تطرح المجزرة المروعة التي ارتكبها الفرع المغاربي للقاعدة بشرشال أسئلة جدية حول التصعيد الأمني المتواصل وعودة التفجيرات الانتحارية، وهي تؤكد مرة أخرى بأن أمام الجزائر فصولا أخرى من المواجهة مع المجموعات الإرهابية التي يبدو أنها قد وجدت في المستنقع الليبي أكبر محفز لها، في ظل التحامل المتواصل للمعارضة المسلحة في ليبيا على الجزائر. لم تفاجئ العملية الانتحارية التي استهدفت ضباط الجيش الوطني الشعبي بالأكاديمية العسكرية لمختلف الأسلحة بشرشال، والتي خلفت، حسب حصيلة أولية، مقتل 16 ضابطا ومدنيين اثنين وجرح العشرات، الكثير من المتتبعين للشأن الأمني، فالاعتداء جاء في إطار تصعيد أمني واضح شرعت فيه زمر تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي منذ بداية شهر رمضان، فالتفجير الانتحاري المزدوج ببرج منايل ببومرداس والاعتداء الانتحاري الذي استهدف مقرا للأمن الحضري وسط مدينة بتيزي وزو، فضلا عن العمليات الكثيرة التي تم إحباطها أكدت كلها بأن جماعة عبد الملك درودكال تبحث عن تسجيل صدى إعلامي وكسر الطوق المضروب حول معاقلها ومحاولة زرع الشك في التدابير الأمنية المطبقة منذ سنوات، خاصة فيما يتصل بالوقاية من التفجيرات الانتحارية. ورغم خصوصية شهر رمضان، سواء على المستوى الاجتماعي الأمني والسياسي، ورغم أهمية الأحداث الوطنية في ظل الجلسات الوطنية التي خصصها الرئيس بعبد العزيز بوتفليقة لبعض القطاعات الوزارية، فضلا عن الكشف عن مضامين بعض النصوص القانونية المتعلقة بحزمة الإصلاحات السياسية التي يرتقب تنفيذها، فإن المواجهات الدامية في ليبيا قد طغت على المشهد السياسي الدولي وحتى الداخلي، فوصول المعارضة المسلحة في ليبيا إلى طرابلس والإعلان عن قرب نهاية نظام معمر القذافي لم ينه تحامل ما يسمى بالمجلس الانتقالي الليبي على الجزائر، وكل المؤشرات توحي بأن ورثة العقيد ليسوا سوى حلقة من حلقات سيناريو التعفين الذي أعد لبعض البلدان العربية ومنها الجزائر، وهو ما يؤكد مجددا بأن ليبيا الغد ليست ليبيا الديمقراطية كما قد يعتقد البعض وإنما قاعدة في خدمة إستراتيجية غربية في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا والساحل الصحراوي. فدخول المعارضة المسلحة تحت جناح الحلف الأطلسي إلى طرابلس وبدء عملية مطاردة أركان النظام الليبي وعلى رأسه العقيد معمر القذافي جلب انتباه العالم، و أصبح الجميع يترقب النهاية الوشيكة لمعمر القذافي وأنجاله تحت ضغط سؤال كرره الكثير من الناس، أي مصير سيحظى به الزعيم الليبي، هل هو مصير الرئيس العراقي السابق صدام حسين أم مصير زين العابدين الذي ترك تونس هاربا نحو السعودية، أم مصير حسني مبارك في مصر الذي زج به وأبنائه وأركان نظامه في السجون. المؤكد أن المشهد الليبي مختلف تماما، فرغم أن نظام العقيد معمر القذافي لا يختلف في استبداده عن باقي الأنظمة العربية الأخرى، الجمهورية منها أو الملكية، وإن تميز عن الكثير من هذه الأنظمة بمواقف قومية لا لبس فيها، تختلف عن تلك التي تبنتها قوى الانبطاح العربي ، خاصة خلال الحرب العربية على لبنان وعلى قطاع غزة، إلا أن ذلك لن يغير على ما يبدو من الفصل الأخير من المسرحية، فقد ينجو القذافي بجلده، أو يفر إلى بلد من البلدان التي تقبل إيواءه، أو يجر كالشاة إلى حبل المشنقة في طرابلس أو المحكمة الجنائية الدولية التي تخصصت في محاكمة حكام العرب، بدل محاكمة بوش وحكام دويلة بني صهيون الذين ارتكبوا أبشع الجرائم بحق الإنسانية. ولعل ما يلفت الانتباه في هذا الفصل الأخير من المشهد الليبي البائس، هو تصاعد التحامل على الجزائر، فوصول من يسمون ب »الثوار« إلى طرابلس لم ينس جماعة بن غازي قصة المرتزقة، فراح هؤلاء يزعمون في البداية بان القذافي فر إلى الجزائر، وادعوا بأنهم رصدوا مكالمة هاتفية للعقيد من الجزائر، وواصلوا العزف على نفس هذه الأغنية المملة حتى في ظل ورود تقارير مؤكدة بان القذافي لا يزال في ليبيا وأنه لم يفر