يفترض على العامل بعد إحالته على التقاعد، أن يتمتع بنصيبه من الراحة ، بعد سنوات الشغل و العمل بكدّ ، مكتفيا بمنحة التقاعد التي تؤمن له عيشه في سنّ هو أقرب للشيخوخة ، يقل فيه المجهود، لكن الملاحظ على بعض المتقاعدين أنهم يدخلون في رحلة البحث عن وظيفة ، بمجرّد حصولهم على وثيقة المعاشات. فماذا عن الأسباب و الدوافع ؟ "بالعمل أتجنب المشكلات الأسرية بعد التقاعد الحتمي" عجيبا أن يجد المتقاعد نفسه في صدد البحث عن عمل و قد تعدّى عتبة الستين سنة من عمره، يبحث في عروض العمل و يسأل هذا و ذاك عن عمل يقضي فيه يومه ، بعيدا عن الموت البطيئ وشبح الفراش و مقاعد ساحات الشوارع التي تنتظره، كونه يريد أن يبقى يشعر بحيويته و حاجته للعيش، في هذه يقول "ابراهيم دراجي" 50 سنة ،" أعلم في نهاية المطاف أنَّ التقاعد مصير حتمي، لهذا أعمل منذ الآن للتكيّف معه و العمل على إقامة مشروع أقضي فيه وقت الفراغ الطويلة ، إلى جانب التقليل أو تفادي من حجم المشكلات الأسرية داخل المنزل"، و هو مصير مشابه للكثير ممّن تحدثنا إليهم ، ما جعل كثيرين منهم يسعون إلى البحث عن عمل جديد ، فيما يفضل كثيرون الاستفادة من سنوات أخرى من العمل حتى بعد انقضاء سنوات عملهم ، و هي حالة علي،ب، 56 سنة، و هو رئيس مصلحة بريد الجزائر، الذي صرح لنا أنه ينوي الاستفادة من سنوات إضافية بعد سن تقاعده، كمل كونه يرفض حياة البؤس و الروتين التي تنتظره و المصير المحتوم الذي ينتظر كل متقاعد،قائلا:" العمل هو كل ما حققته في حياتي، و لست مستعدا للقضاء على مدة صلاحيتي و الرضوخ للتقاعد، خاصة أنني لا أزال أشعر بإمكانية العطاء و الرغبة في الخدمة التي تضاهيها طاقة شاب من شباب اليوم" . "سنوات العطاء سرقت مني الدفئ الأسري .. و لابد من استغلال ما تبقى من حياتي" ولأن العمل قد يسرق من صاحبه سنوات طويلة من العطاء و الخدمة ، قد تحجب عنه أشياء جميلة في الحياة أو قد تأخذ منه النفس و النفيس في سبيل الحصول على راتب يعيل به عائلته، لا سيما أولائك الذين يقضون جل أوقاتهم في العمل قد تصل 12 ساعة في اليوم ، بعيدا عن دفء الأسرة، فيعودون إلى بيوتهم بعد إرهاق و تعب شديد، هنا أكد لنا "مسعود بن بيكر، 62 سنة، متقاعد، على أنه لا طالما انتظر بشوق سن تقاعده بعدما شعر أنه لم يعد قادرا على العطاء، و لأنه بحاجة إلى الراتب الذي يتقاضاه لإعالة عائلته فقد أجبر على البقاء في وظيفته إلى سن تقاعده، مُضيفاً أنَ الموظف ليس حرا في حياته، فهو يستهلك وقته الطويل في العمل، متعجبا للذين تجدهم يبحثون عن عمل إضافي بعد تقاعدهم ، أو يطالبون بسنوات إضافية أخرى مهما كانت الظروف، ففي نظره أن الإنسان و بعد سنوات العطاء بحاجة إلى فترة يعيشها لنفسه، يستغل فيها كل الأشياء الجميلة من حوله، قائلا:"أعيش أجمل فترة في حياتي، أقوم بكل الأعمال و النشاطات التي كنت أعجز عن القيام بها ، سواء بسبب انعدام الوقت الذي أقضيه في العمل أو بسبب الإرهاق الذي يسببه لي العمل، كما أنني أقوم برحلات لولايات أخرى و أكتشف أشياء كثيرة كانت أمامي ، لطالما مررت عليها مرور الكرام، دون أن