حل الربيع العربي الذي ما لبث أن تحول إلى خريف ليقذف بنا إلى عام 1916 حين تهاوت الخلافة العثمانية وانقض الحلفاء على تركة الرجل العجوز لاقتسامها. كانت الحرب العالمية الأولى مستعرة و دوي الرصاص والصواريخ يهز شطري أوروبا. في خضم تلك الهستريا العالمية' تمكن الثلاثي سايكس بيكو سخاروف من الانزواء في مكان هادئ لا تطاله القذائف ولا رائحة الموت. اجتمع ممثلو بريطانيا فرنسا و روسيا على التوالي لرسم خارطة ما عرف ب”العالم العربي” وترسيم حدوده وتقسيمه إلى مناطق نفوذ (تم التناوب على اغتصابه فيما بعد ولحد الساعة في حفلات جماعية دولية). في 2003, انعقد اجتماع ثلاثي آخر' ثلاثي الآزور بوش بلير أزنار' للانقضاض على هبة الله بغداد انطلاقا من الكويت وقطر. انفتحت بوابة العرب الشرقية على مصراعيها وتلاشت أسوار عاصمة الرشيد' لكن العرب لم يستشعروا بعد الخطر الداهم واعتبروا صدام مارقا وجب تأديبه واستئصاله' و ظنوا أن الحملة الصليبية ستتوقف عند حدود ارض النحرين التي شاركنا جميعا في نحرها. لم يعد الأمر بعد سحق مهد الحضارات بحذاء اليانكي الغليظ يستدعي تشكيل ثالوث أو عقد اجتماعات سرية. سنة 2005 أعلنت كونداليزا رايس صراحة أن رياح (أعاصير) التغيير القادمة لا قدرة لأحد على منعها من الحدوث في سبيل تنفيذ خارطة الشرق الأوسط الجديد كبديل لخارطة 1916. لم يع العرب كعادتهم' حسبوها مجرد خريطة طريق فلسطينية لاستئناف مفاوضات بين القاتل و المقتول. لم ير العرب شيئا آنيا ملموسا' فتناسوا الأمر ولم يعيروا كلمات رايس أدنى أهمية خصوصا وأنها رحلت ' لكن المحافظين الجدد مستمرون والحكومة الماسونية قائمة لاتزول. دقت ساعة التمزيق' جانفي 2011 دعوات مجهولة المصدر للحراك استجاب لها الشارع العربي' سقوط حكومات (وليس الأنظمة)' فراغ سياسي ودستوري في ظل عدم الإعداد لبديل وانعدام قيادات كاريزماتية. ثم يأتي الجزء الأهم بعد السقوط: التلاعب بالأوتار الحساسة وإثارة النعرات الطائفية ثم طلب الحماية الدولية و أخيرا مصادقة الأممالمتحدة على الحدود الجديدة و دويلات مجهرية تقطع شرايين العالم العربي. و بهذا تتجسد خارطة الشرق الأوسط الجديد الذي انطلق من العراق الذي تم تقطيعه إلى ثلاث دويلات كردية “محايدة”' وسنية جار إبادتها' وشيعية متعطشة للانتقام و للسلطة. ثم جاء دور السودان و مزق بدوره (بمباركة دولية) إلى جزأين متناحرين وتسليح كل طرف لضمان استمرار الحرب الأهلية' مع ترجيح كفة جنوب السودان مكافأة لحكومته على اعترافها بالكيان الصهيوني وفتح سفارة لتمثيله. من غير المألوف أن يذكر السودان بعيدا عن مصر امتداده التاريخي و الجغرافي. وعد الله خلقه بدخول مصر آمنين، لكن حكومة الظل الماسونية تشاء غير ذلك، فيتحول الهجوم السلفي على كنيسة حديثة البناء غير مرخصة في ادفو (محافظة أسوان) إلى فتيل لإحراق القاهرة [9أكتوبر2011]. من السخيف تحميل مبارك أو فلول الحزب الوطني مسؤولية حريق القاهرة الثاني كما حدث مع الملك فاروق قبل ذلك. انطلقت مظاهرات الأقباط نحو ماسبيرو (مقر التلفزيون المصري) كالمعتاد للاحتجاج على هجوم ادفو، لكنها لم تمر بسلام هذه المرة ولن تكون سلمية. خرج الأقباط (الذين لا يتحركون إلا بأمر من إلههم شنودة) مسلحين، استفزوا قوات الجيش المطوقة لماسبيرو، فانطلقت حرب شوارع، سقط عشرات القتلى ومئات الجرحى. يحدث هذا قبل اقل من 15يوما على انطلاق أول تشريعيات في مصر ما بعد مبارك. قبيل طلوع فجر هذه الليلة القاهرية الحمراء (لشدة الحرائق)، تعلن هيلاري كلينتون عن رغبة أمريكية للتدخل لحماية دور العبادة خصوصا وان هنالك قوات أمريكية متمركزة بالقرب من الحدود المصرية!!! يمكنني الجزم بأنه بعد خمود لهيب القاهرة وهدوء زوبعة كوبري 6اكتوبر، سوف يدرك المصريون بان المستفيد الأول من هذا الحريق ليس سوى البابا شنودة لتحقيق حلمه باستعادة “الأصول” القبطية لمصر وإقامة إمبراطوريته المسيحية في الشرق الأوسط. وبالقياس إلى تجربتنا المريعة كشعب جزائري مع الجيش الجزائري في سنوات التسعينات المميتة، باستطاعتي الجزم مجددا بان المستفيد الآخر لن يكون إلا الجيش المصري الذي قد يبادر إلى سحب قواته من محيط ماسبيرو في حال تدخل المسلمين ل “نجدته”، لكي يعطي المناوشات صبغة حرب طائفية، فيعلن الأحكام العرفية ويلغي الانتخابات (نظرا لاختلال الأمن) ويبسط سلطانه إلى ما شاء الله. أخالني قادرة على قراءة الطالع (السيئ)، فقد كتبت بعد سقوط بغداد مقالا بعنوان “هل نستدعي مستر بوش؟” وملخصه أن الشعوب العربية ليست فقط قابلة للاستعمار بل تواقة له كما تتوق المرأة العاشقة لنصفها الثاني. ها نحن بجهلنا و عدم تبصرنا، ننساق نحو القواعد الأمريكية و التدخل الأجنبي وقوات الناتو. لا أرى في الأفق سوى السواد وحدودا جديدة أكثر بغضا و مرسومة بالدماء. كل ما ارجوه هو أن أكون على خطأ وان تكون انتفاضات العرب ثورات شعبية نابعة من عمق الحرمان والقهر، وليست تنفيذا لمخطط ماسوني شيطاني نتحرك فيه كبيادق شطرنج لتدمير أنفسنا بأنفسنا. اللهم احم ارض العرب.