من الطبيعي أن يخطئ الأطفال في صغرهم، و تتفاوت أخطاء الأطفال عن بعضهم البعض ، فمنها ما يغتفر و منها ما يحتاج إلى عقوبة خفيفة قصد تحسيس الطفل بخطورة ما فعل و نهيه عن تكراره، ولكن هل كل الأخطاء التي يرتكبها الأطفال تستحق العقاب، وهل معاقبة بعض الآباء لأبنائهم بنية إصلاح الطفل ، أم أنها وسيلة يتخذها الآباء لتفريغ شحنة غضبهم اليومي ؟ محمد بن حاحة ذكرت دراسة تم نشرها بمجلة طب الأطفال والشبيبة الصادرة عن منظمة الأطباء الأمريكية، أن الأطفال الذين يتعرضون إلى العقاب العنيف من طرف أفراد أسرتهم ينفرون بسببه من المجتمع و يتعلمون الكذب. ويشير البحث إلى أن أفكارا غير صحيحة تنتشر في المجتمعات قد تؤثر سلبا على مستقبل الأطفال، كمن يعتقدون أن الضرب على القفا لا يشكل خطرا على الطفل مقارنة بالصفع على الوجه، حيث أن ذلك سيدفعهم إلى التصرّف بعدوانية ضد الآخرين دون الإحساس بذنب أو ندم على ذلك. ويؤكد الباحثون في دراستهم على أن تخفيف العقاب الجسدي أو حتى إلغاءه سيساعد الطفل على تغيير تصرفاته المعادية للمجتمع ، وقد جاءت هذه الدراسة التي أطلقت سنة 1988 بغرض معرفة أسباب العنف الذي يجتاح المجتمع الأمريكي، فهل يعود انتشار العدوانية بين شريحة معتبرة من الشباب الجزائري إلى تعرضهم للعنف الأسري في فترة الطفولة . من أجل مناقشة هذا الموضوع، استفسرت "الجزائرالجديدة" بعض المواطنين عن ظاهرة العنف الأسري وأسبابها ، و آثارها على حياة الأسرة و مستقبل الطفل في آن واحد، فكان لكل منهم تجربته الخاصة. "نسيبة"، 45 سنة، تقول"أتذكر حين كنت صغيرة أنا و إخوتي السبعة ، و كان والدنا يضربنا بشيء شبيه بالحبل و متين كالعصا يدعى " عصب الثور" حتى يترك آثار الازرقاق على جلدنا، أو ننزف في كثير من الأحيان ، خاصة حينما قررت التوقف عن الدراسة ". و أما "حميد"، 27 سنة، فيتذكر حين كان والده يضربه عندما لا يتحصل على نقاط جيدة في دراسته بحزامه على الظهر و الفخذ أو يصفع وجهه". ويعتبر "حميد" نفسه محظوظا مقارنة بأحد التلاميذ الذي كان بمدرسته، و الذي ضربه والده بمنبه حديدي على رأسه لنفس السبب، و تسبب في دخوله المستشفى". و يخبرنا "سمير"، 25 سنة ، عن أيام صغره حين كان والده المصاب بالبكم يفرغ غضبه فيه بصفعه ، وحتى أنه كان يلكمه لدرجة أنه اضطر لمغادرة المنزل و العيش ببيت جدّته، مضيفا أنه أصبح في تلك الفترة كثير العدوانية مع غيره ، يتعارك لأبسط الأسباب ". ولم ينس "حسان" حين وجه له أباه صفعة للفم أمام عدد من الضيوف قائلا " رغم أنها كانت خفيفة إلا أنها لا زالت تشغل فكري لحد الآن" ، مضيفا أن " بعض العقاب الذي يتلقاه الطفل من والديه أو باقي أفراد أسرته يكون أثره المعنوي أشد إيلاما من أثره الجسدي ". وتقول "زكية"، ربة بيت، أن" معظم الآباء و الأمهات حين يعاقبون أبناءهم يستسلمون لشحنة الغضب ، و لا يشعرون بمدى العنف الذي يعرضون له أطفالهم ، و مدى خطورته عليهم في أهم مراحل حياتهم ، كالطفولة و المراهقة و حتى الكبر". ويرد علماء النفس الكثير من الأمراض و العيوب المتعلقة بالأخلاق عند الأطفال إلى العنف الناتج عن الأسرة، إذ أن عواقبه على الطفل جد وخيمة، فمن بين آثاره السيئة شعور الطفل بكره الغير و السخط على والديه ، و الحقد على المجتمع بأسره ، وسرعان ما يتحوّل ذلك الشعور مع مرور الزمن