يختار الكثير من الموظفين التقاعد في سن مبكرة رغم توفرهم على كل الشروط التي تسمح لهم بمواصلة مسيرتهم المهنية لسنوات أخرى، إلا أنهم يفضلون ترك وظائفهم قبل الأوان للاستفادة من راتب ثابت ومضمون، حتى ولو كان قليلا مقابل الراتب الذي يتقاضونه في وظائفهم.. “الخبر” استوقفت بعضهم، وجست نبضهم للوقوف على الأسباب الكامنة وراء خيارهم للتقاعد المبكر. يعرف التقاعد المبكر في كل الأنظمة التأمينية في العالم بكون تصميمه تم لخدمة العاملين في المهن الخطرة، وهي المهن التي تؤدي إلى الإضرار بصحة أو حياة العامل نتيجة تعرضه لعوامل وظروف خطرة في بيئة العمل، تؤثر مبكرا على صحته، وبالتالي يكون من الصعب صمود العاملين حتى سن التقاعد فيكون عندها اللجوء إليه شبه اضطراري. كما كان يعرف في السابق أن النساء هن أكثر من يلجأن إلى التقاعد المبكر، على الرغم من أن راتب التقاعد المبكر يكون مخفضاً، وهذا بسبب ظروفها العائلية وللاعتناء بأطفالها. لكن ما وقفنا عليه هو أن الظاهرة تمس الجنسين، ولكل منهم أسبابه. إنشاء مشاريع مصغرة السيد “ب. عامر”، البالغ من العمر 58 سنة، من بين الذين اختاروا ترك سوق العمل مبكرا، استوقفناه وهو جالس يقرأ الجريدة على مقعد مطل على ميناء العاصمة، الساعة كانت تشير إلى الثانية زوالا، توقيت يكون فيها الموظفون عادة في مقرات عملهم. جلسنا بجانبه بعد استئذانه، رحب بنا وبادلنا أطراف الحديث، وبعد دردشة قصيرة معه كشف لنا أنه بصدد إعداد ملف التقاعد المسبق، رغم أن مجموع السنوات التي اشتغل فيها كأمين مستودع في الشركة العمومية المتخصصة في البناء “ليكوتاك” ثم موظف في شركة “سونلغاز” لا تتعدى 22 سنة، إلا أنه أبى إلا أن يتوقف عن العمل دون انتظار بلوغ سن الإحالة القانونية على التقاعد (60 سنة)، بسبب الضغوط التي يتعرض لها أثناء عمله من قِبل المسؤولين، على حد قوله. استفسرنا من محدثنا إن كان مستعدا لتحمل تكاليف المعيشة، وهو رب أسرة من ستة أفراد، في ظل الراتب البسيط الذي سيتقاضاه، فصارحنا أنه ينوي إنشاء مشروع صغير أسفل الفيلا التي يسكن فيها ببلدية براقي بالعاصمة، رفقة شقيقه الأصغر الذي هو الآخر مقدم على التقاعد المسبق. اخترت التفرغ لعائلتي تركنا عامر وواصلنا رحلتنا الاستطلاعية بحثا عن هؤلاء الذين اختاروا “رمي المنشفة” مبكرا، وكانت وجهتنا ساحة الشهداء ومنها إلى السوق الموازية لحي “زوج عيون” بأسفل القصبة، وهناك وسط الحركة التي لا تتوقف أبدا والضجيج الذي يعم المكان، التقينا بالسيدة “ب. فاطمة”، في عقدها السادس، وجدناها تسترجع أنفاسها بسبب ثقل “القفة” التي كانت تحملها، كانت تضع نظارات توحي بأن صاحبتها منهكة من كثرة القراءة، اقتربنا منها عارضين عليها يد المساعدة، رحبت بنا ودعت لنا بالخير. اطمأن قلبها لنا، الأمر الذي حفزنا أكثر على اكتشاف أسرارها وهي تسترسل في