للمرة الثالثة يسقط زعيم عربي وتنكشف أسرار قلاع الصمت، في تونس سقط النظام الذي أثار إعجاب الرئيس بوتفليقة، وتونس بن علي كانت أيضا محل إعجاب غالبية المسؤولين الجزائريين، وفي شمال إفريقيا دائما سقط فرعون مصر، العدواللدود للسياسة الخارجية للجزائر· وفي الجوار ها هونظام العقيد القذافي يسقط، بل يتهاوى بخلاف الكثير من التوقعات التي أبداها محللون من الجزائر أوخبراء توقعوا ربما انتصار العقيد على خصومه في بنغازي، بينما توقع البعض دولتين الأولى عاصمتها التقليدية طرابلس والثانية عاصمتها بنغازي، لكن توقعات المحللين أسقطت إرادة الشعوب التي تقهر الجيوش والمخابرات والقمع والبوليس بحيث أنه ومع كل حالة ظلم يزداد جبل الثورة ارتفاعا إلى أن ينفجر بركان الغضب وتسقط العواصم والأنظمة كما حدث في تونس ومصر وليبيا وسيحدث في اليمن أو هو واقع لا محالة وسيقع في سوريا التي سقط بشارها معنويا وسيسقط فعليا بعدما أراق دماء السوريين الغاضبين من حكمه، وبعد سوريا يتساءل البعض: هل يأتي دور الجزائر؟ مصر ليست تونس وليبيا ليست مصر والجزائر ليست ليبيا·· يقول المسؤولون عندنا إن الجزائر ليست تونس أو مصر أوذ ليبيا أو اليمن تماما مثلما قال وزير خارجية مصر السابق قبل الثورة إن مصر ليست تونس، ثم قالها سيف الإسلام القذافي على المباشر، ليبيا ليست تونس ولا مصر وها هو بشار يقولها سوريا ليست تونس ولا مصر ولا ليبيا وسيقولها من بعده كل حاكم أو نظام مغتر لا يريد التغيير العميق ولا الاعتراف بأن زمن القبضة الحديدية ولّى· في الجزائر يقول البعض إن النظام سينهار عاجلا أو آجلا بينما يرى البعض الآخر أن تجربة الفيس المحل والإرهاب الدموي الذي نكل بالجزائريين وسقوط ربع مليون جزائري خلال التسعينيات كلها عوامل ستؤدي إلى انصراف الجزائريين عن فكرة الثورة الشعبية زيادة على أن النظام في الجزائر ليس بتلك البشاعة التي كان عليها نظام القذافي أومبارك أوبن علي ·· هذا القول يدحضه الكثير من المعارضين حينما ترى جبهة القوى الإشتراكية أن النظام في الجزائر شمولي ولا يختلف عن باقي الأنظمة العربية الأخرى وأنه يخالف التيار بل ومرتبك وخائف وتتقاطع في هذا الطرح مع بعض الأحزاب الأخرى التي لا تثق كثيرا في السلطة كحركة جاب الله وسعيد سعدي الصديق الحميم لباريس ولبرنار ليفي، إضافة إلى أن هذا الرأي تؤيده بعض القوى النقابية المستقلة، لكن لا أحد من هؤلاء دعا إلى العنف بل إن القوى السياسية في الجزائر دعت إلى تغيير االنظام بواسطة الإصلاحات السياسية وأن على الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مثلما يشيرون الإعلان عن إنشاء مجلس تأسيسي مهمته إعداد دستور جديد للبلاد وبناء دولة ديمقراطية عصرية بما يجنب البلاد مطبات رياح التغيير العنيف التي ستدق أبوابنا لا محالة· ويرى هؤلاء أن أمام الرئيس بوتفليقة فرصة تاريخية تسجل اسمه ضمن سجل قد ينفرد به وحده في تاريخ العالم العربي ليعلن عن بدء التغيير الشامل من العمق ومن بدايته· في المقابل ترى أحزاب السلطة والجمعيات التي تدور في فلكها أن الجزائر ليست تونس ولا مصر ولا ليبيا ولا اليمن ولا سوريا ولا أي بلد آخر في العالم، فنحن دفعنا ما يكفي قديما وحديثا وأن الرئيس بوتفليقة يحظى بإجماع غالبية الجزائريين وأنه صاحب السلم والوئام وأنه نجح فعلا في إعادة الأمن وتضميد جراح الجزائريين·· لكن هل تندلع الثورة في الجزائر؟ هل تنتقل عدوى الجبهة الاجتماعية إلى السياسة؟ تعمل الحكومة منذ أحداث الزيت والسكر التي اندلعت في الخامس من شهر يناير جانفي 2011 على منع تحول الاحتجاجات ذات المطالب الاجتماعية إلى مطالب سياسية، بينما يتوقع بعض السياسيين أو يحذرون من ذلك وهذا على النحو الذي أعلنته زعيمة حزب العمال لويزة حنون في أكثر من مرة من تحول الاحتجاجات الاجتماعية إلى غضب سياسي عارم قد يعصف بالنظام القائم ويزج بالبلاد في أزمة من الصعب الخروج منها، ووسط الهاجس الأمني ”القاعدة ومخاطرها” ومخاوف من المد الثوري ”تونس وليبيا” على وجه الخصوص، وهواجس من دعم خارجي لتحرك داخلي، لاتزال السلطة في الجزائر تقطع مسار الإصلاحات بخطى متثاقلة، تماما كما هو الحال عليه فيما تعلق بالموقف الذي سار عكس تيار المجتمع الدولي بحسب آلان جوبي مثلا الذي وصف الموقف الجزائري من الثورة الليبية بالملتبس، هذه الحالة قد تدفع بالراغبين في خوض غمار تجربة الثورة الشعبية إلى المزيد من التحرك خصوصا خارجيا على ضوء الموقف الفرنسي ووجود تربة خصبة لدفع خارجي من الناتو ومن دول عربية عدة أبرزها المغرب وتونس وليبيا ومصر وبلدان أخرى قد تؤيد أي تململ داخلي، على ضوء التجربة الليبية والتونسية والمصرية، عندما تخلت القوى الكبرى عن مبارك وعن بن علي وتخلى برلسكوني عن صديقه التاريخي القذافي، وهو ما يؤكد أن لا أحد يضمن صداقة رئيس لرئيس أونظام لنظام، لدرجة أن إيران مثلا ·· ها هي تتفاوض مع المعارضة السورية سرا حول موقع المقاومة وموقع حزب الله من خارطة أي تغيير مستقبلي في سوريا· المجلس التأسيسي أو الإصلاحات الحقيقية ما وجب التنبيه إليه أن التربة الخارجية مهيأة للاستغلال أو التحرش السياسي تحت الضغط العسكري أو لنسمه كيفما شئنا، المهم أن الغرب على استعداد لتكرار التجربة الليبية في أي بلد عربي آخر لتحسين صورة زعمائه وقادته السياسيين أمام شعوبهم، إلا أن الرأي الغالب عندنا أن الجزائريين لا يريدون المغامرة بالدخول في نفق مظلم على الطريقة التي دخلتها بعض الثورات العربية، لذلك يتحلى الشعب الجزائري اليوم بصبر أيوب، وهو بذلك يمنح الوقت الكافي للسلطة من أجل إبداء حسن النية وتجسيد الإصلاح أو التغيير الحقيقي لدرجة أن زعيمة حزب العمال لاتتردد في التفاؤل مؤخرا بقرب السلطة من قرارات مصيرية، يرى البعض أنها لا تخرج عن دائرة الإعلان عن حل المؤسسات القائمة، وإنشاء مجلس تأسيسي وهو مطلب القوى ذات الوزن الثقيل في الجزائر كجبهة القوى الاشتراكية وقطاع واسع من السياسيين المخضرمين كعبد الحميد مهري مثلا إضافة إلى حزب العمال، وقوى سياسية يمكن أن تذهب في هذا الاتجاه إذا ما أعلن الرئيس بوتفليقة قرارا كهذا، لكن البعض يتحدث عن طرف آخر غير معلن يمكن ألا يذهب نحو التغيير على طريقة المجلس التأسيسي، وأن ثقافة الإدارة الجزائرية