تسريح..مساومة..استغلال...تهميش..بأية حال عدت يا عيد العمال يحيي الجزائريون عيد العمال هذا العام وسط واقع أصعب من العام الماضي. فإذا كان المحظوظون بمنصب عمل أو مسار نقابي، فإن السواد الأعظم من الجزائريين مازالوا يعانون من تدني القدرة الشرائية واقتراب فئات عريضة من المجتمع وفي مقدمتهم الشباب من خطوط الفقر. فالعطالة أصابت الورشات الوطنية والبطالة أنهكت سواعد الشباب الذي يبحث عن منفذ للموت البطيء على قوارب الموت أو تحت الشمس الحارقة وظلال الجدران لبيع السجائر أو التنقيب في المفرغات العمومية والمزابل بحثا عن لقمة اليوم التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وفي أحسن الأحوال إجهاد النفس في ظل جيب ينتظر زيادات في منح المتقاعدين وقفة العاملين تحتضر في شهر ماي من كل عام، يستقبل العالم الفاتح منه باحتفالية ضخمه يصطلح عليه بعيد العمال. هو اليوم الذي اختير لتكريم الطبقة العاملة وتثمين مجهوداتها وإبراز الأحداث التي صنعتها نضالات العمال، هو الموضوع الذي كان وسيظل على رأس المواضيع التي تستأثر باهتمامات المواطن وعنايته. فعندما نتحدث عن موضوع عيد العمال يتبادرإلى الأذهان أن هذه الفئة تتمتع بكامل حقوقها في زمن التشريعات والقوانين التنظيمية التي يفترض أن تتماشى ومستجدات الواقع ومقتضيات المجتمع. لكن تبين أن الحقيقة عكس ذلك، لأننا اصطدمنا بواقع أليم ومؤسف يثير كل شجون الإحباط واليأس في وقت صارت فيه الأحلام والطموحات ضربا من الحلم البعيد المنال. هي الحقيقة التي يجب أن تقال ولو بمرارتها. إن ظروف العمل اليوم تفوح بأشنع ظواهر الظلم والتمييز والقهر والضغط وجحود القدرات والكفاءات. إنه واقع محزن والحقيقة مرة، فبأي الظواهر نبدأ، وبأي الآلام نستشهد؟ قد تكثر التعابير والأوصاف، لكننا نحاول قدر المستطاع أن نتناولها بموضوعية. ولهذا فقط ارتأت ''البلاد'' نزول الميدان، ونقل واقع الطبقة العاملة ورصد آراء واهتمامات المواطن الجزائري، أو بالأحرى العامل الجزائري في مثل هذا اليوم. كرامة وحقوق العمال المستخدمين إلى أين.. ؟ ''البلاد'' وفي رحلتها لبحث هموم وانشغالات العامل في يومه هذا، تقربت من بعض مصانع وورشات العمل الموزعة بالعاصمة والولايات المجاورة. البداية كانت من ولاية تيبازة التي تضم كبريات ورشات البناء، تعمدنا الحديث مع العمال كفرصة وحيدة تمكن هؤلاء من سرد ظروف عملهم، كما كانت فرصة لنا لنقاسمهم وجبة غدائهم المحصور في قارورة مشروبات غازية وقطعة خبز. ورغم الأسئلة الكثيرة التي وجهناها إليهم بخصوص احتفالات عيد العمال والانشغالات التي تهمهم في هذا اليوم، إلا أن همهم الوحيد كان منصبا على تسوية وضعيتهم المهملة، حيث كشف الطيب 45 سنة وأب لثلاثة أطفال، قائلا: ''إن مثل هذه الأعياد لا تعني لنا شيئا نحن الطبقة الضعيفة، لأن همنا الوحيد هو كيف نحصل على قوت أبنائنا، متحملين في ذلك كل أنواع الاستغلال والتهميش. نحن عمال نمثل العديد من ولايات الوطن، اجتمعنا هنا على لقمة العيش''. الشاب عيسى من ولاية الشلف لم يتعد 24 سنة، يقول إنه يتحمّل كل أنواع التضحيات والمخاطر في سبيل عائلته المتكونة من 10 أفراد، لأن المنطقة التي يقطنها، يقول عيسى ''تخلو من مناصب العمل، حتى أثرياء المنطقة يحتارون في كيفية استثمار رؤوس أموالهم''. وبين راض وساخط حيال الوضع الذي اتفق الجميع على أنه استغلال