يقُودنا الحديثُ عن الفن الجزائري دائماً إلى أحد أهم فُصوله ، وهي الأعمالُ التلفزيُونية ، الواجهة الرئيسية بالحقل الثقافي ، فمن الواضح جدا أنها مازالت تُعاني ويلات "التقشف " والإجحاف الفني المُصابة به الموسم الفارط ، والذي لم تُسجل به أي تقدُمٍ يُحسبُ لها، عدا بعض الإنتاجات السينمائية المُحتشمة ، وهي في الغالب مُنفردةًً بدعمِ بعض الخواص لها . الكُوميديا الجزائرية ، التي عاشت عصرها الذهبي في الثمانينات والتسعينات ، وأنتجت لنا قاماتٍ فنية مازالت حتى الآن تصنعُ بهجة الجزائريين وأجواءهم الفُكاهية ، لم تعُد في حقيقة الأمركما كانت عليه ، لا بذات الطاقات الفنية المُشتغلة بها ، ولا بنفس الرُوح المُنبثقة منها ، كونُها أضحت جُزءا فنيا شبه فارغ ، لا ينتجُ لنا أي إسقاطٍ للمُسمى الذي تحملهُ ، فعلى غرار ضرورة إختيار موضوع العمل الكوميدي ، بدوره أيضاً يعتبر الفنان الجزائري أن هذه الأخيرة لديها مهمة أصعب من باقي الأعمال ، ألا وهي تحقيق فعل " الفكاهة " وطريقة تقديمها للمشاهد .فالكوميديا كُلما إقتربت من الشارع وكانت قادرة على قراءة مُشكلات الناس كلما حققت نجاحاً أكثر ، فالأهمية تكمُن بإحترافية المُخرج والمُمثل على حد سواء ، فلا يوجد مخرج جيد يختار نصاً سيئاً أو ينتقي ممثلاً لا يملكُ الإمكانات.ففي الجزائر،يشهد الإنتاج التلفزيوني والسينمائي إلى حدّ مُعين هجرة من متاهات المواضيع الجادّة والدرامية إلى فضاء الكوميديا، مدفوعاً بإستسهال هذا الفنّ الذي يزدادُ إغراؤه بالنّظر إلى صعوبة يوميات الفرد الجزائري وتنوعها بشتى الضغوطات المحيطة بها ، إذ تغلب مقالب الكاميرا الخفية والمسلسلات الكوميدية القصيرة على كثير من هذا الإنتاج ، متوسّلة سُبلاً تحيدُ بها غالباً عن جوهر الكوميديا والجوانب العميقة المتّصلة بها بوصفها نشاطاً إنسانياً صرفاً ، ورغم ما أحدثته بعض العروض من جدل بين الفنانين الجزائريين الذين يرون بأن برُوز بعض المُمثلين أكثر من غيرهم يعد جهداً شخصياً منهم وأنهُ تحقق بسبب إمكاناتهم الخاصة فيما ظٌلم أغلبهم عن طريق عدم توفر الظروف التي تسمح لهم بالظُهور. عُنصر المفارقة عند المُمثل هي من تُحدد الإثارة الكوميدية للكُوميديا الجزائرية وظائفُ لم تُصنف بعد تصنيفاً دقيقاً ، بعكس ما يحصل بالكوميديا الغربية أو العربية ، خُصوصا وأن السيناريوهات المُتعلقة بها تعتمد بشكل أساسي على العُثور على المفارقة بسلوك الشخص المُؤدي للدور المطلوب منه ، فمن أجل إيجاد الإثارة في الكوميديا لابد من وجود المفارقة ، وهذا ماكان ينطبق على الممثل القدير عريوات و فوزي صايشي وحتى المرحومة وردية والكثير من الأسماء التي كانت ترتجلُ العمل الكوميدي لدرجة تخليده بذاكرة الجزائريين ، إذ يمكنُ القول بأن أدوار عثمان عريوات الفريدة ، وقفت بوجه الكثير من المُحاولات الجديدة التي أتت من بعده ، إذ لم يستطع مُقلدوهُ أن يحققو نفس النجاحات التي صنعتها أفلامه التلفزيونية وحتى السينمائية منها ، نظير ما فعلت أدوارُ عادل إمام كمثالٍ بمصر . خُصوصا وأن دورهُ في " مخلوف البومباردي " قد تحول إلى شخصية عامة تستعمل بجميع حيثيات المواقف الجزائرية التي إرتبطت معها في أذهان الناس تصويراً لجانب من معيشتهم اليومية . اليوم يعتبرُ تراجُع الإنتاج الكوميدي في الجزائر، رغم الميزانيات المعتبرة يُعبر حقيقة عن مآزق عديدة ، أولها على مستوى النص والسيناريو الذي يعيش أزمة مزمنة ويفتقر إلى رؤية جدية به ، إضافة إلى إحتكار الإنتاج في العاصمة وحدها وحصره على أسماء