الدكتور جيلالي بوبكر كلية الآداب واللغات الأجنبية والعلوم الإنسانية جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف
يمثل جدل الأنا والآخرفي أغلب المواقف والاتجاهات التي تمثل الفكر العربي والإسلامي الحديث والمعاصرمقابلة بين طرفين، ومواجهة بين معسكرين، ووقوف على طرفي نقيض بين جهتين، مقابلةومواجهة بين الأنا الذي يمثل الذات العربية والإسلامية، بكل ما تنطوي عليه هذهالذات من عناصر في التاريخ والثقافة والدين والأخلاق والواقع وغيره، منها الموروثومنها الوافد، فيه الثوابت والمتغيرات، كل ذلك يُشكّل هوية الأنا ويحافظعليه في سياق صراع الأصالة مع المعاصرة، والتقليد مع التجديد، والماضي مع الحاضر،والحديث مع السالف، هو السياق الذي تشكّل فيه المعرفي والثقافي والإيديولوجيوالمنظور العلوي أو الدوني في صلب فكرنا العربي الحديث والمعاصر، وارتبط سببا وحتماهذا التشكّل بالتاريخ الوسيط والحديث وبالواقع الراهن. بالنسبة للعصر الوسيط، صلة أنا قويّ بإيمانه ودينه وذاتمفعمة بالتوحيد والنظام والغلبة الحضارية في النظر والعمل وفي سائر العلوم والفنونوالصنائع، في مقابل آخر ضعيف وثني مشتت الحال وممزق الأوصال ثقافة وسياسة واقتصاداواجتماعا وغيرها، يعاني القمع الفكري والاستبداد والقهر السياسي وكل مظاهر الفسادالاجتماعي، نور الحضارة الإسلامية الوهاج في مقابل ظلمات أوروبا العصر الوسيطالدامسة، أنا معلم ودارس وباحث ومجتهد وصاحب كلمة وقرار، وآخر طفل يتعلم ويتلقىليترقي، وفي نهايات عصر الأنوار الإسلامي مع نهايات عصر الظلمات الأوروبي الغربي،يركن الأنا العربي الإسلامي القويّ إلى التراجع والضعف والتخلّف، ويشقّ الآخرالأوروبي الغربي بعد أزمته طريقه نحو التفوق والرقي، فيجمع الأسباب والشروط لذلك،دون أن ينتهي الصراع بين الأنا والآخر، الصراع الذي يأخذ بعده الديني الصليبي علىمدى حقبة مهمّة من الزمن، وتكون له تداعيات خطيرة على العلاقة بين الشرق العربيالإسلامي وبين الغرب الأوروبي المسيحي، وترتسم هذه التداعيات الخطيرة على مناحيواتجاهات وعناصر الأنا وحياته فكرا وثقافة وسياسة واجتماعا وغيرها، وهي التي تصنعمواقف الأنا من الآخر سلبا أو إيجابا بوعي أو بدون وعي، كما تحدد حركته ممارسةبشعور أو بدونه. أما في العصر الحديثفالعلاقة بين الأنا والآخر أخذت شكلا آخر في السياق نفسه، سياق الصراع بين الغربالأوروبي الحديث صاحب نهضة وتقدم وحضارة وازدهار، صاحب الحداثة وقيّمها في العقلوالعقلانية، في العلم والعلمانية في النقد والمناهج العلمية والاستشراقية، فيالتكنولوجيا والسيطرة على الطبيعة واستثمار ثرواتها لخدمة الإنسان، وبين عالم عربيوإسلامي مشتت وفاسد اجتماعيا وسياسيا ومُقسّم طائفيا ودينيا ومذهبيا، تأكل جسمهجميع أعراض الضعف والتخلّف، وتنخر روحه هزيمة الإرادة والشعور، على الرغم مما يملكهمن قيّم ودلالات عظمى في تراثه، خاب وفشل وتراجع بعد فقدانه لهذه القيّم والدلالاتفكرا وممارسة، وكانت هي سرّ تفوّقه السابق، وعلى الرغم من الموقع الجغرافي الذييحتله في قلب العالم ونواته، وتفرّده جيوسياسيا، وعلى الرغم من الثروات الهائلة تحتالأرض وفوق الأرض، بشرية وطبيعية وغيرها، وعلى الرغم من العمق التاريخي الذي يتميزبه وثراء ماضيه وأصالة تراثه تنوعه وغناه، فلا الطبيعة ولا التاريخ ولا الجغرافيالا تحدّي الآخر استطاع أن ينهض بالعرب والمسلمين في عصر لا يرحم الضعفاء وفي عالملا يكرّم سوى الأقوياء. ففي سياق الصراعكموروث تاريخي سلبي ديني حضاري بين الأنا