المبنية على الولاءات الفئوية وبعض الأحزاب المتكلسة التي تصنع شعبيتها من التزوير لن تسمح بتغيير حقيقي، وتتوقع أطراف سياسية وأخرى متابعة للوضع في الجزائر أن تنصرف رياح التغيير إلى وجهة أخرى أو أن يخفت صوتها، وإلى ذلك الحين يمكن ربح الكثير من الوقت بواسطة الإصلاحات المعلنة والتي لن نعرف ثقلها وأهميتها إلا باستكمال كافة المشاريع من قانون الانتخابات والأحزاب والإعلام والتعديل الدستوري، لكن مؤشرات سبقت هذا الأمر وأثارت مخاوف المعارضة والصحافة، حيث أظهرت بعض التسريبات قصر مشاريع الإصلاحات وتعارضها مع الوعود التي قطعها الرئيس، وهو ما قد يؤكد صحة وجهة نظر القائلين بوجود طابور خامس يقطع الطريق أمام أي انفتاح حقيقي، في هذه الأثناء تفند الدوائر الرسمي وجود سلطة موازية أخرى يمكن أن تعرقل هذا المسعى، فضلا عن ذلك فإن الجزائر تمكنت من بناء المؤسسات القوية التي تجنبها التداخل في الصلاحيات، بعكس ما كان عليه الوضع في بلدان أخرى عرفت ثورات شعبية بسبب الاستبداد والظلم بل وغياب نظام سياسي واضح· ووسط التضارب في المواقف والتحليلات يبقى الترقب سيد الوضع في الجزائر، خصوصا وأن المحيط الإقليمي عقّد من مهمة التحكم أكثر في الجبهة الداخلية التي باتت أكثر تأثرا بما يحدث في الجوار، ناهيك عن مخاطر الجماعات الإرهابية والقتل الدموي الذي عاد إلى يوميات الجزائريين مؤخرا كلها عوامل تجعل من الصعب على أي حكومة أو سلطة في الجزائر التحكم في زمام الأمور بالقدر الذي يجنبها مطبات ما يحدث في العالم العربي، لكن من شأن الإصلاح الجوهري أن يوقف أو يكبح جماح المعارضين الذين يسعون إلى عدم الزج بمطالبهم في الوعاء الحزبي أو الإيديولوجي بعدما تبين أن الثورات العربية نجحت لسبب واحد هو غياب الاستخدام الحزبي للمتظاهرين أو اللون الإيديولوجي في الرايات التي رفرفت في ساحات وميادين التغيير· التحايل على إرادة التغيير بات مستحيلا: الجزائر إذن ليست في منأى عما هو عليه الوضع في الدول العربية التي تعرف أو عرفت حراكا شعبيا، مادامت نوايا التغيير الحقيقي غائبة، وعندما يلمس الجزائريون إرادة التغيير في الإصلاحات المرتقبة التي يتوجب تسريع وتيرتها اليوم قبل غد فإن فتيل الانفجار يسحب آليا، لأن ما حدث في الدول العربية الأخرى أكد أن الاتكال على حلفاء الخارج لأي نظام ورقة خاسرة حيث الدول الخليجية مصممة على الإنفاق أكثر وأكثر من أجل التموقع وقيادة العالم العربي بدلا من الزعامة التقليدية لمصر، وحيث دول الخليج تتضامن ملكيا مع بعضها البعض بينما لا تتردد في مساعدة أي حراك يحدث في الجمهوريات، وحيث الناتو والغرب مستعدان لدعم أي ثورة شعبية لقلب الطاولة على الأنظمة العربية القائمة خصوصا الجمهورية، وحيث إن وضعنا ليس بالقدر الذي يمنح السلطة مناعة سياسية ضد أي حراك داخلي فإن الحل يكمن في إرادة التغيير والإصلاح الحقيقي الذي يأتي من الداخل وهو ما تنادي به غالبية القوى السياسية في الجزائر، وما يأمل الشعب في أن تحققه السلطة والطبقة السياسية بنوايا صادقة ·· صادقة ··· صادقة·· لأن التحايل على إرادة التغيير بات مستحيلا·