يمثّل استطلاع هلال رمضان بداية الاحتفالات لدى المسلمين بقدوم الشهر المعظم، وتختلف طقوس استطلاع الهلال والاحتفالات ببداية الصوم من بلد لآخر. كانت بلدان عربية تحتفل في الثلاثينيات برؤية هلال رمضان، في اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، وكانت الاحتفالات كبيرة وعظيمة يحضرها علية القوم وكبار رجال الدولة في العاصمة والمدن الكبرى، بجانب الاحتفالات الشعبية التي كانت تُقام في الشوارع، والإعداد للشهر الكريم من تعليق الزينات ووضع مكبرات الصوت لتشغيل القرآن الكريم. قديماً كانت توكل مهمة الرؤية إلى القضاة، الذين يستطلعون الهلال ويعلنون عن بداية الشهر، حيث كانت تعدّ لهم دكة على سفح جبل المقطم عُرفت ب"دكة القضاة"، يخرجون إليها لاستطلاع الأهلة. مشاعل وفوانيس وفي العصر الفاطمي بنى القائد بدر الجمالي مسجداً له على سفح المقطم، استخدمت مئذنته كمرصد لرؤية هلال رمضان، كذلك يرجع إلى الفاطميين سنّ ما يُعرف بموكب أول رمضان أو موكب رؤية الهلال، وأصبحت عادة استمرت في العصر المملوكي، فكان قاضي القضاة يخرج في موكب مُحاط بالشموع والفوانيس لرؤية الهلال، ومعه القضاة الأربعة كشهود على الرؤية، وكان يُشارك في الموكب المحتسب وأرباب الحرف والصناعات وكبار تجار القاهرة. وفي عصر المماليك تم نقل مكان الرؤية إلى منارة مدرسة المنصور قلاوون، فإذا تحقّقوا من رؤية الهلال أُضيئت الأنوار في الشوارع وفي المآذن وتُضاء المساجد، إيذاناً ببدء الشهر الكريم، ثم يخرج قاضي القضاة في موكب تحيط به جموع الشعب حاملة المشاعل والفوانيس حتى يصل إلى داره، ثم تتفرق الطوائف إلى أحيائها معلنة الصيام. وتم اختيار قاضي القضاة وما يمثّله من مكانة لاستطلاع الهلال وإعلان الصيام، لما لهذه المناسبة من تقدير وقدسية في نفوس وحياة المسلمين، كونها بداية لأكثر الشهور قدسية وعبادة في الإسلام. وعاد استطلاع الهلال مرة أخرى إلى سفح المقطم في العصر العثماني، فكان يجتمع القضاة الأربعة وبعض الفقهاء والمحتسب بالمدرسة المنصورية في بين القصرين، ثم يتجهون جميعاً ويتبعهم دراويش الصوفية وأرباب الحرف وكبار التجار إلى مكان مرتفع بجبل المقطم حيث يترقّبون الهلال، فإذا ثبتت رؤيته عادوا وبين أيديهم المشاعل والقناديل إلى المدرسة المنصورية، ويعلن المحتسب ثبوت رؤية هلال رمضان وبداية الصوم، واستمر الأمر على ذلك حتى أمر الخديوي عباس حلمي الثاني بنقل مكان إثبات رؤية الهلال إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق. أما في عام 1941 نشرت مجلة "المصور" احتفالات المحروسة والقضاة برؤية الهلال، وحضور كوكبة من رجال الدولة والأزهر الشريف، وكتبت: "هكذا أتم الفلك إحدى دوراته، وأقبل رمضان في موكبه يتهادى كالعروسة، فاستقبله المسلمون في كل بقاع المعمورة مكبرين مهللين، يبتهلون إلى الله"، وقد تم الاحتفال بثبوت رؤية الهلال في المحكمة العليا الشرعية، بحضور الشيخ فتح الله سليمان، رئيس المحكمة العليا الشرعية، وانوري السعيد، وزير الأوقاف، ومحمد محمود بك، وكيل وزير العدل. وظلت مهمة استطلاع الأهلة وإعلان الصيام تُسند إلى القضاة، إلى أن تم إنشاء دار الإفتاء المصرية في أواخر القرن التاسع عشر، وأسندت إليها مهمة استطلاع هلال رمضان والاحتفال به، وتقوم الإفتاء بهذه المهمة