الحلقة الثامنة عندما حملت أمي بي كان أمل الأسر الثلاث - أسرة الأصول : بقرية إبسكرين، وأسرة الأخوال بقرية ( تيمليلين ) وأسرتنا بقرية ( أبي زار ) - أن يكون الحمل ولدًا ذكرا لثلاثة أسباب : * السبب الأول: الرغبة في الولد الذكر دون الأنثى، وهي رغبة شائعة عامة في مختلفة الأوساط في الشرق والغرب، وفي القديم والحديث، لأن البنت في نظرهم مصدر شقاء وتعاسة إن لم تكن وصمة عار واحتجابها في ضمير الغيب هو الضمان الوحيد لحصانة الأسرة وعفافها، ولا يدري المساكين أنه لولا المرأة لما كان هذا الوجود إلاّ سآمة وجفافا وجفاء . السبب الثاني: هو أن أمّي بدأت الولادة بالبنت، وهي التي اقترن بها الشيخ الشرفاوي الأزهري، وما تزال على قيد الحياة، ومن هنا خِيفَ أن تواصل أمي إنجاب البنات، فتلك -لو وقعت- لكانت طامة كبيرة تثير القلق على الدوام، وخاصة عند أهل هذه المنطقة، فإذا كانت البنت الواحدة ( مصيبة ) فكيف باثنتين أو أكثر؟ السبب الثالث: هو أن أبي كان شغوفا بالعلم أشدَّ الشغف، وكانت رغبته الملحّة أن يدرس بالخارج ليحقق أمله ورغبته، ولما لم يتمكن من ذلك جعل كل وَكْدِه ورغبته أن يحقق ما فاته في ولد يرزق به، وسافر إلى تونس يدفعه هذا الأمل وهذا الشغف وهذه الرغبة، ولاقى في طريقه صعوبات جمّة، وقد بقي في تونس عاما كاملا دون أن يتمكن من الدراسة في جامع الزيتونة لظروفه المالية القاسية . نظرا لكل هذه الأسباب، كان لولادتي أثرها العميق في النفوس، وتوالت أيام الفرح لذلك قرابة شهر كامل . وكانت ولادتي وقت الفجر في أيام الشتاء، 19 من شهر ديسمبر سنة 1925، والأرض مكسوّة بالثلوج، وكان لهذا الوقت بالذات: وقت الفجر أثره البالغ في النفوس وخاصة العجائز، وقصار النظر، وسطحيي العقيدة، الذين بنوا على هذه المصادفة الزمنية آمالا فساحا، وأطلقوا لألسنتهم العقال، ولعقولهم البسيطة الأمنية، فاستنتجوا واستنبطوا وبنوا قُبَبًا على قباب ! أثر ولادتي في الأسرة والقرية وما إن شاع خبر ولادتي في مختلف الأوساط بالمنطقة - وخاصة بقريتنا - حتى أخذ الرجال والنساء يُهرعون إلى الدار، فالرجال يطلقون البارود والنساء يولولن . أما والدي - رحمه الله - فرغم الثلوج المتراكمة والنازلة التي بكرت في تلك السنة والمسافة البعيدة التي لا تقل عن عشرين ميلا في طريق ملتوية غير معبدة، فإنه ذهب إلى أخوالي لينقل إليهم البشارة . ويذكر -رحمه الله- أنه قطع المسافة في مدة قصيرة ولم يشعر خلالها ببرد ولا بتعب أو جوع، لأن الفرح الذي يتفجر من أعماقه، والحماسة التي كانت تدفعه إلى الأمام في الطريق كانت أقوى من البرد والجوع والتعب! وما إن وصل وأخبرهم الخبر حتى انطلقت الحناجر بالزغاريد، وانطلقت الألسن بشكر الله وحمده، وصدعت البيوت بالأهازيج، وهتفت الألسن بالأغاني ووزعت القهوة والشاي، فكان النهار ضاحكا، والثغور باسمة، والنفوس فرحة مبتهجة، وفي المساء، وزع على الفقراء والمساكين طعام شهي متميز، وحلويات وكؤوس من الشاي المنعنع . ولمكانة الوالد في المنطقة جرت على ألسنة الناس عند ولادتي توقعات وتنبؤات منشؤها تقدير