ماذا لو انتصر هتلر في الحرب... هل كان الألمان يمزقون صورته... وينعتوه بالمتغطرس الأحمق... كما فعلوا... أم إنهم سيقبلون جبينه... ويقيموا له تمثالا في ساحة نورمبورغ؟ هل كانوا سيذيبون جسده في حمض الكبريت ويفرغوا بقاياه في الراين... أم إنهم سيحنطون جثته... و يزينوا قبره بالأزهار؟ في عالمنا... يبدو المنتصر ''ملاكا قويا''... حتى ولو كان سفاحا... وديكتاتورا من آخر طراز. وبحكم أن الأحياء قد يفرضون وجهة نظرهم بالقوة وبكل الوسائل غير المشروعة... فإنهم حين يرحلون... يتكفل التاريح بتصحيح أوضاعهم... توزن أعمالهم من جديد... ويعاد تصنيفهم في خانات تناسبهم... وبالتالي يفقدون الكثير من الامتيازات التاريخية التي أستولوا عليها بالقوة. ستالين الحي الذي حكم بالنار والحديد... غير ستالين الميت... الذي سحق الملايين في سيبريا... وعبد الناصر الذي واجه ''العدوان الثلاثي'' - بتقدير البعض - ... غير عبد الناصر الذي هزمته إسرائيل في ست ساعات. من سوء حظ هؤلاء أنهم لايملكون التأثير في الأحياء بعد موتهم... ليجد ضحاياهم الفرصة سانحة للتحرر والانتقام... وبالتالي إعادة كتابة التاريخ بأسلوب يعيد الاعتبار للحقيقة. ٌٌٌ في الجزائر... يعاني تاريخ الثورة أزمة انتماء... وأزمة حقيقة... أي: من صنعه؟ وكيف؟ وبالجملة هو تاريخ يفتقر إلى هوية واضحة بسبب ما يتعرض له من تشويه وإعادة تكييف... فالتاريخ زاوية في الرحم التي تنبثق منها مكونات جسدنا الثقافي... مثل اللغة والدين والأرض. وبحكم أن هناك من لاينتمي إلى هذا التاريخ... أو يعارضه... أو ينكره... فإن هؤلاء يقفون جميعا في صف واحد... يشهرون سيوفهم في وجه الحقيقة. لاشيء يخيفهم ويثير أعصابهم... كبسط الحقيقة أمام الناس... لذا يجب أن تغتال... أو أن تحمل متاعها على ظهرها وترحل. أكثر ما عندنا... مجرد ظلال تاريخ... وسيرة أشخاص ... وروايات... وقصاصات تنثرها الأفواه في المناسبات... يبدو البعض منها مصطنعا... ولايمت الى الحقيقة بصلة... ويظهر البعض كحكايات تحاول إضفاء البطولة على من لم يصنع شيئا... فهناك من لم يطلق رصاصة... وهناك من لم يلمس بندقية... وهناك من مكث في بيته إلى حين انتهاء الحرب... ثم خرجوا جميعا يلوحون بشارات الفداء والتضحية!! ماعرفناه نحن... يختلف كثيرا عما يروى... وشخوص الذين حفرت في سيماهم ندوب الحرب.. وتنبعث من أجسادهم رائحة الثورة... كما تفيض كلماتهم بروح المعاناة... غير الذين يستثمرون في سجلات التاريخ بعلامات تجارية مغشوشة. ٌٌٌ لن يكون التاريخ رواية رسمية... فالحكومة - بروحها الاحتكارية - ليست مؤهلة للتعامل مع معطى التاريخ... أو فرض أي نوع من الوصاية البيروقراطية عليه. قد تكون معنية، ومطالبة، باسترداد أرشيفنا المسروق... وعند هذا الحد، سيقال لها: دورك انتهى هنا. المؤرخ الذي لاتغضب عليه السلطة مشكوك في نزاهته... وقد يكون مجرد فرشاة ترسم بها الحكومة صورة للتاريخ... قد لاتكون موجودة في الواقع أصلا. أعتقد أن أغلب الحكومات - عندما يتعلق الأمر بكتابة التاريخ - تريد روايات على مقاسها... وقصص بيضاء تعيد كتابتها كلما رغبت في ذلك.... لكن التاريخ ذاكرة... وليس مرويات واهية... وهل نقدر على العودة الى بيوتنا بغير ذاكرة. حتى في الجامعة... صنعوا للتاريخ مخابر... ربما لاعتقادهم أنه من عائلة السوائل والأبخرة... ولا نعلم ما نوع الجراحة التي يجرونها له... ليستخلصوا أن له زائدة دودية يجب استئصالها. ٌٌٌ صانعوا التاريخ الكبار لم يعودوا بيننا... أكثرهم استشهدوا... أو صمتوا إراديا - مثل جميلة بوحيرد - أو فرض عليهم الانسحاب الى الظل. ونجد أنفسنا في كل مناسبة... مطالبين بواجب الوفاء للذاكرة... أي بأداء فعل التذكر ولو بصمت أتساءل أحيانا: لو كان الشهداء أمثال مصطفى بن بولعيد، أو أحمد زبانا، أو العربي بن مهيدي، أو العقيد عميروش، أحياء بيننا.. هل كان للتاريخ أن يصمت كل هذه المدة... بل وأن تفوز فرنسا بكل هذا الحب. ثم أستدرك: إن العظماء هم من يصنع التاريخ... وليس العكس. من مجموع هؤلاء - وليس من أحادهم - صنعت إحدى أجمل ثورات القرن العشرين ... التي احترمها العالم... واستلهم منا المضطهدون... وأسأنا لها نحن للأسف الشديد. ٌٌٌ ليس أخطر على التاريخ من تزييفه... ومحاولة كتابته بحبر ممزوج بأخلاط مانعة... حيث يعتدى على الذاكرة... ويتبجح المزيفون - بكسر الياء - بأفعالهم. عندما يتحول التاريخ إلى عملة تروج في سوق المنافع.. تتدفق أفواج الطامعين في الغنائم الباردة فيسعون في صياغة تاريخ خاص بهم... وينحشرون في بذلات محاربين تنسج من خيوط وهمية... وتزين بالثرثرة الفارغة. يتململ الشهداء الموتى في قبورهم.. ويلوذ الشهداء الأحياء بالصمت... وتدفع ''الحقيقة التاريخية'' ثمن الصمت والثرثرة معا. التاريخ للجميع... وليس للأفراد كما يعتقد البعض... للأفراد سيرهم الشخصية... وأخطاؤهم... وبطولاتهم إن وجدت... أما الأمة فلها التاريخ... بكل أطيافه... وأمجاده... ونقائصه. ٌٌٌ تاريخ البشر لاتصنعه الملائكة... لكن الشياطين تتكفل أحيانا باقتراح عناوين له... والكتابة على هوامشه. القلم الذي يكتب به التاريخ... هو آخر طلقة من السلاح الذي تكسب به الحرب المنهزمون لايكتبون تاريخهم... بسبب الخجل... وربما لأنهم لايجدون شيئا جدير بالذكر والفخر. لكن ماذا عن المنتصرين الذي يسرق منهم تاريخهم... فيستسلمون للنوم!؟