الحديث إلينا، ليتبين لنا أن السيدة فاطمة البالغة من العمر62 سنة، متقاعدة من سلك التعليم، حيث كانت مدرسة في الطور الابتدائي، فضلت اللجوء إلى التقاعد المبكر سنة 2003، عندما كانت على بعد سنتين فقط للاستفادة من التقاعد. ورغم تلقيها عروضا لترقيتها إلى منصب مديرة إلا أنها تخلت عن منصبها واكتفت براتب بسيط جدا، لتتفرغ لشؤون منزلها، وفي هذا الصدد صرحت لنا قائلة “تخرّج على يدي الكثير من التلاميذ النجباء، أصبحوا الآن إطارات دولة، لكن بالمقابل أهملت أبنائي وشؤون أسرتي، لهذا قررت التوقف عن العمل ووضع مصلحة أبنائي فوق كل اعتبار”. مضايقات المسؤولين المقاهي هي الوجهة الأولى للكثير من المتقاعدين “لقتل الوقت”، فكانت إحدى المقاهي القريبة من الجامع الكبير بالعاصمة، وجهتنا أيضا ل«تصيّد” بعضهم، وهناك التقينا العديد من الشيوخ جالسين يتبادلون أطراف الحديث، ويتناقشون في أمور السياسة تارة ويخوضون في الرياضة تارة أخرى. في الجانب الآخر من المقهى اجتمعت مجموعة أخرى لأشخاص يبدون أصغر سنا من المجموعة الأولى، كانوا يلعبون “الدومينو”. لفت انتباهنا شخص واقف بجانبهم، كان يبدو غارقا في أفكاره، حاولنا الاقتراب منه عله يفتح لنا علبة أسراره. رحب بنا غانو فرحاوي، البالغ من العمر57 سنة، رب أسرة متكونة من 7 أفراد، كان يشغل منصب مهندس في الأشغال العمومية على مدار 30 سنة، قبل أن يقرر التقاعد منذ 6 أشهر. طرحنا عليه بعض الأسئلة المتعلقة بالموضوع، فلم يتوان بالإجابة قائلا: “بدأت العمل في السبعينيات، وقتها كان جو العمل رائعا وكنا نحب عملنا، اشتغلت بعدة شركات عمومية متخصصة في البناء على غرار “دي.أن.سي” و«ليغتا” وآخرها “كوسيدار”. في السابق كانت أجواء العمل مختلفة، أما الآن ولسوء الحظ تعكر جو العمل وأصبح مملا، خاصة بعد إقحام الأجانب في ميدان الأشغال العمومية ودخول “أصحاب المعريفة”. وواصل محدثنا “أصبحنا نسمع كثيرا بابن فلان وأخ فلتان”، لكن في الواقع لا وجود لهم في الميدان، وأصبحنا نقوم بعملنا وفي الوقت نفسه عملهم، ناهيك عن الضغوط والتهديدات التي نعيشها يوميا”. دفعت هذه الظروف بغانو إلى التقاعد دون انتظار بلوغ السن القانونية، ويضيف “الحمد للّه كان خيارا صائبا. صحيح أن الراتب الذي أتقاضاه بسيط ومحتشم، لكني أعين نفسي في بعض الأحيان بالعمل بسيارتي (سائق كلونديستان).. هكذا أصبحت تسير الأمور في الجزائر”. إقصاء وإهمال جمال هو الآخر فضّل التقاعد المبكر بعد أن كان موظفا بوزارة الشبيبة والرياضة، كان مسؤولا عن تنظيم التظاهرات الرياضية التي يشارك فيها الأطفال والشباب بالعاصمة منذ أن كان في سن العشرين، اختار التقاعد المبكر لعدة أسباب، لعل أبرزها تلك المتعلقة بتغير محيط العمل مقارنة بالسابق. يقول جمال الذي التقيناه بإحدى الأسواق الجوارية بباب الزوار، حيث يقيم “من غير المعقول أن