إلى رغبة في الانتقام، تتوّلد عند ذلك الطفل دون أن يشعر بأي ذنب أو ندم على أفعاله مهما كانت سيئة أو محرّمة، بالإضافة إلى أن معظم هؤلاء الأطفال تصبح لديهم شخصية منطوية تعيش مهمّشة عن الغير . و يزيد خطر العنف الأسري عندما تكون ضحيته طفلة، إذ أن طفلة اليوم ستصبح أمّ الغد، و الأم مدرسة تعد شعبا طيبا، و بفسادها سيفسد المجتمع بأسره، فهذه الظاهرة للأسف ليست مقتصرة على حالة أو اثنتان، بل إنها منتشرة بكثرة في المجتمع الجزائري . ولو اقتصر ضرب الأطفال في المجتمع الجزائري على الأخطاء الكبيرة، لكان الأمر طبيعيا إلى حدّ ما غير أن الكثير من الحالات التي يتعرض فيها الطفل إلى الضرب لا مبرر لها، فعلى سبيل المثال، يوجد الكثير من الآباء الذين يضربون أبناءهم الصغار حين يتعثرون في الشارع بقوة ، عوض أن يهرولوا لإنقاذهم أو تفقد إن تعرضوا لأذى أو جرح، و هكذا تتراكم الأحداث و المرات التي يتعرض فيها الطفل للعقاب الشديد من أقرب الناس إليه بذهنه ، ماحية فرحته و سروره و قاتلة روح البراءة فيه . ومهما تم التأكيد على خطورة ضرب الأطفال، فإن الكثير من الآباء يجادلون إن فاتحتهم في موضوع العنف ضد فلذات أكبادهم ، ظنا منهم أن أنجع وسيلة للسيطرة على الأبناء و نيل احترامهم و برّهم ، هي معاقبتهم و ضربهم على كل صغيرة و كبيرة، مع العلم أن الآباء في بعض الأحيان يلومون الأطفال على بعض الأمور التي لم يحسنوا صنعها، و كأنهم يلومونهم على عدم تحليهم بإتقان الكبار، وهذا ما لا ينبغي حدوثه مطلقا . و في حين أن الغضب المتسبب في هذه الشحنة العنيفة سوف ينساها الكبار و ينسون كل ذلك الضرب، فإن أثره سيبقى لدى الأطفال مدى الحياة ، و عادة ما يتولّد عند الأطفال المتعرّضين للعقوبات الصارمة شعور بأن كل من حولهم خطر عليهم، و حتى والديهم الذين من الطبيعي أن يكون منبع الحنان و المحبة و العطف و الأمان بالنسبة لذلك الطفل ، و سيفقد الثقة فيهم إلى الأبد . و لقد وضعت الشريعة الإسلامية السمحة قوانين تضبط حدود معاقبة الأطفال ، فعن سبرة بن معبد الجهني، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "علّموا الصبيَ الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشرٍ". و قال لقمان الحكيم "ضرب الوالد للولد كالسماد للزرع" . فالحديث الذي سبق ذكره، يشير إلى أن العلم والتوجيه والإرشاد عناصر كافية لتلقين الطفل حسن السلوك، فإذا رأى الوالدان أن الطفل لم يطعهما بعد في تربيتهما، ينتقلان إلى المرحلة الثانية التي هي العقوبة الجسدية و لكن برشد، ولا يتأتى ذلك إلا بإتباع مجموعة من الخطوات ، تبدأ بالتدرج في العقوبة, إذ أن العقوبة ليست مقتصرة على الضرب فقط ، فقد يكون المنع من المال أو اللعب مثلا أنجع في ردّه إلى الصواب، و العقوبة هي آخر الحلول لتربية الطفل ، و لا يصلح أن تكون أول الإصلاح . و على الوالدين تجنب معاقبة الطفل أمام أصدقائه أو أمام الناس، كالشارع أو غيره من المرافق العمومية ، فهذا جد محرج للطفل، و إذا كانت المرة الأولى التي يخطئ فيها ، فإنه لا يستحق العقاب بل يستحق الإرشاد، دون أن ننسى أن التسامح و التجاوز عن الخطأ أفضل في كسب طاعة الطفل و حبّه لوالديه. قد تكون العقوبة الجسدية من أحد الأساليب الشرعية للتربية السليمة ، لكن هل سنتحكّم في غضبنا قبل نحكم على أخطاء أطفالنا .