الوالد وحسن الظن به، وتقدير العائلة من أصولها وفروعها، فمنهم من قال إن هذا الولد سيخلف الشيخ الطيب الإفليسي في وطنيته وجهاده، ومنهم من قال إنه سيخلف جده الشيخ الشريف في الفقه والإصلاح وفهم القرآن والحديث، ولا يدرون أن الله تعالى قد خطّط للولد تخطيطه الذي لا يعلمه سواه، وكل هذه التنبؤات والتكهنات إنما منشؤها اعتقاد العامة في العائلة، ونظرتها البريئة إليها واعتقاد الكمال والتميّز فيها! نشأتي وبداية تعلمي وما كدت أنطق نطقا سليما وعمري لا يتجاوز الخامسة، حتى رأى والدي أن (فترة الطفولة) قد انتهت وأن أوان الجدّ قد آن، فحدّث أمي أنه يريد أن يبعث بي إلى أخوالي لتحضنني خالتي المطلقة ريثما أتعلم الحروف الهجائية على شيخ كتّاب بالقرية يدعى الشيخ محمد الشريف الخواص، الذي كان معروفا بالصلاح والتقوى، وحب الخير لعامة الناس، وكان والدي يقدّره غاية التقدير، وينظر إليه نظرة متميزة لهذه الخصائص ! وقع هذا النبأ وقوع الصاعقة على أمي أول ما سمعته، لأن التفرقة بين الولد في هذه السن وبين أمه لا معنى له إلا ضياعه، وتحريمه من عاطفة الأمومة . صحيح أنه سيجد في خالته العين التي تكلؤه، واليد التي تحميه، والنور الذي يهديه، والروح التي تسيره، ولكنه لن يجد صدر أمه في نبضاته وخفقاته وحنانه. وعارضت أمي والدي في الأمر في لطف وهدوء وقالت له إن ما تُقدم عليه جرم كبير لن يغفره الله لك، وظلم عظيم للطفل سترى عواقبه الوخيمة فيما بعد، قد يكون ما أقدمت عليه مقبولا لو أنك أمي لا تعرف الحروف الهجائية التي سيتعلمها على هذا الرجل . ولكن والدي لم يكترث بقولها، وركب رأسه ولجَّ في أمره وقال لها : عليك فقط بشؤون المطبخ، أما هذه الأمور فأنت غير مخلوقة لها، أو بالمعنى الأصح فأنت لست معنية بها ! ولما هدأ الغضب، وزال السحاب المكفهر، قال لأمي -في هدوء ورزانة وتعقّل-: هذا الرجل الذي أريد أن يعلّم الابنَ الحروف الهجائية، وأريد أن تكون أرضيته على يديه خيرًا مني صلاحا وتقوى، فلا خير في معارضتي وإني لأرجو أن يكون على يديه الفتح والتوفيق! أما أنا فقد تجاذبتني نزعتان قويتان بالرغم من صغري : نزعة تغيير الجو، والرغبة في الحرية -لأن والدي كان قاسيا في تربيته، وهو يريد أن يطوي من حياتي مرحلة الطفولة، وكان يتعجل كبري ورجولتي- وأنا أريد أن أعيش طفولتي ولا أعيشها -كما أريد- إلا عند أخوالي بعيدا عن والدي. والنزعة الثانية شدّة تعلقي بأمي والرغبة في البقاء في حضنها، وحينما أتذكر أنني أعيش بعيدا عنها أشعر بانقباض في الأعماق وحزن يكدّر صفو حياتي ( كل هذا وأنا في الخامسة من عمري ) . ولكن لا بد مما ليس منه بد، أخذني والدي إلى أخوالي وسلمني إلى العائلة التي أحاطتني بكل أنواع العناية والرعاية، وحدَّث عني في وصية طويلة الشيخ الشريف، وبصّره بوضع أمي التي تنتحب عندما فارقتها. وكان الشيخ الشريف في المستوى أخلاقا وحلما وتقوى وطاعة، يحدثه والدي وهو يستشرف بنظراته إلى مستقبلي -أو هكذا يخيل إلي- ويقول لوالدي: اطمئنّ بالا، وثق بأنه سيكون عندي أحد أبنائي، وسيكون في عائلة جده التي اشتهرت بنبل العاطفة، وسلامة الفطرة، وسمو الخلق، تلميذا يتعلم، وسيكون في حضن خالته كمحضن أمه سواء بسواء، وثق بأن القدر هو الذي تدخّل في القضية ليكون مستقبل الولد كما خطط الحكيم الخبير ! وتذكر خالتي - في كبري - التي احتضنتني أن خالي الشيخ الطاهر الذي مات شهيدا في شهر أكتوبر سنة 1956 سألني ذات يوم : كيف تريد أن تصير في كبرك، وبعد أن تدرس العلم والمعرفة؟ فقلت له - ولا أتذكر هذا - أن أكون مثلك أو مثل والدي أو مثل شيخي ! فقال : لم تكن شيئا إذن ! بل تكون إن شاء الله مثل ابن باديس علما، ومحمد عبده إصلاحا، وجدك الشيخ الطيب شجاعة وجهادا ! ولم أتذكر هذا وإنما ذُكر لي مِن طرف غَيْر واحد من أهل العائلة، مما جعلني أنمو وأنا أفكّر في هؤلاء الرجال الثلاثة وأتصور شأنهم العظيم، وكبرت وفي أعماقي مكانتهم المتميزة . وأذكر أن خالي الشيخ الطاهر - وهو لم يرزق ولدا ذكرا - كان يكلمني عن مستقبلي - فإذا أمددته بأمل ما، قال : لا تضيق أملك ووسّع أفقك، فعلى قدر سعة أفقك تكون خطواتك إلى الأمام ! قضيت عند أخوالي نحوا من ثمانية أشهر، تعلمت خلالها الحروف الهجائية والكتابة وحفظت طائفة من السور القصار، وأذكر أن معلمي الشيخ الشريف إذا غضب على تلميذ قال له: "يا راس الثور!" وكنت أحرص جد الحرص على رضاه حتى لا ينعتني بهذا الوصف بين زملائي. وذات يوم غلبني النوم فتأخرت عن الوقت دقائق، وعندما دخلت، قال لي في لهجة المغتاظ : ما أخّرك هذا التأخير يا راس الثور؟ ومنذ ذلك اليوم صِرْتُ أكرهه بعد أن كنت أجلُّه وأقدّره، لأني كنت أظن أنني متميز، حيث أنتمي إلى أسرة متميزة في القرية، ووالدي إمام، واكتشفت منذ ذلك الحين أن الأولاد عند الشيخ سواء! ولم أقدر فِعْلَه وصنيعه إلا بعد أن كبرت! كما أذكر أنه حدَّثنا ذات مرة عن تاريخ المجاهد الشيخ الطيب -أخو جدي من قبل الأم- وقال إنه قاد في هذه المنطقة فيلقا من المجاهدين، وجاهد مع الشيخ بن الحداد، ثم سجن في سجن الحراش حتى توفي فيه، وما يزال قبره يُزار في مقبرة في الحراش تدعى باسمه، ثم قال: ومَن منكم يريد أن يكون مثله؟ فسكت الجميع، فرفعت أصبعي قائلا : أنا شيخي ! فشكرني، ولمّا خرجنا ضحكوا عني وقالوا : إنك تريد أن تسجن وتموت غريبا عن الوطن؟ وشكوتهم إلى الشيخ فقال لهم إن موت الإنسان ودفنه غريبا عن وطنه شرف لا يضاهيه شرف، ومنذ تلك اللحظة لم يعد أحد يسخر مني أو يقلل من شأني، لأني تمنيت أن أكون مثل جدي في موته غريبا عن أرضه ومسقط رأسه! والحق أقول أن خالتي -رحمها الله- احتضنتني هذه المدة في رعاية وعناية، وكانت لي في مستوى الأم، فكانت تحوطني بعطفها وشفقتها وحنانها، وعندما أعود من الكتّاب تفتح لي ذراعيها وتزرع على خدي قبلات حارة، وتنعشني بكلمات لطيفة مندية كلها أمل في مستقبل باسم، ينتظرني إن واصلت طلب العلم والمعرفة وترسمت خطى جدي من أمي أو الشيخ الطيب، وقد تكافئني على حفظ سورة بأكلة متميزة تفردني بها عن غيري من أهل البيت، أو بأن تسمح لي بالذهاب -في نزهة- في غابة أو على شاطئ بحر رفقة أولاد كبار من العائلة ومن الأقارب!