بعيدا عن الخطب السياسية والوعود الانتخابية التي صاحبت خرجات المرشحين الستة للرئاسيات الجارية طيلة عمر الحملة الانتخابية المنتهية آجالها قبل يومين، لم تخلوا هذه الأخيرة من مواقف إنسانية مؤثرة أحيانا أو طرائف مسلية ومضحكة في أحيان أخرى، أسهمت إلى حد كبير في كسر حالة الرتابة والجمود التي عادة ما تطبع التجمعات السياسية واللقاءات الجوارية المرافقة لنشاطات الحملة. فبالإضافة إلى كثافة الحضور الإعلامي للمرشحين المندرج ضمن سياق الدعاية الانتخابية لبرامجهم، فإن ملازمة أحدهم ليوم كامل خلال مدة زمنية تجاوزت الأسبوعين ساعدت بلا شك في التقرب أكثر إليهم وكسر حاجز الصورة النمطية المرتسمة عن رجال البوليتيك، باكتشاف جوانب شخصية متعلقة بهم طالما كانت مخفية أو مجهولة لدى وسائل الإعلام والرأي العام الوطني على حد سواء . محمد جهيد يونسي مرشح حركة الإصلاح الوطني للرئاسيات والوجه الإسلامي الوحيد فيها، أحد هؤلاء المرشحين الذين استطعنا رصد تحركاتهم وتسليط الضوء على الوجه الآخر لواحد من المتنافسين الطامحين لاعتلاء كرسي المرادية وتقلد منصب القاضي الأول في البلاد. قسما.. ''الحرافة والزوالية''.. مواقف بكى عندها يونسي لحضات نادرة تلك التي رأى فيها الجزائريون مسؤوليهم وسياسييهم يهرقون الدمع من أمام عدسات الكميرات وأقلام الصحفيين.. لازالت راسخة منها تلك الصورة الباكية التي ارتسمت على محيا الرئيس الراحل هواري بومدين ذات خطاب ألقاه عقب توليه الرئاسة، حين ذكر نضالات وتضحيات الشهداء في ثاني احتفال للجزائر بعيد استقلالها، وأخرى للرئيس والمرشح الحالي عبد العزيز بوتفليقة الذي لم يخف دموعه وهو يقبل العلم الوطني عند استقباله بمطار هواري بومدين لدى عودته من رحلة العلاج التي قادته إلى مستشفى فال دوغراس الفرنسي... يونسي كان أحد هؤلاء السياسيين المتأثرين، لوحظ وهو يبكي ويسكب العبرات في ثلاث محطات أثناء تنشيط تجمعات انتخابية وخلال محطات جوارية صاحبت نزوله إلى ولايات عدة في اتجاهات الجزائر الأربع... أولى تلك المواقف الوجدانية كانت وسط التجمع الشعبي الذي احتضنته ولاية مستغانم في سادس أيام الحملة، حيث لم يتمالك يونسي نفسه من البكاء على أنغام النشيد الوطني الجزائري الذي كان يحرص دائما في كل تجمعاته على عرض جميع مقاطعه كاملة ...'' يا فرنسا قد مضى وقت العتاب.. وطويناه كما يطوى الكتاب..'' مقطع تفاعل معه بحرارة إبن الشهيد الذي حرمته فرنسا من حنان الوالد وهو لم يزل بعد جنينا ببطن أمه في شهره السادس.. يا فرنسا قد مضى وقت العتاب.. كرره يونسي مرارا ليخاطب جمهوره الحاضر والمتفاعل داخل القاعة بلغة جمعت بين وطنية العربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد، وبين إسلامية عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي.. ثانيها كان دائما بنفس المكان والزمان والجمهور، حين تحدث عن موضوع ''الحرافة'' والأسباب التي أجبرتهم على إلقاء أنفسهم في أعماق البحر، ليتحشرج صوته وتخنقه العبرات لما ذكر مصير مئات الشباب الحراف الذين تحدثت وسائل الإعلام عن حرق السلطات الإسبانية لجثث المئات منهم دون تكفل الدولة عناء التحقيق في هويتهم.. وما زاد من تأثر يونسي حينها قيام عجوز من وسط الحاضرين تصرخ باكية لضياع فلذة كبدها في غياهب المجهول بعد محاولته ''الحرفة'' إلى الضفة الأخرى.. دمعة جهيد جاءت تعبيرا على إلمامه بملف اطلع على مرارته من منطلق أنه ابن عنابة، الولاية