والآخر، وبفعل انهيار الأنا وضعفه وهزيمةإرادته وشعوره وخيبة أمله في استعادة مجده وسؤدده، تحوّل إلى غاية تتكالب عليها قوىالاستعمار بشدّة، فتعرّضت أقطار العالم العربي والإسلامي إلى الاستعمار من طرفبلدان الغرب الأوروبي الحديث، احتلت الأرض، وطعنت في الكرامة والعرض، وعملت علىتشويه القيّم التاريخية والثقافية للذات العربية والإسلامية من دين ولغة وتاريخ،والأمة التي لا تاريخ لها لا هوية لها ومعرّضة للزوال، زاد الاستعمار في تعميق أزمةالعرب والمسلمين بتوسيع دائرة الفقر والجهل والمرض والتهجير، بل القهر والتعذيبوالقتل خاصة عند المطالبة بالحقوق السياسية والمدنية وبالمساواة مع المُستعمر-بكسرالميم-، ومع حركات التحرر التي شهدها العالم العربي والعالم الثالث سجّل التاريخصفحات سوداء قاتمة من الإجرام الاستعماري في حال الحرب وحال السلم معا، فيالمستعمرات وعلى أرض المستعمر-بكسر الميم-، استعمار يفخر بقيّم الحداثة في الثقافةوالسياسة والاقتصاد والاجتماع والتكنولوجيا والإعلام وغيره، مثل الحريةوالديمقراطية والروح النقدية وسيادة العلم وتنظيم المجتمع والعدل واحترام حقوقالإنسان والحيوان والطبيعة، ويدعي العمل على نشرها في أصقاع الأرض، لكنّه يبحث فقطعن مصالحه في التوسع والهيمنة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، حيث انتهج أساليب المسخالثقافي والمسح الديني، وعمل على استغلال اليد العاملة الرخيصة واستثمار الثرواتالطبيعية الباطنة والظاهرة إلى أقصى حد، ونقلها إلى ما وراء البحر، فاشتعل الصراعالقديم الجديد، الدفين الحيّ بين الأنا والآخر، وازدادت العلاقة المأزومة بينالاثنين تعقيدا وتعميقا وتفاقما. وتستمرعقدة جدل الأنا والآخر في الواقع العربي المعاصر بحدّة، ويشتدّ الصراع ويتفاقم فيظلّ التطورات التي شهدها ويشهدها العالم في جميع مستويات الحياة الفكرية والسياسيةوالاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية وغيرها، وصار كل تقدم يحدث فيالعالم المتقدم يرافقه تخلّف في العالم الضعيف، والعالم العربي والإسلامي جزء منالعالم المتخلّف، وتغيّر وجه الاستعمار من مباشر عسكري واحتلال للأرض وانتهاك للعرضواستغلال للطاقات البشرية والمادية إلى غير مباشر سياسي واقتصادي وثقافي، ويتساوىالاستعمار غير المباشر مع غيره في درجة الخطورة والضرر على الفرد والمجتمع والدولةوالأمة، الأمر الذي جعل الأنا في بعض مواقفه يفقد ثقته تماما في الآخر، وينتهجأسلوب المقاومة سرّا وعلنا، سلما وحربا، ويردّ الآخر بنفس الطرق مستغلا كل ما يملكمن قوّة فكرية وعلمية وتكنولوجية لأجل الهيمنة على العالم اقتصاديا سياسيا وعسكرياوأمنيا، ولا يرضى بأيّة معارضة، بل يمارس القوّة العسكرية عند فشل الطرق السلمية فيالتعاطي مع كافة بؤر التوتر والنزاع في العالم خاصة العالم العربي، والحال في الشرقالأوسط وقضية فلسطين، وفي لبنان والعراق وأفغانستان وغيره، وعلى الرغم من تضمنفكرنا العربي والإسلامي المعاصر لمواقف تُشيد بالغرب وبحضارته وتدعو إلى قبول الآخرفكرا وسياسة وعلما وتكنولوجيا وقيّم حضارية يشترك فيها جميع بني البشر، فإنّ ذلك لمينه عقدة جدل الأنا والآخر ولم يزح عقبة الصراع السلبي بين الفكر الغربي الحديثوالمعاصر الغازي والفكر العربي المعاصر المُغزى. إن الجدل القائم بين الأنا والآخر ليس مردّه إلى وجودإشكالية العلاقة بين الاثنين فحسب كما هو في فكرنا القديم ويتكرر في فكرنا المعاصر،بل يتعلق الأمر كذلك بصورة الأنا وصورة الآخر من حيث الوضوح