عندما يحسد الحاكم بأمره ''الأموات''·· يصاب بحمى اجتثاثهم من الذاكرة·· وعندما يخشى الأحياء يغيبهم في الأقبية على ذمة الموت البطيء·· وفي الحالتين·· هو يسرق من مساحة الأموات والأحياء·· ليضيف إلى مساحته·· ويقلص قاماتهم·· ليرفع قامته·· ويخنق أصواتهم·· ليرسل صوته· الحاكم بأمره·· يخشى المنافسة في الميادين المفتوحة·· لذا يجر منافسيه إلى المضامير المغلقة·· وكي يغش فإنه يقرر اللعب بغير جمهور أو أضواء كاشفة·· وبحكم أن جيناته السياسية مبرمجة على الإقصاء·· فإنه يركض وحيدا·· كحصان جامح يعدو في البرية·ٌٌٌ عندما أقرأ قصة شيخ المجاهدين ''عمر المختار''·· أكتشف أن العظماء لا يمتطون ظهور شعوبهم·· بل هم من يفتحون ممر الشعوب إلى أرض الحرية·· ولا يتسللون إلى السلطة خلسة·· ولا يعانون فرط التضخم المرضي للذات·· ولا يخبئون صكوك المقايضة في جيوبهم·· ولا يتشوهو ن بوهم الاستعلاء على الناس·بساطة هذا الشيخ الجليل·· هي مكمن عظمته·· وفي أقواله إضاءة لدرب الباحثين عن الحرية·· (نحن لن نستسلم·· ننتصر أو نموت)·· كان يعرف طريقه بصورة أكيدة·· وبغير اضطراب (إننا نقاتل لأن علينا أن نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة أو نموت نحن·· وليس لنا أن نختار غير ذلك·· إنا لله وإنا إليه راجعون)·· لم يرهبه الموت·· ولم يكن يخشى الهزيمة (لئن كسر المدفع سيفي فلن يكسر الباطل حقي)·· كان يعلم (أن الظلم يجعل من المظلوم بطلا·· وأما الجريمة فلابد من أن يرتجف قلب صاحبها مهما حاول التظاهر بالكبرياء)·· لذا استشهد قويا·· هزم أعداءه وهو مغلول اليدين·· والسلاسل تثقل رجليه·· (سوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم·· أما أنا فحياتي سوف تكون أطول من حياة شانقي)·· الروح تنتصر وإن انهزم الجسد·ٌٌٌليبيا اليوم تحترق بريع نفطها·· وعاصمتها لا تتسع إلا لجنون قاتل·· يتوارى خلف كتل الاسمنت المسلح·· أفسد أزيد من أربعين عاما·· وحين ثار الناس عليه·· قضى أن يحرق كل شبر من ليبيا بالنار·في خيالي·· قد يعود عمر المختار·· في جولة سريعة لزيارة ليبيا الحرة·· ينظر في وجوه أبنائها·· يسأل عن شجرة الحرية التي سقيت بدمه·· عن قبره·· وعن التاريخ·· وأحلام الليبيين·· وألوان العلم الوطني·· عن الأسماء والأماكن·· فهل يجد شيئا؟ٌٌٌ سيقرأ لافتة عجيبة·· لم ترد الإشارة إليها في قواميس الدول (الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى)·· تلفيق لفظي ضخم·· لعنوان يخلو من أي محتوى·· جماهير واشتراكية·· وعظمة جوفاء لا رصيد لها في الواقع·يجد أن حجم ليبيا·· لا يتجاوز طول خيمة انتقلت إليها البادية·· ولم تنتقل هي إلى البادية·· تنحشر فيها أوهام وترهات لا حصر لها·· من ملك ملوك إفريقيا والعالم·· إلى الزعيم الذي لا منصب له·· إلى عصر الجماهير التي بيدها النفط والسلاح والسلطة· بدل الدستور وتشريعات الدولة الحديثة·· كتاب أخضر·· ليس فيه ما يقرأ·· لا نظرية ثالثة·· ولا فكرة جديرة بالاهتمام·· سوى ما يعنيه شركاء في البؤس المسلط على الرؤوس·· وأجراء بالإكراه لدى نظام مستبد· وبدل المؤسسات المنتخبة·· ثمة لجان شعبية·· هي أشبه بعصابات المافيا·· تتقاسم دولة بعنوان الحارات والطرقات·· وتنشر سطوها باسم الثورة· وبدل العلم التاريخي·· قطعة قماش خضراء قد ترضي غرور زعيم·· لكنها لا ترمز إلى شيء ذي معنى·ٌٌٌ بحساب السنين·· سيجد أن أربعين سنة من عمر الشعب الليبي·· قد تبخرت في عصر الجماهير·· حيث فرض على الناس أن يسيروا إلى الخلف·· إلى نقطة بداية وهم الزعيم·حلم الاستقلال·· ليس أكثر من كابوس تولت كتائب القذافي تنفيذه في الميدان·· وشجرة الحرية التي روتها دماء الشرفاء اقتلعها القائد العظيم·· بمعية أنجاله الكرام·· من سيوف الإسلام والعرب·· ليغرسوا بدلها شجرة الفاتح العظيم·· التي أوتيت أكلها·· وفاض نعيمها من صواريخ ''فراد'' وشظايا القنابل العنقودية·سيسأل عن الشموع التي أضيئت بزيت الشهداء·· من أطفأها؟لن يعدم الجواب·· ثمة من أطفأ الرؤوس وما فيها من بقايا أحلام وآمال·· وبيده أن يعلن الحرب على الجرذان من بقايا شعب·· نصفه هارب إلى أي مكان·· ونصفه محكوم عليه بالإعدام·ٌٌٌ في آخر الطواف·· سيطلب رؤية ضريحه في بنغازي·· حيث أعيد دفنه في عهد الملك السنوسي·· فهل يجد له أثرا؟ سيخبره آخر حفيد له·· أن القذافي نبش قبره في ,.1980 لينقل رفاته إلى بلدة سلوق·· بعيدا عن بنغازي·· حيث لا يتسنى لضيوف الشرف زيارة قبره·· ففي ليبيا مكان واحد يجب أن يزار·· وتحرق عند أقدامه البخور·· هرم القذافي الكبير·· الذي سيحيا للأبد· ٌٌٌ لاشك أن شيخنا·· سيحزن كثيرا·· ويتألم كثيرا·· حين يختبر مآل ميراث مجيد·· إلى يد عابثة· سيكتشف أن الإيطاليين شنقوا جسده·· أما القذافي فحاول خنق روحه·بيد أن قبسا من نور·· ينبعث من أجساد محترقة·· تعبق بها مصراته الجديدة·· سيبدد الظلام الكثيف الذي ألقاه القذافي على ليبيا·· وحاول زرعه في النفوس· صحيح أن الشهداء لا يعودون·· لكن الشجرة المنبثقة من أجسادهم لا تموت أبدا·