الطاهر وطار في مشفاه بباريس رفقة صحفي الشروق /تصوير: محمد بغالي صحة عمي الطاهر تحسنت بعد 11 جلسة من العلاج الكيميائي حلم وردي هو التجول في حدائق قصر فرساي الشهير بضواحي باريس، فالمكان أسطوري، وزخات المطر أضفت عليه سحرا آخر... رن جرس الهاتف: "عمي الطاهر آلاباراي"، هكذا يحلو لصاحب رائعة "اللاز" التقديم لمكالماته... بعدها كان سؤال العتاب: "أين أنت يا سي محمد؟"، فكان الرد الخجول: "أنا في فرساي عمي الطاهر". * * قال: "إنني أنتظرك... ألم نتواعد على اللقاء في المساء؟"، قلت: "الساعة الآن الثالثة، واليوم ما زال طويلا"، قال: "هكذا هي مواعيدكم يا أبناء العالم الثالث، لكن لا بأس، أنا في انتظارك على كل حال؟"... كانت المكالمة هادئة وغير عاكسة بأي حال الشوق اللافح لزيارة الطاهر وطار في منفى علاجه بالعاصمة الفرنسية. * * السعداء في العاصمة الفرنسية صنفان، حسب وطار، الحيوانات والمهاجرون * "الإقامة في باريس صارت مرهقة لي وللخزينة العمومية" * يتوسط فندق "سيتادين" شارع شالينيي بالمقاطعة الثانية عشرة، وسط العاصمة الفرنسية باريس، وغير بعيد عن الفندق يوجد مستشفى سانت أنطوان حيث يتلقى الطاهر وطار علاجه منذ ستة أشهر. * المرور إلى غرفة عمي الطاهر يكون عبر بهو صغير يضم مطبخا يحوي كل مستلزمات الطهي المريح، موقد ومايكروويف وغسالة أواني وثلاجة، أما قاعة النوم فتتوسطها أريكة تتحول ليلا إلى سرير، وتحيط بها الكتب، الغارقة في فوضى جميلة ومتناسقة، من كل جانب... صاحب هذه الغرفة لا يمكن أن يكون إلا كاتبا يشتغل على مشروع ما، ولا أدل على ذلك من الكومبيوتر المحمول المفتوح على طرف المكتب المتواضع بجوار كومة من الأوراق والأقلام. * طلب لي عمي الطاهر عصيرا من صديق له، من أبناء بلدته، مقيم بباريس وبلهجة شاوية جميلة وجهه إلى مكان تواجد الملابس التي تتطلب الغسيل »الرجل لا يتركني لحظة فأنا أتحايل عليه كل يوم حتى يتعشى معي، لأنني وحيدا أعزف عن الأكل«. * خرج »وليد البلاد« وبقيت مع عمي الطاهر، بدا لي وقد تحسّنت حاله بشيء ملفت، فآثار المرض هجرت ملامح وجهه، كما أن أطرافه طلقت ذاك الثقل الذي كان يحدّ من حركتها. يسألني في البداية »كيف تركت الجزائر؟«، فأجيب »ينقصها شيء وأنت بعيد عنها«، قبل أن يمتد بصري إلى رفّ على الجدار المقابل »باقات ورد جميلة عمي الطاهر، يبدو أن باقة وردي أمامها تبدو متواضعة جدا«، فرد ضاحكا »الورد لا يفارق هذه الغرفة، أترى الباقة التي هناك، إنها للكاتبة زهور ونيسي التي شرّفتني بزيارتها أخيرا«. * وقبل أن ينسيني الحديث الهدف الأول من الزيارة، سارعت إلى سؤال وطار »أخبرني كيف صحتك الآن، كثيرون هناك في الجزائر يتلهفون للاطمئنان عليك؟