الأكثر احتراقا بنيران الظاهرة التي اجتاحت عددا مهولا من شباب بلدياتها . المحطة الأخرى التي أبدى يونسي فيها تأثره الكبير، كانت أيضا ناحية الغرب الجزائري وتحديدا من أحد أسواق الدلالة الواقع وسط مدينة عين تيموشنت، موقف بكى فيه بشدة وأبكى الحضور بمن فيهم بعض الزملاء الصحفيين المرافقين له في الوفد، وهو يشاهد في إحدى نشاطاته الجوارية شيخا حافيا يبيع نعليه ومجموعة من الأحذية المهترئة ليوفر بعض الدنانير علّها تسعفه في توفير لقمة عيش لعياله.. صورة أخرى لم تكن أقل إيلاما لطفل في الثالثة عشرة من عمره وهو يبيع جهاز التلفزيون الخاص بعائلته لتوفير ''مصروف الشهر'' ..عينتان من الجزائر العميقة كان لهما تأثيرهما في خطاب المترشح ابن حي ''سيدي سالم'' الذي يعد واحدا من أكثر الأحياء الشعبية فقرا على مستوى الجزائر . الصلاة وبركات شيوخ الزوايا.. أولويات في رزنامة الدكتور حرارة الحملة الانتخابية وبريق كرسي المرادية، لم يشغلا المرشح الإسلامي الوحيد في رئاسيات اليوم، عن الحفاظ على أداء صلواته الخمس في المساجد التي يمر بها أو من المكان الذي يدركه فيه وقت الصلاة...وهو ماسبب خللا في كثير من الأحيان لرجال الأمن والمشرفين على البروتوكول الذين تعودوا على قواعد بروتوكولية صارمة، ليجدوا أنفسهم في النهاية مجبرين على التقيد ببرنامج السير الجديد للدكتور يونسي الذي وضع الصلاة على رأس أولوياته.. خطوة أخرى قام بها مرشح الإصلاح لم تكن مألوفة لدى سابقيه من المرشحين الإسلاميين للرئاسيات، هي زيارة شيوخ الطرق الصوفية والزوايا في مناطق عدة من ولايات الوطن التي شملتها خرجاته، حيث لم يتوان عن زيارة الرموز الدينية لأي ولاية أو مدينة يحل بها، مثلما حاول مع الشيخ محمد الزاوي عند حلوله بولاية المدية، وفعل مع شيخ زاوية الأغواط محمد الأخضري، وكذا زيارته لمهد الطريقة التيجانية بعين ماضي والوقوف على أضرحة ولاتها وأئمتها، حيث التقى هناك أيضا بممثل عن الخليفة العام للطريقة... وحرصا منه على طلب بركة جميع الطرق والزوايا المعروفة، زار زاوية الشيخ عطا الله رائد الطريقة القادرية.. واستكمالا لنيل بركة الأولياء التي قد تكون سندا له في الوصول إلى سدة الرئاسة، لم يستثن دكتور الروبوتيك زوايا الغرب التي التقى بعدد من شيوخها وطلبة العلم وحفظة القرآن فيها. الداربي الانتخابي.. وحكم الكراتيه وهران الباهية.. محطة كانت لها نكهتها الخاصة في دورية يونسي الانتخابية نحو الغرب، فعلى وقع طبول فرق القرقبو وأنغام الترومبيت المحبوبة بقوة لدى شباب الحمري وسيدي الهواري وفومبيطا، استقبل مرشح حركة الإصلاح بكوكبة من الشباب الرياضي المتشبع بأجواء ملاعب كرة القدم المشحونة بحرارة التنافس بين الفرق المتبارية.. هذه الأجواء ألقت بضلالها على تجمع الدكتور بمدينة الباهية بسبب تزامنه مع زيارتين مماثلتين لكل من ''الرفيقة'' حنون والرئيس المترشح عبد العزيز بوتفليقة، الذي تسبب دخوله إليها في غلق الطرقات المؤدية إلى الكورنيش و''البلاس دارم'' في وجه حركة المرور، وهو ما ترك الوفد الرسمي ليونسي يقضي قرابة ساعة من الزمن يرابض على مشارف المدينة قبل أن يقرر الترجل متجها نحو القاعة التي ينتظره فيها مناصروه، هذه الأجواء أعطت لنشاطات حملة المرشحين الثلاث بعاصمة الغرب الجزائري صبغة الداربي الانتخابي المشابه للمقابلات الكروية التي عادة ما تجمع فرق النوادي الكبرى والأكثر شهرة على الساحة. يونسي أراد أن تكون خاتمة