واضح للطاقات الشبانية بل وحتى الكهولية، التقينا في إحدى ورشات بناء بودواو عمي معمر 57 سنة. وبكل نفس راضية يقول إنه ورغم صعوبة العمل والإجحاف في الرواتب وغياب التأمين وانعدام المأوى.... لا يسعنا إلا الصبر والتحمل، لأن صوتنا نحن الضعفاء يبقى غير مسموع''. المعاناة الصامتة دخلنا أحد مصانع مواد التنظيف بباب الزوار، فبدا لنا كأنه مصنع خياطة لأن غالبية العمال نساء. وقد أكدت العاملة سعاد الملاحظة التي سجلناها قائلة: إن عمال المصنع أغلبهم نساء، والسبب في ذلك يعود إلى طاقة تحملنا نحن النساء أكثر من الرجال، خاصة عندما يتعلق الأمر بالراتب الشهري الذي لا يزيد في هذا المصنع على 6000 دج. الملاحظة نفسها سجلناها عند زيارتنا العديد من المصانع الموزعة عبر المناطق الصناعية بكل من القليعة وبواسماعيل، حيث كشفت أمينة العاملة بمصنع البلاستيك ''إن قساوة العمل لا يتحملها حتى الكائن الحيواني، بسبب الكوابيس التي نعيشها بين اليوم والآخر''. وهن كثيرات ممن شاطرن أمينة االرأي في موضوع التحرشات الجنسية التي تلاحقهن في كل مرة وفي كل مكان. فقد أصبح مكان العمل يشكل اليوم فضاء قاتما ضاق بالمرأة العاملة التي تقضي فيه ساعات وهي محاصرة بنظرات خبيثة وكلمات مساومة تهمس بحميمية وقحة في آذانها رغما عنها. تقضي في هذا المكان ساعات تبدو طويلة جدا وهي تحت الحصار الجسدي والتهديد بالطرد من العمل في أي لحظة، إذا ما رفضت الخضوع. تقول أمال، 44 سنة، سكرتيرة لدى مدير عام بشركة خاصة ''منذ أزيد من ستة أشهر أعيش حالة قلق وتوتر دائمين بسب تصرفات مديري الدنيئة. وبحكم أنني سكرتيرته الخاصة فأنا أقضي ساعات معه كل يوم في المكتب أقضيها في التفكير في اختلاق طريقة لتجنب نظراته الوقحة، مما أثر سلبيا عليّ، فحتى عندما أدخل بيتي لا أتخلص من العصبية، وكثيرا ما يعود ذلك سلبيا على ابنتي اللتين لا ولي لهما ولا مسؤول عنهما غيري''. ولعل الحاجة وضرورة العمل والمسؤوليات العائلية هي التي تفرض على المرأة الخروجئ للعمل وتحمّل ظروف قاسية. وتضيف أمال متأسفة ''كنت أسمع عن هذه المساومات، لكن لم أكن أتصور يوما أن أكون الهدف، لأن مديري السابق لم يتجاوز يوما حدوده معي''. تصمت محدثتنا ثم تستطرد ''أحسست أن شريانا ما سينفجر، وأن ضغط دمي قد ارتفع، ورغبت لو أقبض عليه بيدي وأخنقه، رغبت في أن أصفعه. ولكن في الأخير تراجعت عندما تذكرت ابنتي والمسؤولية الملقاة على عاتقي. '' وقبل أن تكمل أمال حديثها تجهش بالبكاء ثم تسترجع أنفاسها لتستأنف الحديث أو بالأحرى الفضفضة. وتقول إنها أخذت بعين الاعتبار كل العادات والتقاليد التي تربيت عليها في هذا المجتمع خاصة أنني أرملة، لكن المجتمع لم ينفعني ولا رد عني ظلم مديري لي خاصة إذا تعلق الأمر بكرامتي وشرفي. أمال ليست الأولى ولا الأخيرة ممن يعانين الظاهرة في صمت، بل هن كثيرات. لكن قد تكون الحاجة وأحيانا الخوف يجعل العاملة تتحمل المعاناة، وتعيش الكابوس بمفردها. هكذا يبقى التحرش الجنسي واحدا من كوابيس المرأة العاملة التي يطاردها بشكل مؤذٍ، رغم أن القانون يجرم هذا الاعتداء الذي لا يظهر للعيان، وغالبا ما تحضره الضحية والمتهمئولا ثالث لهما. أطفال في عمر الزهور ينافسون الكبار في عالم الشغل الحديث عن الأوضاع الاجتماعية التي يعيشها العامل الجزائري يقود إلى تسليط الضوء على تفشي ظاهرة تشغيل الأطفال