أتمعن في جوهرها ". "أضحي براحتي لأقبض راتبي" و تختلف نظرة المرأة للعمل عن الرجل بحكم اختلاف طبيعتهما ، و الهدف الذي يعمل لأجله كل واحد منهما، فإذا كان العمل من أولويات الرجل في الحياة، فإن للمرأة أولوياتها التي لا تضاهيها أي مسؤوليات أخرى ، و التي تتمثل في تربية الأبناء و الزوج، أين يصبح العمل بالنسبة لها وسيلة لتحسين أدوارها، إما إذا أصبح هذا الأخير عائقا دون القيام بمهامها فهنا سيصبح لها رأي آخر في اتخاذ قرار العمل أم عدمه، ليصبح التقاعد هنا الحل السلمي الذي تستطيع من خلاله التوفيق بين أدوارها، هذا ما صرحت لنا به سميرة.ب، 46 سنة، موظفة ، لقد قررت التقاعد المبكر لشعوري بالحاجة إلى الراحة بعد سنوات من المشاكل و الإرهاق في تربية بنتاي ، كوني مطلقة أتولّى تربيتهما والإنفاق عليهما ، بعدما امتنع زوجي عن ذلك، وانشغل بحياته مع زوجته الجديدة، لكنني مجبرة على إكمال سنوات العمل لأجل الحصول على تقاعدي، فمن أين لي الإنفاق إلى حين أبلغ سن التقاعد إذا أنا امتنعت عن العمل، بمعنى أنني لن أتمكن من تقديم الأحسن في عملي كغيري من الموظفين، و إن كان بعد بذل جهد كبير، بعدما وصلت لهذه المرحلة من الإحساس بالتعب من العمل، والرغبة في الخلود إلى الراحة بعد سنوات من الإرهاق النفسي و المرض الذي خلفته تلك المشاكل التي مررت بها، ولم تخفي مروى سعيدي، 50 سنة، عن رفضها التام لأخذها التقاعد النصفي الذي تهرّب إليه الكثير من النساء، كونها تريد الاحتفاظ بوظيفتها إلى حين التقاعد الرسمي لها، خاصة بعد سنوات العطاء و العمل في سلك التعليم، قائلة:"اليوم وقد بلغت الخمسين من العمر .. صحيح أنني شعرت بالوهن والرغبة في الراحة، لكنني أفضل الحصول على كامل تقاعدي بدل التضحية بجزء كبير بعد كل سنوات من العطاء و الخدمة ". نفسيا: حب العمل يغرس حبّ العطاء وقد صرّح لنا الدكتور عبد الرحمان الوافي، أستاذ علم النفس بجامعة بوزريعة ، في اتصال هاتفي بالجزائر " إنَّ التقاعد نهاية حتمية للحياة الوظيفية لكل موظف ، و يسعى الكثير من العمّال الحصول على تقاعد مبكر أو الإسراع في الحصول عليه تحت عوامل و ضغوط نفسية، منها ضغط العمل أو الملل أو الضغط النفسي أو الصحي و غيرها من ضغوطات الحياة العصرية، غير أن الغاية من وراء العمل ، الذي يقود العامل للتفكير في التخلي عن العمل قبل سنّ التقاعد أو التمسك به حتى بعد سن التقاعد، فهناك يضيف محدثنا أشخاصا يعملون من أجل الراتب و ما يقاضونه ، و ينتظر بشق الأنفس حتى تمر الأيام بسرعة و يحضى بالتقاعد في تلك السنّ، في حين هناك فئة تحب العمل لأجل العمل في حد ذاته، يحبون خدمة المجتمع بكل فئاته، و يحرصون على القيام بدورهم على أكمل وجه، يتميزون بإرادة قوية و تفان في العمل، هدفهم في الحياة الإنتاج و خدمة المجتمع، وهنا قدم لنا الدكتور عبد الرحمان الوافي تجربته الشخصية في المجال، كونه تعدّى عتبة ال 60 سنة ، و لا زال يشعر أنه في كامل قوته و إرادته و عزيمته على العطاء ، و تسخير معارفه و تجاربه للطلبة ، و كل فئات المجتمع كونها رسالته في الحياة و أقل ما يقدّمها للوطن.