«، فرد بالكثير من الثقة »العلاج الذي تناولته لحد الآن كان له أثر إيجابي، وأشعر بأن حالتي تتحسن أكثر بعد كل جلسة من جلسات العلاج الكيميائي، رغم ما تسببه لي من تعب يمتد إلى الأيام الخمس التي تليها، فأنا في حالة جيدة آكل وأنام وأمشي وأكتب«، قبل أن يضيف »تلقيت إلى حد الآن 11 جلسة من العلاج الكيميائي وبقيت جلسة واحدة يفترض أن يكون الاطمئنان بعدها أكثر وقرار الأطباء أوضح، وقيل لي بأنهم سيسمحون لي بعدها بالعودة إلى أرض الوطن وإن تطلب الأمر فسأسافر إلى باريس لأربع وعشرين أو 48 ساعة«، قبل أن يتنهد ويردف »الإقامة في باريس صارت مرهقة... لي وللخزينة العمومية«. * باريس، يقول عمي الطاهر، »سجن كبير ورائع شكلا وثقافة، حتى أنك لا تكاد ترى فيها عوجا، الناس فيها أسرى لدر رأس المال، الكل ينتظر صدور حكم بالبطالة أو الحجز ضده، قبل أن يضيف »الناس هنا أشقياء جدا، أما السعداء فصنفان، الحيوانات والمهاجرون، هؤلاء لأنهم تعودوا على شظف العيش«. * * يقرأ ويفتح الرسائل ويرد على أكثر من 20 مكالمة يوميا * "في "موانئ الشرق" لأمين معلوف كم هائل من التزلف لليهود" * يقضي عمي الطاهر يومه في منفى علاجه بباريس كما كان يقضيه في الجاحظية، يستيقظ على الساعة الثامنة صباحا، يعد فطوره بنفسه، قبل أن يعود إلى النوم حتى العاشرة، ليخرج بعدها من الغرفة والفندق، يتجول لخطوات بين شوارع المقاطعة الثانية عشرة، ويمشي قليلا في حديقة جميلة أنشئت على جسر يصل بين بنايتين، إنه المكان الذي يأخذك رأسا إلى حدائق بابل المعلقة في العراق... حيثما حللت وحيثما ارتحلت يضع القدر في طريقك معالم تذكرك بالانتماء وبالوطن، صغيره وكبيره، للبعض هي زخة مطر تطفئ بعضا من نار الشوق، وهي للبعض الآخر حرقة ترديها لهيبا. * يتجنب عمي الطاهر ركوب المترو، الذي لم يستقله إلا مرة واحدة، فأقرب محطة تبعد عن فندقه ب500 متر، وهو لا يقدر على المشي لمسافات طويلة... في المساء يعود إلى أوراقه وأقلامه، يكتب ويصحح وينقح، كما يستقبل الأصدقاء والزوار »منذ اليوم الأول لم تخلُ غرفتي من زائرين«، ويرد على ما لا يقل عن 20 مكالمة هاتفية يوميا تأتيه من الجزائر ومن خارجها، ويفتح رسائله الإلكترونية، إضافة إلى المطالعة والاكتشاف، ومن ذلك قراءته لأعمال الكاتب التونسي لحبيب السالمي. * من بين كل مطالعاته توقف صاحب »اللاز« مطولا عند مجموعة من أعمال الكاتب اللبناني المقيم بفرنسا أمين معلوف، وكان الحديث عنه محصورا بين فصلين... ربيع جميل وهادئ عندما تعلق الأمر ب»رحلة بلطسار«، وشتاء عاصف عندما تعلق الأمر ب»موانئ الشرق«، وفي هذه الأخيرة سمعته يقول »في الحسبان أن أكتب مقالا أقاسم فيه قراءتي لهذا العمل، إنها رواية مفككة وفيها كم هائل من التزلف لليهود«، قبل أن يضيف: »أستغرب من كاتب بحجم أمين معلوف يقع في مثل هذه السقطة«. * * "الشروق" تحمل رسالة وطار إلى المبدعين الجزائريين * الكتابة ليست "بوتيكة" * طلبت من الطاهر وطار توجيه رسالة إلى الفاعلين في الساحة الثقافية الجزائرية انطلاقا من منفاه العلاجي في باريس فقال: * الجزائر في حاجة اليوم إلى من يكون في الكفة الأخرى من الميزان