بشكل لافت للانتباه، حيث يضطر الكثير من أرباب الأسر والعائلات إلى الدفع بأبنائهم إلى سوق العمل في أي مهنة، المهم لقمة العيش. وهو ما يؤدي إلى بروز خطورة ممارسة مختلف المهن لا سيما الخطيرة على صحة الأطفال، إذ غالباً ما تكون ظروف العمل كارثية ولا تراعى فيها الشروط والمقومات الإنسانية المطلوبة. وكارثة الكوارث هي المهن التي يتعاطاها الأطفال الفقراء، والتي تشكل بالفعل خطراً كبيراً على صحتهم البدنية وعلى نموهم العقلي. فاللائحة كبيرة وعلى رأسها العمل في المنشآت المعدنية وتركيب الأجهزة الإلكترونية والعمل في كسر الحجارة ونحتها، والعمل في دهن السيارات والفلاحة والحدادة والنجارة، وكل ما له علاقة بالمواد الكميائية التي لو استمر الأطفال في استنشاقها بشكل مستمر، فقد تكون لها تداعيات خطيرة على أجساد لا تزال لينة، ناهيك عمّا يتعرض له الأطفال من تعنيف من قبل أرباب العمل. إذ إن الإحصائيات الرسمية الخاصة بتشغيل الأطفال دون بلوغهم السن القانونية تشير إلى وجود أكثر من 25 ألف طفل الغالبية منهم لا تتعدى أعمارهم عتبة الخامسة عشرة سنة، أي ما يمثل نسبة 43,0 % من مجموع أطفال الجزائر الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و14 سنة ولأن الدراسة لا تعكس الحقيقة المطلقة للواقع كون هذه الأرقام المقدمة ليست سوى محصلة لعيّنات استطلاعية، تقربنا أكثر من بعضهم لنقل حقيقة المعاناة. وهناك على حافة الطريق السريع المؤدي إلى الدواودة بتيبازة، التقينا مجموعة من بائعي الخبز الذين لم تتعد أعمارهم 14سنة: ليندة، فريال، أحمد، إكرام، فوضيل وآخرين ممن يتنافسون على مكان وضع سلة الخبز من شروق الشمس إلى غروبها ينتظرون توقف السيارات العابرة لاقتناء خبزة ب 20 دينارا وعن الظروف التي دفعت بهم إلى العمل المبكر، أجمع معظمهم على أن السبب راجع إلى الظروف المادية الصعبة التي تعيشها عائلاتهم. علما أن الكثير من هؤلاء الصغار هم من يمدون عائلاتهم بالمال الذي يحصلون عليه مقابل بيع الخبز. وهنا أكد فوضيل صاحب 13 ربيعا قائلا: ''إن أوضاعي الاجتماعية أجبرتني على ذلك، أنا يتيم الأب وكبير إخوتي، مما اضطرني لترك مقاعد الدراسة رغم أنني كنت من المتفوقين في صفي، لا لشيء إلا لأتدبر أمر أسرتي المعدمة''. وغير بعيد، صادفنا ثلة من البراعم لا يتجاوز سن أكبرهم 12 سنة، حاملين سلالا وأكياسا، مسرعين صوب الطريق لعرض الخبز الجاهز في انتظار وصول كمية أخرى. تفيد تقارير المنظمة العالمية للعمل ومنظمة اليونسيف بأن الظاهرة متفشية بشكل كبير، حيث كشفت عن وجود نحو 600 ألف طفل جزائري اتراوح سنهم بين 7 و17 سنة في عالم الشغل، ينشطون في مجالات بيع السجائر والرعي وأخطرها المتاجرة بالمخدرات والدعارة ظاهرة مخيفة هذه هي وضعية العامل الجزائري البعيدة عن الأنظار استقيناها من عمق الجزائر. فئة تتعرض لأبشع تصرفات وسلوكيات الابتزاز والضغط والتهديد والتمييز الجهوي، وأخرى نخبة منتجة مشهود لها بالكفاءة والنشاط، إلا أنها مهضومة بعض الحقوق الأساسية لكل عامل محترم، وعديمة الحماية المعنوية. فكثيرا ما يقطع رزق العامل المستخدم لأسباب ملفقة وتبريرات زائفة واعتبارات دنيئة ضيقة، ولا يستفيد من أدنى حق من الإنصاف والعدالة، ولا يمنح أو يحترم حتى حقه الشرعي في الكرامة والمواطنة كجزائري له الحق في العمل والقوت معززا مكرما في جزائر العزة والكرامة.