كل عام بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، ويتم ذلك من خلال لجانها الشرعية والعلمية المنتشرة بجميع أنحاء الجمهورية، وتعلن الإفتاء نتيجة الاستطلاع وتقيم الاحتفالات، الذي يحضرها كبار رجال الدولة والمشايخ والعلماء، وعلى رأسهم الإمام الأكبر شيخ الأزهر، ومفتي الجمهورية، ووزير الأوقاف، ومحافظ القاهرة والوزراء، وسفراء الدول الإسلامية، ورجال القضاء وغيرهم. أول قاضي استطلاع.. عباسي ويشير المؤرخ إبراهيم عناني، عضو اتحاد المؤرخين العرب، إلى أنه في العصر العباسي وتحديداً في عام 155ه خرج أول قاضٍ لاستطلاع هلال رمضان، وهو قاضي القضاة أبو عبد الرحمن عبدالله بن لهيعة، وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته، حيث كانت تعدّ لهم دكة على سفح جبل المقطم عُرفت ب"دكة القضاة" يخرجون إليها لاستطلاع الأهلة، وتُقام الاحتفالات وتُضاء الأنوار عند ثبوت رؤية الهلال، ويعلن القاضي عن غرة رمضان وبداية الصوم. ويوضح عناني، أن استطلاع الهلال يتم بالاعتماد على العين المجردة في رؤية الهلال، استناداً إلى ثوابت شرعية من القرآن الكريم "مَنْ شهد منكم الشهر فليصمه"، ويثبت شهر رمضان الكريم عند جمهور العلماء بإكمال عدة شعبان 30 يوماً أو برؤية الهلال ولو من واحد عدل. وتظل رؤية هلال رمضان هي المناسبة التي تجمع فيها الفرحة بقدوم شهر الصوم للمسلمين في مختلف بقاع العالم، ليجتمعوا جميعاً على مائدة الإفطار والذكر في رمضان. استخدمه عمر بن الخطاب في الإنارة يمثّل الفانوس أحد أبرز مظاهر الاحتفالات بشهر رمضان المعظم، فبعد استطلاع الهلال تعلّق الفوانيس بجانب الزينات ويخرج الأطفال حاملين الفانوس للعب والاحتفال، فارتبط الفانوس بشكل مباشر برمضان، حتى إنه أصبح معلماً من معالمه متمماً للشكلية الجمالية وجزءاً من الفرحة، وأصبح ظهوره بمثابة العلامة عن قدوم الشهر العظيم وإلاعلان لبدء الصيام. ولم يكن الفانوس مجرد أداة للعب وإضاءة وتزيين الشوارع بل كان تراثاً وثقافة، حيث صاحبته أغانٍ ومواويل تزيد من حليته، عندما تردّد مع مقدم كل عام للشهر الفضيل: "حالو يا حالو، رمضان كريم يا حالو". وكلمة "فانوس′′ تعود إلى اللغة الإغريقية وتعني وسيلة الإضاءة، وكان الرومان هم أول مَنْ استخدموه في إنارة البيوت والشوارع، وظل يُستخدم حتى القرون الوسطى، وتم انتقال الفانوس إلى العرب واستخدامه في الإنارة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حيث كان أول مَنْ استخدمه في إنارة المساجد والطرقات في ليالي رمضان، ليتمكّن المسلمون من إقامة الصلاة وإحياء شعائر الدين، لتصبح إنارة الشوارع في رمضان ترتبط بالفوانيس، وأصبحت تلك سنة متبعة من بعده. وعُرف "فانوس رمضان" في العصر الفاطمي، حيث بدأت حكايته مع دخول المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر عام 853ه، وكان ذلك في شهر رمضان حين خرجت جموع الناس لاستقبال موكب السلطان على مشارف صحراء الجيزة، وكانوا يحملون الفوانيس لإضاءة الطريق له، ومنذ ذلك أصبح حمل الفوانيس في رمضان عادة لم تنقطع حتى وقتنا هذا. وتعدّدت استخدامات الفانوس قديماً، حيث كان يُستخدم لتهيئة الطرق للمرأة ليلاً، أيضاً كان المسحراتي يهتدي بأضواء الفوانيس المعلقة في الشوارع وعلى أبواب المنازل، كما