كما يزعم عبد الجليل وجماعته وأنه يقود بنفسه القتال ضد المعارضة المدعومة من قبل الحلف الأطلسي. وبطبيعة الحال فإن الإشاعات التي روج لها البعض، خاصة منسق المجلس الانتقالي من لندن بوجمعة القماطي، حول فرار القذافي إلى الجزائر لم تكن بريئة بل كان هدفها الأساسي هو إظهار الجزائر كحليف لنظام العقيد معمر القذافي، ومن ثمة برمجة ليبيا على المدى المنظور للمساس بأمن واستقرار الجزائر، وإشراكها في أي فتنة تستهدف الجزائر. وأما على المدى المتوسط والبعيد فإن ليبيا سوف تتحول إلى حلقة من حلقات الإستراتيجية الغربية بمنطقة شمال إفريقيا، فالعمق الليبي سوف يستغل لا محالة من قبل باريس وواشنطن للولوج إلى منطقة الساحل الصحراوي، وندرك جيدا طبيعة الرهانات الأمنية والعسكرية والسياسية وخصوصا الاقتصادية التي تتوفر عليها منطقة الساحل، فهنالك من جهة القاعدة التي توسع نفوذها بالمنطقة منذ اندلاع المواجهات في ليبيا، وهناك التوتر في شمالي مالي والنيجر بسبب حركات الطوارق المعارضة، وهناك باطن الأرض الذي ينام على احتياطات ضخمة من النفط واليورانيوم والذهب. بغض النظر عن البيانات الوهمية التي تنسب لخارجيتها، فإن الجزائر لن تعترف في الوقت الحاضر بالمجلس الانتقالي الليبي في ظل عدم وجود ضمانات أكيدة بان هذا المجلس لن يتحول إلى أداة لهتك سيادة الجيران، وأنه لن يتحول إلى أداة لتوسيع نفوذ القاعدة ومدها بالرجال والمال والسلاح، وحتى وإن اعترفت الجزائر بجماعة عبد الجليل فإن ذلك لن يمنع هذه الجماعة على ما يبدو من المشاركة في أي سيناريو لهتك أمن واستقرار الجزائر، وهناك أكثر من دليل يؤكد هذه الحقيقة، وما يروجه البعض حول انفجار اجتماعي وشيك قد يكون في منتصف الشهر المقبل أو أكتوبر القادم يندرج ضمن المحاولات المتكررة لتحريك الشارع الجزائري، رغم الإصلاحات السياسية والدستورية التي أعلن عنها الرئيس بوتفليقة، ورغم خصوصية الجزائر التي صنعت »ثورتها الديمقراطية« منذ أكثر من عقدين، ووضعها الأمني المميز، وابتعاد نظامها عن الحكم الفردي المستبد الذي حرك الشارع التونسي والمصري والليبي واليمني والسوري. الذي يستمع لبعض السياسيين والدبلوماسيين الغربيين، كما هو الشأن للسفير الأمريكي في الجزائر، الذي حاورته »صوت الأحرار« خلال الأسبوع المنصرم يخيل له بأن الجزائر معفية من سيناريو التأزيم العربي، ويعتقد جازما بأن الغرب وعلى رأسه أمريكا راض عن الجزائر، وهذا غير صحيح بطبيعة الحال، وحتى وإن أكد هنري إنشر بأن هناك حاجة للدور الجزائري لتفادي كارثة حقيقية في ليبيا، فإن ما يصدر من تصريحات من بنغازي وما يقوم به من يسمون بالثوار على الأرض يفيد عكس ذلك تماما، مع أن أمريكا وحلفاءها في أوربا يدركون جيدا طبيعة الدور الذي قامت به الجزائر ولا تزال تقوم به في إطار المواجهة مع الفرع المغاربي للقاعدة، وأي محاولة لإضعاف الجزائر يعني بالضرورة تقوية شوكة تنظيم القاعدة ببلاد المغرب، ومن ثمة إعادة الأمور إلى نقطة الصفر. الجزائر فيها معارضة تتخذ أحيانا مواقف مناقضة حتى للمواقف الرسمية المتعلقة بالسياسة الخارجية للدولة، وهذا نادر وجوده حتى في العديد من الأنظمة الديمقراطية التي توصف بالعريقة، ودعم حركة حمس والأفافاس لمن يسمون بالثوار في ليبيا هو أحسن دليل على ذلك، ثم إن هذه المعارضة تعبر بمنتهى الصراحة عن مواقفها من إصلاحات بوتفليقة، وهاهو حزب العمال ينتقد بشدة مضمون هذه الإصلاحات ويصفها بالأمنية وأنها ترهن التعددية في البلاد رغم أن ما سرب لحد الساعة هي مضامين مشاريع لم يتم الانتهاء من تفصيلها، ثم إن الحكومة التي اتهمت منذ أيام من تفصيل قانون قمعي لقطاع الإعلام، ها هي توصي وزارة مهل بأن تحذف كل ما يتصل بالسجن في جرائم النشر تنفيذا للوعود التي قطعها بوتفليقة في خطابه للأمة. وفي ظل الجدل المتواصل حول الإصلاحات السياسية والدستورية، بدأت الأنظار تتوجه منذ الآن نحو الدخول الاجتماعي القادم والذي يكون صعبا حسب الكثير من المحللين.