زيارته لمدينة سيدي الهواري رياضية بامتياز، مفضلا حضور عرض فني لرياضة الكراتيه قبل أن يفاجأ الجميع بنزع حذائه ودخول حلبة الصراع متخليا هذه المرة عن ثوب السياسي ومتقمصا دور حكم الكراتيه الذي أظهر من خلاله قدرة عالية بشهادة المدربتين المختصين أبرزت إلمامه بدقائق وتفاصيل قوانين رياضة الكراتيه، قبل أن يكشف للحضور أنه حاصل على الحزام الأسود من الدرجة الثانية في هذا النوع من الرياضات القتالية... ربما هي رسالة أراد يونسي توجيهها للشباب بأنه واحد منهم وهو مطلع ومتفهم لانشغالاتهم، وأخرى موجهة لرجال السياسة والإعلام بأن المتقن لفنون الرياضة والمطوع لمعادلات الفيزياء ودقائق الميكانيك بإمكانه ترويض مفردات السلطة وأدواتها.. مستلهما في ذلك مثال رئيس الوزراء الحالي لروسيا ومصارع الجيدو فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي الجديد أوباما الذي نافس نظرائه في فنون كرة السلة الأمريكية .. حين يتحول السياسي يونسي إلى رئيس تحرير ربما الشيء الآخر الذي تميز به المرشح جهيد يونسي، خلافا عن غيره من باقي المرشحين، أنه أظهر صورة احترافية في تعامله مع رجال الصحافة والإعلام المرافقين له في الوفد الرسمي، بحيث كان يحرص صبيحة كل يوم على إجراء لقاء خفيف مع الصحفيين يطلعنا فيه على برنامج الحملة وفحوى الرسائل السياسية التي سيوجهها في ذلك اليوم، بل كان في كثير من الأحيان يضعنا كرجال إعلام أمام آخر المستجدات المتعلقة بالمناخ العام لسير الحملة في نطاقها الوطني، ويزودنا بمواقف سياسية مستجدة على الساحة وإحصاءات مواقع النت والصحافة الأجنبية، بصورة وضعتنا داخل أجواء مهنية ذكرتنا باجتماعات هيئة التحرير التي تجرى بين الطاقم الصحفي صباح كل يوم جديد..ويبدو أن خطوة من هذا القبيل سهلت كثيرا على الإعلاميين عناء استجداء المعلومة من مصادر متعددة لم يكن الوقت يسمح بالوصول إليها. لذاكرة التاريخ.. نصيب لدى إبن الشهيد لم تمنع حمى التسابق نحو كرسي الرئاسة في الجزائر، يونسي من استغلال فرصة الحملة للتمتع بزيارات سياحية شملت عددا من المتاحف والأماكن التاريخية الحاملة لدلالات لا زالت محفوظة إلى اليوم في ذهن الذاكرة الجماعية للجزائريين، فكانت أولى محطاته تلك بمنزل علي لا بوانت الذي استشهد فيه رفقة مجموعة أخرى من رفقاء دربه في الجهاد، قبل أن يعرج على الوقوف ببهو المدخل الرئيسي لجامع كتشاوة الذي حوله الفرنسيون أيام استعمارهم للجزائر إلى إسطبل تبيت فيه دوابهم، ليعود بعد نيل الجزائر إستقلالها لأداء مهمته الروحية المنوطة به. قصر الرياس المحاذي لمقر القوات البحرية بساحة الشهداء، كان هو الآخر على موعد مع زيارة جهيد يونسي، التي صادفت وجود مجموعة من الطلبة الشباب الأوروبيين، والطريف في الأمر أن أحد هؤلاء سأل زميله عن هوية الزائر المترشح لما رآه من كثافة الحضور الأمني والإعلامي بعين المكان، ليجيبه الأخير بأنه رئيس الجمهورية ما خلّف ذهولا وارتباكا بدا على ملامح الشاب الأوروبي. محطة تاريخية أخرى نزل عندها يونسي لدى زيارته لولاية الأغواط، شملت عددا من القصور والمنازل العتيقة العائدة لأعيان وشيوخ المنطقة، كان لهم أثر بارز في دعم ومساندة الثورات الشعبية التي صاحبت عمر الحقبة الإستعمارية السابقة لاندلاع ثورة التحرير المباركة. خرجات أراد من خلالها الوجه الإسلامي الوحيد في هذه الرئاسيات أن تكون ضربة لعصفورين بحجر واحد تجسيدا للمثل الشعبي القائل ''حجة. وفرجه'' .