والغموض، من حيث الدقةوالشمول، من حيث الكفاية والنقص ومن حيث السلب والإيجاب. فالعلاقة تتضح والجدل يمكنتجاوزه عندما تتضح الصورة وتأخذ مكانها في الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة ذاتالطابع التراثي التاريخي من جهة، وتعيش على الوافد من جهة ثانية، فالتراث هو قيّمهاوتاريخها وماضيها التي لا تقدر على الانفصال عنه شعورياً أو لاّشعورياً، والوافد هوثقافة الغرب وعلومه وأفكاره، لذا فالغرب الذي هو الآخر يحضر إلى ساحة وعي الذاتكفكرة واضحة حاملة لعناصر هويتها البسيطة حينما تصل الذات إلى تأمل وعيها الباطنيباستقلالية عما تعكسه المرآة. يظهر أنّ صورة كل من الأنا والآخر في فكرنا المعاصرتقوم على السلب والإيجاب، فالأنا سلبي أما الآخر إيجابي، الأنا سلبي لأنه يأخذ منالآخر النموذج في الفكر والسلوك ولا يبالي بأناه، وحتمية الاغتراب نتيجة هذا التصورلصورته، ويشتغل بالتراث لذاته لا لتحويله إلى شحنة تفجر الإبداع الحضاري والعطاءالتاريخي، ويفتقد الحرية، حرية الفكر وحرية الاختلاف وحرية الفعل التي تطلق المواهبوالطاقات تطويرا لحياة الفرد والمجتمع والأمة والإنسانية جمعاء، ووقوعه في 'نرجسيةالأنا' تعويضاً عن الضعف والهوان. ومن ذلك إطراء الفكر الغربي وأصحابه، فالوعيالتاريخي للأنا مغترب في الآخر، لأن الآخر إيجابي وفعّال ومبدع وعلى حق في قولهوعمله، في فكره وتطبيقاته، في حاضره ومستقبله، الآخر و حضارته مقياس تُقاس عليهبقية الحضارات كل الحضارات القديمة والحديثة وحتى القادمة، لأن حضارته هي حضارةالإنسان والطبيعة ناهيك على أنها حضارة العلم والمدنية والحرية والعدالة. فصورةالأنا صورة المعوق المتفرج المستهلك أما صورة الآخر صورة القويّ المعافى المنتجللعلم والفكر والتقنية، والأنا مطالب بإتباعه والسير وراءه من بعيد ببطء فهو متخلفويجب أن يبقى متخلفاً في نظر الآخر، والصراع قائم بين الأنا والآخر في الثنائياتعند الجماهير ولدى النخبة وفي وسائل الإعلام بين الطرفين طرف الأنا وطرفالآخر. فالأنا سلبي أما الآخر فهو إيجابيويدلّ السلب والإيجاب في ثنائيات كثيرة يصعب التركيب بينها، فثقافة الأنا تقوم علىالعاطفة و الوجدان أما ثقافة الآخر فتقوم على العلم والإبداع والإنتاج في الفكرووسائل العمل والتأثير في الطبيعة.وإذا كانت حضارة الغرب حضارة علم فحضارة العربحضارة أخلاق وأدب وثقافة وفن بوجه عام، والعلم والعقل ثنائية مثل ثنائيات عديدة بينطرفي كل منها تقابل بالتعارض أو التناقص، بين الفلسفة والتصوف، بين المعقولواللامعقول، بين العلم والشعر بين الثبات والتغيير، بين الإرادة والعادة، بينالمحسوس والعيني وبين المثال والأنموذج، بين الإبداع والاستهلاك بن أمة تسير فيالمقدمة تقود الركب الحضاري، وأخرى تسير في المؤخرة، والشمال وأسوؤهم في الشرقوالجنوب. كما هو الحال عندنا، وهي ثنائية الجهل والعلم، الضعف والقوة، الشر والخير،الظلم والعدل، والباطل والحق. فصورة الأنا في الأنا تقوم على تصغير الأنا وتقزيمهوصورة الآخر في الأنا تقوم على تكبير وتفخيم الآخر مثلما هو الحال لدى الآخر فصورتهلديه تقوم على التعظيم والإكبار والإجلال والتقديس أما صورة الآخر –الأنا عندنا- لديه تقوم على التضعيف والانتقاص وتصغيره إلى أبعد الحدود، وكل صورة من الصورتينصورة الأنا في الأنا والآخر أو صورة الآخر في الآخر وفي الأنا تقوم في غياب الواقعوحقائق العقل والعلم و التاريخ. تَحوّلالمشكل في جدل الأنا والآخر في الفكر العربي الإسلامي في وجه من أوجهه إلى انشغالآخر مرتبط بعلاقة الأنا بالآخر هي علاقة صراع أو حوار؟ فتحول الحوار مع الآخر إلىحوار الأديان وحوار الحضارات، حوار الشرق والغرب، حوار الشمال والجنوب "غلب الحوارمع الآخر على الحوار مع الذات مع أنّ الحوار مع الذات يسبق الحوار مع الآخر، ومعرفةالنفس سابقة على معرفة الآخر والتساهل في معرفة الذات يؤدي إلى تساهل في معرفةالآخر وبالتالي يعزّ الحوار ويقع سوء التفاهم لذلك لم ينجح الحوار مع الآخر حتىالآن لأنه لم يقم على الحوار مع الذات أولا."1 دور الحوار مع الذات هو اكتشاف الأناالتاريخي الذي يكشف عن ثقافة السلطة في القمع والتسلط وعن الأنا السياسي وغيابمعارضة حقيقية، كما يكشف عن الأنا الأخلاقي لتحديد الهدف والغاية من الأنا التاريخيالذي يشمل الأنا بمختلف أقسامه. "إن الغاية القصوى من الحوار مع الذات هو النظر فيالآفاق وفي النفس، البداية بالعصر والنهاية بالنفس، أولا الرؤية الخارجية وثانياًالرؤية الداخلية. فالعالم جزء من الذات والذات وجود في العالم، والحوار مع الذات هوحوار مع عالمها أيضاً. ليست الذات قوقعة أو محارة بل مجداف يصارع الأمواج أو ربانيبحر عباب الماء للوصول إلى منتهاه."2 إنّجدل الأنا والآخر وصراع الموروث مع الوافد، عجز الذات على معرفة أناها وعلى مواكبةالعصر وتحدياته، " والتحدي القائم أمام الجيل القادم في مستقبل الثقافة العربيةوليس في نموذجي الماضي والغرب نمط للتحديث، والغرب أداة للتجديد ولا في نمطيالحاضر، الغرب مصدر للعلم، والغرب مصدر للجهل بل في تحويل الغرب إلى موضوع للعلم. فالدفاع أو الهجوم، القبول أو الرفض، الخير أو الشر، كلّها مواقف حدّية انفعاليةتتجاوز الموقف العلمي الهادئ الرصين الموضوعي."3 ولما كان وما زال التراث الغربي أوالوافد واحدا من المصادر الرئيسية للوعي القومي في المجتمع العربي الإسلامي ورافدامباشرا للثقافة الوطنية والعلمية، بهذا استمر الآخر في هذا الوعي استوطن ابتداء منحكماء اليونان إلى حكماء الغرب الحديث ولم "تقم حتى حركة نقد له إلا في أقل الحدودوبمنهج الخطابة أو الجدل دون منهج النقد ومنطق البرهان."4 إنّ ظاهرة جدل الأنا والآخر تشكل عقبة أمام استقامةالعلاقة بين الأنا والآخر، لكونها تُطرح من جوانب مختلة وبكيفيات غير مستقيمة، سواءعلى السبيل الندّي الحضاري فالفارق الحضاري بين الأنا والآخر أكثر من خمسة قرون، أوعلى السبيل الحواري بين الحضارات وبين الأديان وبين الشمال والجنوب فالأولويةللحوار مع الذات قبل الحوار مع الآخر، وعلى سبيل البحث العلمي المنهجي فيقتصر الأمرعلى منهج الخطابة والجدل، أو على السبيل التبريري بضعف الأنا وسلبيته وبقوّة الآخروإيجابيته فمؤداه الركود والجمود لا الاجتهاد والتجديد، أو على سبيل المؤامرةالمدمر لكل جهد في التطور والازدهار والباحث عن مواطن التآمر وخباياه والحرص علىالردّ بالمثل من دون الاهتمام بالإصلاح والنهضة، فالأطروحات السلبية في الفكرالعربي والإسلامي المعاصر لعلاقة الأنا بالآخر لم تستطع تحويل جدل الأنا والآخر إلىتكامل الأنا مع الآخر، ولا يمكنها ذلك إلاّ بمشروع حضاري يقفز على الطرح السلبيلصلة الأنا بالآخر إلى طرح علمي منهجي تحليلي نقدي يلتقي فيه السياسي والمثقفوالمسلم والمسيحي وكل فرد يهمّه حال الأمة ويعنيه نهوضها، يبحث الموروث والوافد،ويتعاطى بإيجابية مع تحديات الواقع. الهوامش: 1- حسنحنفي: حصار الزمن، إشكالات، ص 414. 2- المرجع نفسه: ص 429. 3- حسن حنفي: همومالفكر والوطن، الجزء الثاني، ص 155. 4- حسن حنفي: مقدمة في علم الاستغراب، ص 13.