حتى يحرك الإبرة قليلا، وأنا بكل تواضع أحاول القيام بهذا الدور، عبر تدريب الشباب على فنون الكتابة، وعدم البخل في توجيه النقد للسلطة حيثما وجب النقد. * الأجيال القادمة في حاجة إلى نموذج يقتدون به، إلى ابن باديس جديد، يعيد بعث روح البذل والعطاء في نفوسهم، ويعلمهم كيف يبتعدون عن عبادة المصالح الشخصية، ويشهد الله إنني وهبت كل حياتي لمعالجة هموم المواطن اليومية. * ما ينبغي أن يلتفت إليه الجيل الجديد أيضا، هو حقيقة أن الكتابة ليست »بوتيكة«... الكتابة ليست فرصة تجارية، بل هي على النقيض من ذلك تماما... هي تواضع ومعاناة، ومعالجة لأفكار ورؤى، والتمرد على ما هو سائد عند الناس، وهي أيضا متعة روحية، يشترك في صناعتها والإحساس بها المبدع والمتلقي، ففي لحظات قراءة النص تلتقي روحاهما، لكن الكتابة تحولت في السنوات الأخيرة إلى مصدر للربح السريع، وهو توجه يدفعني إلى التقزز. * والمخزي الأكبر في هذا التوجه هو تجرد الأدب والإبداع من روح المقاومة والنقد لكل ما هو معوج، سواء في السلطة أو الشعب... فالمنطق السائد صار التسليم بالواقع والسير في الخط... خط اللصوص و»الهفافين«. * في هذا المشهد الأدبي أصبح الاستهلاك والاجترار هما العملة السائدة، حتى أنك تصدم بالتعاطي التقليدي مع المواضيع الجديدة كما هو شأن ظاهرة الحراقة، التي لم يخرج كتابنا في تناولها عن المألوف، لم أقرأ مثلا عن شاب قرر خوض البحر لأن الجمال الفائق لحسناء هولندية سحره واستدرجه، علينا إذا أن نتحرر من العادي، وأن نطرق أبواب الحقيقة. * بلدنا يعاني من فقر رهيب في الثقافة، والقليل الموجود لدينا بعض الفولكلور المستهلك، وثقافة ال»فاست فود«، فلا تجدنّ مثلا أن مسرحية عمرت أكثر من أسبوع، والغريب أن الأدباء والمبدعين ساكتون على هذا الوضع الهجين. * في الأخير أريد أن أشير إلى خبر قرأته في الآونة الأخيرة وهالني، إنه خبر تهنئة اتحاد الكتاب الجزائريين للرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة، هذا خطأ، لأن المفروض هو أن يقدم الواحد منا التهاني باسمه الخاص، لكن لا غرابة فقد فعلت أكثر من 60 منظمة جماهيرية نفس الشيء، إنه اليأس من روح المقاومة، وقصور في إدراك متطلبات المرحلة. * * عمي الطاهر يشبه حالته بحالة زيدان في "اللاز" * "الخوف من الموت لم يعترني لحظة" * سألت عمي الطاهر بكثير من التردد »ألم تراودك بعض المراجعات لخيارات إيديولوجية وقد عشت في الآونة الأخيرة، بفعل المرض، تجربة الخيط الرفيع الفاصل بين الموت والحياة؟