استخدم المصريون الفانوس لمعرفة وقتي الإفطار والسحور، بحيث يجوز لهم الأكل والشراب طالما كان الفانوس مضاء، ويُطفأ خلال فترة الصيام. وتُعتبر صناعة الفوانيس من الصناعات الرائجة في مصر، حيث يتم تصنيعه في ورش صغيرة تشتهر به مناطق، مثل ورش باب الشعرية وتحت الربع والسيدة زينب، وتتميّز تلك الورش بإنتاجها الغزير الذي يغطي أسواق القاهرة، بل وتصدّر بعض أنواع الفوانيس إلى الدول العربية المختلفة، ويُستخدم في صناعة الفانوس أدوات بسيطة للغاية، وهي عبارة عن أداة لتصنيع الزجاج ومكواة للحام، ومقص لتحديد حجم الفانوس، ويمرّ تصنيعه بعدة مراحل، بداية من لحام الصفيح بالقصدير لتكوين الهيكل، ثم تركيب القطع الزجاجية، وحلقة صغيرة من الصفيح تُستخدم لمسك الفانوس، حتى تثبت الشمعة في القاعدة الدائرية، وبذلك يتكوّن الفانوس من البرج المعدني والقلب والشمعة التي تختلف حجمها باختلاف حجم الفانوس، وهناك دائماً جزء من البرج المعدني يُستخدم كباب يفتح ويغلق لإدخال الشمعة منه، وتطوّرت صناعة الفوانيس لتتبدّل الشمعة بلمبة تُنار بواسطة الكهرباء أو البطارية، هذا بجانب تطوّر الشكل والخامات المستخدمة، ليخرج الفانوس تحفة فنية من حيث نسق الألوان والأجزاء المستخدمة. وتعدّدت أشكال الفوانيس حتى غدت صناعة الفانوس ضرباً من فنون شتى، في أحجامها وفي أشكالها، ومع استحداث الفانوس الكهربائي بأنواعه المختلفة وما شابهه من أشكال أخرى، إلا أنه يبقى الفانوس التقليدي الزجاجي الذي يُضاء بالشمعة أحبها وأقربها إلى الوجدانيات والتراث. ويبقى أمر الفانوس كما هو لا يختلف عما كان يحدث في الماضي، إذ يقول المقريزي في كتابه الخطط التوفيقية: "إنه كان يجتمع خمسمائة من السمكرية في أحياء القاهرة الفاطمية من الحرفيين والمساعدين والصبية قبل حلول شهر الصيام لصناعة الفوانيس′′، في سوق يُعرف باسم (سوق الشماعين)، تعلّق فيه الفوانيس المضاءة للتزيين والتجارة. وتُقام أسواق مخصّصة لبيع وشراء الفوانيس، تبدأ في الظهور قبل حلول شهر رمضان بأيام قليلة، لتتزيّن المحلات بأنواع وأحجام مختلفة وألوان وأشكال متعدّدة، لتنشر البهجة من خلال مشهد بديع يمثّل أحد المظاهر الرئيسية لشهر رمضان ،إلا أن الأوضاع الاقتصادية لعبت دوراً في محدودية تلك المظاهر والاحتفالات الرمضانية لهذا العام، حيث ارتفعت أسعار مستلزمات الشهر الكريم، بما في ذلك الفانوس الذي اتخذت الحكومة المصرية قراراً بمنع استيراده توفيراً للنفقات والعملة الأجنبية، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعاره بحوالي 40 في المئة، نتيجة لتوافر الصناعة المحلية منه فقط، وارتفاع تكاليف خاماته، ما كان له دوره في انحصار انتشاره هذا العام على غرار الأعوام السابقة سواء بين التجار أو الجمهور. وهنا يقول أحمد جبل، رئيس شعبة استيراد لعب الأطفال: إن قرار منع استيراد فوانيس رمضان جاء كأحد إجراءات الحكومة لضبط الاستيراد، خاصة مع محدودية العملة الأجنبية "الدولار"، وتوفيرها لاستيراد الحاجات الأساسية والسلع التموينية، كون أن الفانوس يأتي في شريحة متأخرة بين شرائح الاستيراد. ويضيف جبل: منع استيراد الفوانيس يدعّم المنتج المحلي ويحافظ على التراث، كما أنه يروج الصناعة الحرفية التي كادت تندثر بفعل البضائع المستوردة ومنافسة المنتج الأجنبي.