ملازما لمصحفه وركنه في أقصى المسجد، لا يزال عمي بشير منذ سنين طويلة على هذه الحال، الذي يرتاد المسجد العتيق لمدينة عين التوتة بباتنة يعرفه جيدا، فبعد قضاء المصالح اليومية يعود مسرعا إلى المسجد الذي يلتزم فيه بأداء الصلوات الخمس بلا كسل أو ملل، ثم ما يلبث يجلس يراجع القرآن الكريم بعد الفراغ من الصلاة والذكر والتسبيح أو قبل دخول وقت الصلاة، ويعد عمي بشير وقد تجاوز السبعين عاما من الحفظة القدامى لكتاب الله المعروفين بالمدينة، وهو يروي لنا ذكرياته مع كتاب الله ويسترجع ظروف عيشه بإحدى القرى في جبال أوراس الأشم وهي الأيام التي يقول عنها إنها قاسية من حيث الحاجة والفاقة وشظف العيش غير أنها كانت «حلوة وفيها البركة». ويضيف عمي بشير، لقد كان الوالد فلاحا فقيرا يحصل لنا القوت من كده طوال النهار في الحقل، لكنه كان حريصا على أن نتعلم القرآن ونحفظه، وإن خاب مسعاه نوعا ما مع إخوتي الآخرين الذين اختاروا لأنفسهم الهجرة للعمل في مدينة باتنة والمناطق المجاورة رغم حداثة سنهم وقد كنت المفوض الوحيد بأخذ الطعام إلى أبي على مسيرة ساعة من بيتنا إلى حقلنا الذي يعمل فيه، إذ لم تكن له إمكانيات لبناء بيت بجوار الحقل، وقد أصر على أن أحفظ القرآن على يد أحد المشايخ المعروفين بالمنطقة حين بلغت عشر سنوات وتخطيت مرحلة تعلم الحروف الهجائية في كتاب القرية، ورغم أن هذا الكتاب كان به شيخ يعلم القرآن وهو قريب من بيتنا، إلا أن أبي رحمه الله يقول عمي بشير وقع في نفسه أنني يجب أن آخذ القرآن على «الشيخ ابراهيم» لصيته الكبير وسمعته الحسنة في المنطقة وحديث الناس عن حسن تلقينه أصول الدين والأدب لمن هم في سني. علما أن والدي يدفع مقابل تدريسي مقدارا من القمح والشعير للشيخ، وقد ضحى الوالد الكريم بوجبة غدائه ومساعدتي له في الحقل أحيانا ليجعلني متفرغا لحفظ القرآن، يقول عمي بشير أنه كان يقطع الكيلومترات الطويلة للوصول إلى المنطقة التي بها كتاب شيخه وهي قريبة من مشتة الغجاتي في اتجاه مدينة باتنة، ما يتطلب منه النهوض باكرا وأداء صلاة الصبح في المسجد مع والده ليبدأ مسيرته بعدها مباشرة وقد زودته والدته ببعض الخبز وبعض الإكراميات للشيخ وهي في الغالب حلوى تصنع بالغرس تعرف محليا «بالرفيس» أو»الزيراوي»، وقد بدأ ت يضيف المتحدث أكتب في لوحتي قصار السور بتوجيه من الشيخ وأنتقل شيئا فشيئا إلى السور الطويلة بالطريقة التقليدية في الحفظ حيث نمحو ما يترسخ في أذهاننا من اللوحة ونكتب آيات جديدة وكنا نستعرض على الشيخ ما حفظناه طيلة أسبوع في حصة خاصة غالبا ما تكون يوم الخميس، وهكذا دواليك حتى شارفت على ختم القرآن الكريم في مدة لم تتجاوز سنتين، وكانت أصعب مرحلة يمر بها الحافظ عند هذا الشيخ أن يطلب منه استعراض المتشابه من الآيات بذكر السورة ورقم الآية وهي المرحلة التي تسبق الحصول على إجازة شفوية من الشيخ في حفظ كتاب الله، ولم أر يقول عمي بشير والدي بشا وضاحكا كذلك اليوم الذي علم فيه من الشيخ ابراهيم أنني ختمت كتاب الله حفظا وعلى قلة إمكانياته المادية فقد أقام مأدبة بالمناسبة ودعا إليها الأهل والأصدقاء.