هي أصل كل مقام، ومفتاح كل حال، فمن لا توبة له لا مقام له ولا حال. التوبة: الرجوع عن الذنب بالإقلاع عنه، والندم عليه، وعزم القلب على ألا يعود إليه، وردّ المظالم لأهلها إن تعلَّقت بالغير. والتوبة المندوبة: الرجوع من المباحات لنيل القربات، وسواء كانت التوبة واجبة أو مندوبة، فهي مطلوبة، قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور: 31). ويقال للتوبة: أوبة. قال تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (ص: 30)، أي: رجّاع. قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً (التحريم: 8). وروى القشيري بسنده إلى أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له". وإذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب، ثم تلا: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (البقرة: 222). وذلك لأنه إذا أحبه ألهمه التوبة من الذنب، أو غفر له، لقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ (النساء: 48). قيل: يا رسول الله وما علامة التوبة؟ قال: "الندامة"([1]). وبسند القشيري إلى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب"([2]). فالتوبة أول منازل السالكين، وأول مقام من مقامات الطالبين، فالتوبة الرجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود فيه، وقال صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة"([3]). فأرباب الأحوال من أهل السنة قالوا: شرط التوبة حتى تصحَّ ثلاثة أشياء: الندم على ما عمل من المخالفات، وترك الزلة في الحال، والعزم على ألا يعود إلى مثل ما عمل من المعاصي. فهذه الأركان مع إرضاء الآدمي في ظلامته إن كانت، لا بد منها حتى تصح توبته، وأما ما في الخبر: "الندم توبة" إنما نصّ على معظمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة"، أي: معظم أركانه، والندم توبة معظم أركانها الندم، فالندم يستتبع الركنين الآخرين، فإنه يستحيل أن يكون تائباً نادماً، وهو مصرٌّ على مثل ذلك الذنب، أو عازم على الإتيان بمثله، وهذا معنى التوبة على الإجمال. وللتائبين صفات وأحوال هي من خصالهم، يعد ذلك من جملة التوبة لكونها من صفاتهم، ولأنها من شرط صحتها. قال الدقَّاق: التوبة على ثلاثة أقسام، أولها: التوبة، وأوسطها الإنابة، وآخرها الأوبة. فجعلَ التوبة بداية، والأوبة نهاية، والإنابة واسطتهما. فكل من تاب لخوف العقوبة فهو صاحب توبة، ومن تاب طمعاً في الثواب فهو صاحب إنابة، ومن تاب مراعاة للأمر لا لرغبة في ثواب، أو رهبة من العقاب فهو صاحب أوبة. ويقال أيضاً: التوبة صفة المؤمنين، قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (النور: 31). والإنابة صفة الأولياء والمقربين، قال تعالى: وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (ق: 33)، والأوبة صفة الأولياء والمقربين، قال تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (ص: 44). فمن آب خوفاً من العقاب ورجاء للثواب فهو طالب حظ نفسه غير مخلص لله تعالى، ومن تاب حياء من ربه لقدرته عليه وعلمه به لا خوفاً من ناره ولا رجاء لثوابه، فهو المخلص في توبته، ومن تاب عن كل ما سوى الله تعالى فهو المقرّب. قال الجنيد: التوبة على ثلاث معان، أولها: الندم. والثاني: العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله تعالى عنه، والثالث: السعي في أداء المظالم. وقال سهل بن عبدالله: التوبة ترك التسويف. وقال الحارث المحاسبي: ما قلت قط اللهم إني أسألك التوبة، ولكني أقول: أسألك شهوة التوبة، لأنها الأكمل، فإذا رزقها حملته على سائر مقامات التوبة من المكروهات، والمندوبات، والقفلات، وترك الأولى، ومن رؤية الأعمال الصالحات. دخل الجنيد على السري فرآه متغيراً، فسأله عن سبب تغيره، فقال: دخل عليّ شاب فسألني عن التوبة، فقلت: ألا تنسى ذنبك، فعارضني وقال: بل التوبة أن تنسى ذنبك، فقال الجنيد: الأمر عندي ما قاله الشاب، فقال: لم؟ قلت: لأني إذا كنت في حال الجفاء نقلني إلى حال الصفاء، فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء، فسكت السري. وسئل البوشنجي عن التوبة فقال: إذا ذكرت الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره فهو التوبة. وقال يحيى بن معاذ: زلة واحدة للتائب أقبح من سبعين زلة قبلها. وقال ذو النون: حقيقة التوبة أن تضيق الأرض عليك بما رحبت، حتى لا يكون لك قرار، ثم تضيق عليك نفسك، كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله: وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ (التوبة: 118). * بتصرف - نقلا عن كتاب (الجد في السلوك إلى ملك الملوك) للشيخ أسعد محمد الصاغرجي.