ودوائر معينة دون غيرها ، رغم أنه كان موزعاً في السّابق توزيعاً يكفل ظهور جميع المواهب الفعالة بهذا النوع من التمثيل ويرعاها لغاية نُضجها ، بحيث خلق هذا الفراغ الكُوميدي فُرصة مُواتية لكوميديين جُدد يسعون بقدراتهم المحدودة لوراثة الدّور الكوميدي في الجزائر، إذ يتّخذ هؤلاء من مواقع التّواصل الإجتماعي منصة لطموحاتهم التي يعلنُون عنها بشكل مباشر ، ورغم أن مسألة التهميش تلك قد بدأت تطفو بالواقع الفني ، إلا أن إيجاد البديل ساهم في تأجيل الأحكام المُسبقة عليها . المشاهد الجزائري يفضلُ أجيال الكوميديا الأولى " البلاد " إستطلعت آراء بعض الجزائريين ، الذي إتفق أغلبُهم على أن الجيل الأول من رُواد الكوميديا أمثال المفتش الطاهرولابرانتي ، بوبڤرة و رويشد المعروف ب " حسان طيرو " وغيرهم من الأسماء التي صنعت مجد الكوميديا ، ما تزال رموزه حتى الآن تثير رغبتهم بالضحك لمُجرد مُشاهدتها في كل مرة ، حتى وإن تكررت مرات عديدة ، وذلك على عكس الجيل الجديد الذي لم يتمكن حتى الآن من تحقيق ذلك ، وما تزال المُحاولات التي يُقدمها العديد من المُمثلين تعبر عن إجتهاد فردي لا غير، حتى وإن بقيت بعض الأسماء بالوقت الحالي ممن يُغطون هذا الفراغ الكوميدي الحاصل . كما يتفقُ كثيرٌ ممن سألناهم على كون الممثل عثمان عريوات أحد أهم رموز الجيل السابق في إثارة الضحك السهل والكوميديا الجذابة، حتى أن الجميع يفتقدهُ ويفتقد حضوره الفني الذي إنقطع عنه تحديدا بعد فيلمه الشهير " كرنفال في دشرة " ، في وقتٍ فشل فيه كثيرون عن تعويضه رغم مُحاولة تقليده ، ويحن الجزائريون أيضا للمُمثلة الراحلة وردية التي لم يجدُوا عنها بديلا ، علما أن غياب بيونة التي سبق لها أن وصفت نفسها بسيدة الشاشة ، ساهم في خفُوت الكوميديا النسائية كثيرا، رغم أنه وفي السنوات السابقة شهدنا ظهورا قويا لفنانات بارزات على غرار فتيحة سلطان التي تقلصت أدوارها هي الأخرى إلى ان إنقطعت تماما ً بعد إرتدائها للحجاب ، وأيضا الممثلة فطيمة حليلو التي لم تكن عودتها قوية كما عَوّدت جمهورها عليها . غيابُ الكُوميديين هو سبب أزمة الفشل وجاء ظهور القنوات التلفزيونية الخاصة في الجزائر، ليفتح المجال واسعا لإكتشاف المواهب الفنية التي تبحث عن الظهور في مجال الكوميديا، حيث شاهدنا أكثر من برنامج كوميدي على قنوات مختلفة، فيما تستعد أخرى لممارسة الأمر ذاته مُستقبلا، حتى أن البعض تساءل ما إذا كانت أزمة الجزائريين تتلخصُ في غياب ممثلين قادرين على إضحاكهم ، أم في نوعية العمل الذي لابد من إحتواءه على أساسيات العمل الكوميدي ، إلى جانب ذلك فإستخدام اللّهجة المحلية كذلك هي من أهم عناصر نجاح الفكاهة ، وليس بالضرُورة أن يكون المُخرج جيداً بقدر ما أن تعنيه أعمال الكُوميديا وأن يتمتع بالقُدرة على إعادة صياغة النُكتة الحوارية بطريقة مُختلفة وهذا لا ينطبق على الجميع حسب المختصين ، كون الكُوميديا تتطلبُ منهُ إمتلاك حساسية عالية تجاه النُكتة ووالأخذ بعين الإعتبار درجة وقعها على المُتلقي والمُشاهد . ويتفقُ أغلبُ الفنانين والفاعلين بالوسط على أن غياب السيناريو الجيّد من أسباب تراجع الكُوميديا في الجزائر خلال الفترة الأخيرة ، فيما حمّل البعضُ القنوات الخاصة مسؤُولية تراجع الأعمال الفكاهية والساخرة على غرار إهتمامها بالدراما والسلسلات الإجتماعية . السيناريوهات الكوميدية أضحت مُملة وغير مُضحكة الكُوميديا الجزائرية أصبحت غير قادرة على إضحاك المُتفرج كما كانت في السابق ، لغياب السيناريُو من جهة ، وكذا