هتف لي الدكتور عبد الرحمان مجيد الربيعي الروائي العراقي من تونس، فظننت أنه كعادته منذ أن تواجدت بباريس للعلاج، يطمئن على صحتي. بادرته، بخير، بخير، شكرا على الرعاية الأخوية فيك الخير يا سي عبد الرحمان. تلعثم قليلا، ثم أردف: صديقنا الدكتور الطاهر وطار الهمامي انتقل إلى رحمة الله أول أمس بإسبانيا... إلخ. عندما يتلقى رقيد سرير المرض بأهم مستشفيات باريس مثل هذا النعي، يخيل إليه أنه ينبه، مرة أخرى، إلى أن الموت في المتناول، وأن هناك قائمة يتهاوى أفرادها بسرعة غير معهودة. فقبل أشهر قليلة لم يكن يخطر ببال الهمامي ولا ببالي أنا سوى إنجاز الطبعة القومية الأولى لجائزة مفدي زكرياء المغاربية للشعر... نلتقي، يكون معنا نجيب العوفي، وعضو أو اثنان من المشرق، تناقش القصائد، ترتب، في جو أخوي مترفع عن الحساسيات، نثني على النبيذ الجزائري الكريم.. نتواعد في الدورة القادمة.. (ولا من سأل عليك يا موت!).. اهتز بي السرير، وداهمت غرفتي أشباح كل المرضى الذين عبروها، وتذكرت عنوان رواية أحلام مستغانمي ''عابر سرير'' وتساءلت كيف عبر الطاهر الهمامي، هل كان ذلك بلطف، شهقة أو شهقتان، ثم صمت الأبدية. أم رافقه توجع، لا نجد تبريرا سوى تطهير الروح مما ارتكبته من استرخاء. لم تكن لي علاقة به في الخمسينيات، فهو يصغرني بما لا يقل عن ثلاث عشرة سنة، ولكن في الستينيات والسبعينيات ذاع صيته، كأحد المتمردين الثقافيين. ومع إنشاء الجاحظية للشعر، كان الهمامي في السنوات الأخيرة أحد أعضاء لجنة التحكيم الملتزمين، المتحمسين للمشروع. وأكون جحودا إن لم أعلن أن فكرة تحويل الجائزة من القطرية المغاربية إلى جائزة عربية تعود للطاهر الهمامي، فهو يمكن أن يسمح في كل شيء ما عدا العروبة، حتى لا أستعمل القومية العربية. وقد كنت كثيرا ما أختلف معه في هذه المسألة بالذات، فأنا بحكم الوضعية الإثنية في الجزائر، وبحكم التزامي الصارم بحفظ التوازن، عملا بشعار الجمعية: لا إكراه في الرأي، أنظر الى العروبة، من خلال العقل والمنطق الصارم. لا غرابة، فعرش الهمامة كما روي لي المجاهد الطاهر الأسود في المذكرات التي كنت أسجلها لأسبوعية النداء، كان من أوائل من أرسل أبناءه ومنهم الطاهر الأسود بالذات إلى الكفاح في فلسطين، والعروبة فيه متأصلة. أخي الجاحظ الآخر، كما كنت تنعت نفسك عندما تتلفن، وكثيرا ما كنت تفعل في الأسبوع الواحد. لن أنساك، كما لم أنس تونس الحبيبة. سأحافظ على مقعدك في لجنة تحكيم الجائزة.. اطمئن. تعازيّ لأولادك وبناتك وكل عرش الهمامة العتيد، ولكل شعراء تونس والأمة العربية، ولاتحاد كتاب تونس ووزارة الثقافة. معذرة، لم أستطع أن أواصل فأقول أكثر، خاصة عن أحلامنا، فالسرير بمستشفى سانت أنطوان لايزال يهتز بي، سنواصل العمل هناك.