يأتي أحد يفتقد جميع المؤهلات العلمية والخبرة الميدانية، ومنذ الوهلة الأولى يصبح مسؤولا عليك ويعطيك الأوامر وهو يجهل طريقة العمل تماما.. كنت أخرج من المنزل على الساعة الخامسة صباحا، ليس من باب الالتزام، بل من مبدأ أنني كنت أحب عملي، لكن مع تغير الأمور وتعكر جو العمل أصبحت ألتحق بمنصب عملي وأنتظر انقضاء الثماني ساعات اليومية، لأدخل إلى بيتي”. يتوقف جمال قليلا يتنهد ثم يواصل قائلا: “المؤسف أن راتب مثل هؤلاء الأشخاص أحسن بكثير من راتبي، وأنا أقوم بعملي وعمله في الوقت نفسه”. هذه الاستفزازات وغيرها دفعت جمال لاتخاذ القرار المناسب، حسبه، والتخلي عن منصبه رغم توفره على جميع الشروط والمؤهلات التي تسمح له بمواصلة العمل. متابعات قضائية ولم تختلف الأسباب التي ساقها السيد “ز. رابح”، الذي اختار أيضا “نفض يديه” من الوظيفة، فكل الطرق تؤدي إلى التقاعد المبكر، فالسيد رابح، البالغ من العمر 51 سنة، ملامح الشباب لا تزال بادية على وجهه رغم أن الشيب أكل لحيته، فتحنا معه موضوع التقاعد فلم يتوان عن البوح بأفكاره. قال محدثنا إنه متقاعد منذ 6 أشهر فقط، وكان يشغل وظيفة مسؤول على تسيير مخزونات إحدى الشركات الوطنية المتخصصة في بناء المنشآت الفنية الكبرى، قبل أن يستغني عن منصبه الذي اشتغل فيه على مدار 28 سنة في سن مبكرة، بالنظر لحساسية هذا المنصب الذي تغير من مصدر قوت إلى مصدر “صداع” وضغط، على حد وصفه. يقول السيد رابح: “في السابق كان جو العمل نظيفا ويسوده النزاهة، وكانت لدينا عائلة ثانية داخل الشركة، أما اليوم فالأمور اختلفت وتعكر جو العمل والعائلة الثانية أصبحت عدونا الأول”. ويتابع الحديث بحسرة وألم، قائلا: “كنت أقوم بعملي وبعمل الآخرين الذين يتقاسمونني المكتب، وفي الأخير وجدت نفسي أعيش تحت التهديدات، لسبب وحيد هو رفضي تجاوز القانون”. ولعل الحادثة التي جرت له سنة 2013، إثر استدعائه من قِبل مصالح الأمن، في إطار فتح تحقيق في قضية فساد تورط فيها مسؤولون وإطارات في الشركة، كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، بعد أن أدخلته في حالة من الخوف وأغرقته في الهواجس، خاصة أنه القائم الوحيد على شؤون أسرته المتكونة من 5 أفراد. ولحسن الحظ بعد إجراء التحقيقات اللازمة تم سحب التهمة المنسوبة إليه؛ هذه المشاكل أثرت على حالته الصحية، ومنذ أن أجريت له عملية جراحية على القلب، بدأ يفكر في التقاعد وإنهاء مسيرته المهنية، مكتفيا بتقاعد مسبق نسبته 62.5 في المائة. وبين الضغوط النفسية والشعور بالتهميش والإقصاء أو ساعات العمل الطويلة، وحتى التفرغ للأعمال الاستثمارية الخاصة لتحقيق مكاسب أخرى، تبقى الظاهرة في تزايد مستمر وتستحق الوقوف عندها، لأنها بالتأكيد هدر للكفاءات والخبرات. الأمين العام لفدرالية المتقاعدين “التقاعد النسبي يستحوذ على نصف معاشات