الولايات الكبرى والعاصمة، فيما تم إقصاء عديد الولايات التي تضررت كثيرا من الإرهاب، والتي كان من المفروض أن تستفيد من تظاهرات في إطار "التوعية" والتثقيف على غرار الشلف وعين الدفلى وتيبازة والبليدة والبويرة. إلى جانب هذا، هناك استياء أيضا من تركيز الوزارة على المهرجانات الأدبية وإقصاء المهرجانات الخاصة بالمسرح، خاصة منها تلك التي تتّجهُ إلى الجمهور، الذي يهمهُ ترسيخ المهرجانات التي لها علاقة بالفكر والأدب، خصوصا أن باقي التظاهرات خاصة الفنية منها لم تعُد تستقطبُه كثيرا، أو أنها تُهم فئة معينة من الناس. وتتمركزُ بأماكن معينة بعيداً عنهُ. أخيراً... أصبح المشهد الثقافي بالجزائر في الوقت الراهن يشجعُ فقط على ترسيخ الفعاليات التي لها علاقة بالفكر والأدب والثقافة، التي لا يوجد هناك توازنٌ ضمني بين المجالات التي تركز الوزارة على دعمها، وهذا ما يثير حفيظة المثقف الجزائري الذي مزال يتطلعُ إلى واقع آخر ومُختلف عن هذا الذي لم يجلب له سوى الركُود والإقصاء.