بحث الفنان عن الجانب المادي دُون الإلمام بالجانب الإبداعي ، مايدفعُ بالمُشاهد إلى تغيير المحطة بمُجرد أن يٌصادف عملا لهؤلاء ، لعلمهِ المُسبق بأن هذا الكُوميدي لا يملكُ مفاتيح الفكاهة بقدر ما يكرسُ للرداءة ، وقد يكُون السبب المُباشر هو ضعف مُؤسسات الإنتاج السينمائي ، ولكن الأعظم من كل هذا هو نهاية مرحلة مُشرقة من الكوميديا الجزائرية ، إذ تراجعت الكوميديا الجزائرية إلى مُستوى تكرار السيناريو الذي أصبح يتميزُ بالملل ، مع غياب كُلي للإبداع لدى الكتاب ، وصُولا إلى القنوات الخاصة التي أصبحت تبحث على الكمية لتعبئة الفراغ ،عوض البحث عن أحسن السيناريُوهات وأحسن الكُوميديين حتى يجد المُتفرج نفسهُ أمام مُستوى يليقُ بمستوى هذا المجال الفني ، فبفعل كل هذا أصبحت الرداءة تنخرُ في الفن الجزائري، وتلك القنوات تتحمل جُزءا من مسؤُولية هذا التراجع إلى حدٍ بعيد، لتشجيعها على الإنتاج العشوائي دون الأخذ بعين الإعتبار إحترام ذوق المُتفرج ، وصحيح أن الممثل يلعبُ دوراً كبيراً في إنجاح العمل ولكن لا يتحققُ ذلك إلاّ مع تكامل جميع عناصره ، بدءا بالإنتاج والإخراج ، من جهة أخرى وبالحديث عن قلة النساء الذين يُؤدون الأدوار الكُوميدية في الجزائر ، يرى البعض حول ذلك بأن عمل تلك الأدوار يحتاجُ إلى جُرأة كبيرة قد لا تمتلكها كل المُمثلات ، خُصوصا وأن مُعظم أدوار النساء في هذا النوع من الأعمال تتجسد في شخصية العانس أو الفتاة غير المرغوبة ، وهذا ما لا تُفضله بعض المُمثلات من الجيل الجديد ، في حين لا يتم تقديم تلك الأدوار للوجوه الفنية القديمة التي مازالت قيد التهميش ، وكُل جهة ترى نجاحها من وِجهة نظرها الخاصة . السياسة الكُوميدية..إصرارٌ على التكرار دُون إيجاد تأدية الأدوار الكُوميديا من ناحية النتائج تعدُ سلاحاً ذو حدين ، فيُمكن أن يتم توظيفها بشكل سلبي كما لا يجب إغفال دور البيئة في هذا التصنيف فكل كوميديا تكون مؤثرة في البيئة الموجهة لها تعدُ ناجحة ، فلو أنك تعود إلى "سكاتشات" مُحمد التوري ، ستتأكد أنك أمام هيئة كوميدية، تعتمد الكوميديا كما ذكرنا على ملامحٍ مُجهزة مُسبقا للإضحاك، حيثُ يوحي لك قوامه الرفيع والذي بالكاد يكسي عظامه بكثيرٍ من الإجادة في فن الإضحاك ، وقد يُركز التُوري على إيحاءات عُيونه وبعض الحركات ليُقدم أدوراً ساخرة جدا ك "الساحر" ، و"الخاطبة" وغيرها من الأعمال التي عُرف بها . نفس الشيء بالنسبة لسيراط بومدين، ذلك الإنسان الذي آثر العزلة وإكتفى بالركض فوق الخشبة المسرحية التي كانت دُنياه ، فأعطى لعالمه هذا كل طاقته وكل وقته.كان يدركُ بأن له جمهور يحبه، فكان يكافئ هذا الجمهور بمواصلة التمثيل ويسعى لتغذية هذا الحب بما يُرضيه ولكن تلك النجاحات لم تعُد تتكرر اليوم ، هذا ما يدعو للتساءل فعلا ، ومن أجل ذلك بقيت السياسة الكوميدية المعمول بها بالوسط الفني الجزائري تؤدي لنقيضين وفقط ، ويرجعُ العارفون بأمورها أن هذا يعود بالدرجة الأولى لكون المسلسلات الكوميدية تتميز بأنها مكلفة من الناحية الإنتاجية، وتنفيذها يتطلب إلى عدة أشهر للتصوير ، بالرغم من أنه يمكنُ تصوير الأحداث في الكامل بمشهد ذي ديكور بسيط لا يتجاوزُ غرفة أو غرفتين في شقة . المُثير بالموضوع أن مُعظم الأعمال الكوميدية غالبا ما تقعُ في شرك التكرار المُمل وفشل أصحابها في الوُصول إلى الهدف المنشود وربما السبب الأكبر لفشلها يعودُ إلى إصرار هؤلاء على التركيز على إضحاك المتفرج دون الاهتمام بالمحتوى الذي وصل في بعض الأحيان إلى حد التهريج.