المتقاعدين” “عمال يتركون وظائفهم للاستفادة من راتبين” كشف أمين عام الفدرالية الوطنية للمتقاعدين، اسماعيل بوكريس، أن عدد المستفدين من التقاعد النسبي فاق 500 ألف متقاعد، من أصل حوالي 2 مليون و600 ألف متقاعد خلال 2014. وعبّر بوكريس، في تصريح ل”الخبر”، عن قلقه إزاء تفاقم الظاهرة، خاصة أن معاشات هذه الأخيرة تمثل أكثر من 50 في المائة من مجموع قيمة المعاشات الكلية المخصصة للمتقاعدين، بحكم أن متوسط منحتهم تتراوح بين 35 ألف دج و40 ألف دج، بالمقابل تبقى معاشات فئة الثمانينات محدودة وبسيطة جدا. وأرجع ممثل المركزية النقابية أسباب هروب العمال إلى التقاعد المسبق إلى التحاق الأغلبية منهم بالعمل في مؤسسات أخرى جديدة، والاستفادة من راتبين، وأضاف أن بعض المستفيدين من التقاعد النسبي أصبحوا اليوم يتقاضون منحة أكبر من الراتب الذي كانوا يتقاضونه أثناء مزاولة عملهم، نتيجة استفادتهم من الزيادات النسبية كل سنة. مشيرا إلى أن الثلاثية وصندوق النقد الدولي سبق وأن نبها بضرورة مراجعة شروط التقاعد النسبي، أو إلغائه تماما. كما دعا بوكريس السلطات العليا إلى مساعدة صندوق التقاعد على تمويل هذه المعاشات، والتنويع في مصادر تمويلها عن طريق الخزينة، قائلا: “ستسمح لنا هذه الخطوة بالاهتمام أكثر بالفئات الميسورة وتحيين معاشاتهم القديمة، (يقصد الذين تقاعدوا أثناء الثمانينيات)”، مضيفا “صحيح أن هناك زيادات في المعاشات، لكن لابد أن يصاحبها التحكم في التضخم وضبط السوق للمحافظة على القدرة الشرائية للمتقاعدين”. المختصة النفسية بوديلمي سعاد “الموظفون يشعرون أن قواهم استنزفت في سن مبكرة” بررت المختصة النفسية سعاد بوديلمي لجوء الموظفين من الجنسين إلى التقاعد المبكر بالتعب والإرهاق غالبا، مشيرة إلى أن تأخير سن التقاعد بالمقارنة مع السنوات السابقة ضاعف من متاعب الموظفين الذين يشعرون في سن مبكرة أن قواهم استنزفت وهم في سن تؤهلهم للعمل. وأضافت النفسانية أن بعض الموظفين يختارون الخروج من سوق العمل قبل سنوات قليلة فقط من سن التقاعد، لأنهم يشعرون مع تقدم السن أنهم غير قادرين على العطاء. ولم تنف المتحدثة لجوء البعض إلى التقاعد رغبة منهم في تحقيق مكاسب مادية أكبر، من خلال مشاريعهم الخاصة أو اتجاههم للعمل في القطاع الخاص، “فيكون في رصيدهم راتب التقاعد وراتب آخر من الوظيفة الجديدة، فيحسنون من إمكانياتهم المادية”. وبالنسبة للمرأة، أبرزت محدثتنا أن المرأة تلجأ أكثر لطلب التقاعد المبكر بسبب مسؤوليتها المزدوجة بين الاهتمام بشؤون بيتها كربة بيت وبين وظيفتها وعجزها على القيام بالمهمتين في الوقت نفسه، ما يجعلها ترجح كفة بيتها، ناهيك على أن المرأة تتعب أكثر من الرجل. وأضافت محدثتنا أن الكثير من النساء يفضلن أيضا التقاعد المبكر من أجل إنشاء مشاريع خاصة بهن، تمكنهن من العمل وهن في بيوتهن.