عندما كنا صغارا ... كان رمضان يأتي ليشيع أجواء الرحمة في الديار... و كانت الفرحة بقدومه تطال الكبير والصغير... ولطالما عرفنا اقترابه من خلال اجتهاد والدتي في تحضير أنواع المخللات وصنع الكسكسي الخاص بطبق "المسفوف" الذي يعتبر وجبة السحور الرئيسية في العائلة... وكذا شراء آنية وأطباق خاصة بشهر رمضان ... والدتي... تلك المرأة التي لطالما حرصت واجتهدت في صيام كل النوافل على مدار السنة كانت تحدثنا عن فضل الشهر ومكارمه وبركاته... وبريق ساحر يشع من عينيها... وبما أنها جسدت على الدوام قدوة ومثلا لي فلم أتوان عن تقليدها في كل ما أمكنني فعله... أذكر أنني طلبت منها يوما ولم أتجاوز حينها سن الرابعة أن تسمح لي بالصوم فرفضت... غير أن رغبتي في الأمر كانت جد جامحة فقررت أن أصوم دون علم من أحد... و بصعوبة نجحت في التملص من وجبة الفطور صباحا... إلا أنها في موعد الغداء كشفت أمري... كانت امي ولم تزل امرأة حكيمة ورزينة... فقد خجلت كثيرا منها وآلمني أنها ستفرض علي إنهاء الصوم الذي كابرت لأتمه برغم تمكن الجوع والعطش مني ... لكنها وكعادتها خاطبت الطفلة العنيدة بما يناسب سنها فقالت لي:"...أعلم أنك تريدين الأجر يا صغيرتي ... وهذا أمر يسعدني كثيرا فقد بدأت ابنتي تكبر ... لكن ماذا لو أعطيتك خطة تنالين بها الأجر العظيم بأسرع ما يكون وتكتشفين بفضلها سرا رائعا عن الصوم لا يعلمه كل أقرانك؟ "... نظرت إليها بشوق ولهفة " كيف ذلك يا أمي؟! " فأجابت: " إذا أردت أن تكوني قادرة على الصوم والعبادة وتستحقي معرفة السر فيجب أن تكبري أولا ... ولكن لكي تكبري لابد أن تحافظي على نظام غذائك ولا تضيعي منه شيئا ... حينها سترين كيف تصبح لديك فرصة في الصيام مثلي، وتعرفين عندها بالسر ... بل ستكونين امرأة صالحة قادرة على أداء كل العبادات " ... أثلجت كلمات والدتي صدري .. وكعادتها أسعدتني بكلامها وكبحت عنادي بذكائها وحكمتها ... فتناولت وجبة الغداء بكل حماس ... والشوق واللهفة لمعرفة السر يغمرانني... واليوم ... كبرتُ وصرت امرأة ... وكبرت والدتي أيضا ... وقدر الله أن تصاب بداء السكري ... فيمنعها الأطباء من الصوم ... وبرغم تمكن المرض منها ... إلا أنه لم يتمكن من إيمانها وحكمتها ورحابة صدرها ... فها نحن برمضان... وهاهي ذي تعكف على إرسال الطعام والمساعدات إلى الفقراء من الأهل و الجيران... وتوصي بهم خيرا... وتجتهد في الصلوات وقراءة القرآن بما استطاعت ... وها أنا أرى حالها فأتعلم ذلك السر الجميل ... وهو أن الصوم ليس امتناعا عن الطعام والشراب فحسب كما ظننت وأنا طفلة إنما هو ترك للانشغال بالذات واتباع الشهوات ... وقرب من الله عز وجل بالطاعات... فليحفظ الله أمهاتنا وأمهات المسلمين ... وليشف مرضانا شفاء لا يغادر سقما... رمضانكم أكرم...