«، ضحك مضيفي طويلا قبل أن يعقب: »لا بأس... أنت من أدبك استبدلت لفظ التوبة بالمراجعة«، ثم غرق في تفصيل فلسفي مثير ومشوق »ما تزال علاقتي بالموت والحياة نفسها، علاقة لا موجب فيها ولا سالب، فأنا لا أربط بين نضالي الاجتماعي والاقتصادي الطبقي وبين الميتافيزيقا... حالتي ربما تشبه حالة زيدان في »اللاز«، لما كان في الغار، ينتظر الموت ويتذكر النبي، صلى الله عليه وسلم... وطار مازال ذلك المتصوف الحامل نظرة للوجود، نظرة تتعدى النصوص، ليس كما يقرأها الناس، وإنما كما قرأها الحلاج وابن عربي والزمخشري«، سكت محدثي برهة ثم أردف »صدقني أن الخوف من الموت لم يعترني لحظة، ولا حتى الخوف من العواقب، فنحن خلقنا لنموت، ولا إشكال لي مع الآخرة، فأنا لم أفعل إلا الخير«. * * تجاهلته السفارة ومدير المركز الثقافي الجزائري لم يكلمه * وطار يصف سلوك ياسمينة خضرا ب"غير الحضاري" * سألت عمي الطاهر »ألا تعتقد بأنك كنت محظوظا مقارنة بمبدعين آخرين في الجزائر، فعندما مرضت وجدت من يتكفل بك في أكبر مستشفيات باريس؟«، فأجاب »لا تنسوا بأنني مجاهد وإطار سامي في الدولة، فقد كنت مراقبا في الحزب كما كنت مديرا عاما للإذاعة الوطنية... أنا لا أنكر بأن كوني كاتبا ساعد في إيجاد هذه الحالة، لكن الكتابة لا تفسر كل شيء«. * وفي مقابل ثنائه على ما قدمته له وزيرة الثقافة، وعلى اليد الممدودة للسيد لخضر بن تركي، مدير الديوان الوطني للثقافة والإعلام، صبّ الطاهر وطار جمّ غضبه على ممثلي الجزائر في فرنسا »تمنيت لو أن السفير الجزائري والمسؤولين في القنصلية أدركوا أن أحد كتابهم المهمين يوجد في حالة مرض بباريس، فيسألون عن أخباره ويطمئنون عليه، فأنا لا أفهم مثلا أن أتلقى يوميا عشرات المكالمات الهاتفية من تونس ومصر والأردن وغيرها من البلاد العربية، ولا يتلفن لي مدير المركز الثقافي الجزائري بالعاصمة الفرنسية، ياسمينة خضرا، الذي لا شيئ لي ضده، بل إنني أعتبره زميلا بالرغم من اختلافي معه في لغة الكتابة، ولذلك فقد راسلناه ونظمنا قراءة في عمل من أعماله بالجاحظية، وبقطع النظر عن كونه مديرا لمؤسسة ثقافية جزائرية نرتبط بها معا، فإنني أذّكره بأن الساحة الأدبية تسعني وتسعه... وعليه فإنني أرجع سلوكه إلى عقلية غير حضارية وغير ثقافية«. * * كتب فيها أكثر من 20 ألف كلمة * "أتمنى أن لا تنشر "قصيدة في التذلل" بعنوان "رواية لم تكتمل" * يستطيع عمي الطاهر أن يعلن اليوم انتصاره الباهر على المرض بالرغم من أن كل المعطيات كانت تمنح الأسبقية لهذا الأخير، ويتجلى ذاك الانتصار فاقعا في مواصلته الكتابة، ليس فقط المقالات والردود على الرسائل الإلكترونية، ولكن بإعادة بعث مشروع روايته الجديدة »قصيدة في التذلل«، التي يحلل فيها مسار اليسار في الجزائر وثنائية الثقافي والسياسي، وكيف يسعى الثاني إلى تدجين الأول. * كتب عمي الطاهر من »قصيدة في التذلل«، التي كان قد بدأ الاشتغال عليها سنة 2007، أكثر من 20 ألف كلمة، وعن جو الإنجاز يقول »عدت إلى الكتابة في المستشفى، مستعينا بكومبيوتر محمول، أما في غرفتي بالفندق فتستهويني الكتابة بعد الظهر«، ثم أضاف »أتمنى أن لا أنشر هذا العمل تحت عنوان »رواية لم تكتمل«، قبل أن ينتهي إلى أن رحلة العلاج بباريس مكنته، على قساوتها، من أن يعيش »حالات وجودية هادئة لا حزن فيها ولا يأس«.