الحياة داخل الأفكار تكون بالعقل أم بالإنسان؟ ..سؤال محيّر فعلا لأنّه يضعنا أمام ذواتنا التي تقوم على التّفاعل والتّجاوز إلى الآخر، وليس هذا فقط بل تسعى من خلال هذه الحركة إلى أن تكون فاعلة وذات قابلية في محيط اختلافها، لهذا فسؤال الحياة داخل الأفكار يدور حول ثورة التواصل وتوصيل المراد من القول والسلوك اللذان يؤسّسان للفكرة والموقف سواء في ورودهما الاجتماعي، أو المعرفي التخصّصي داخل أروقة المؤسّسات العلمية، وفي أفق الحياة داخل الأفكار تُطرح شخصية الفاعل المعرفي وقدرته على التّواصل الجماهيري، بمفهومه العام أي التّواصل مع الشّعب بالمفهوم السياسي، والخاص أي التّواصل مع الفواعل المعرفية التي هي جماهير المؤسّسات العلمية، وهذا المفهوم للفاعل المعرفي يختلف جوهريا عن مستوى المصلح، لأنّ هذا الأخير يتعاطى مع مستوى الفهم الجماهيري بلغة اليومي الذي يمتح من إشكاليات ومآزق الحركة المجتمعية، لهذا فهو يقترب من مفهوم النّضال الذي يتقاسمه مع الجماهير الكادحة والآملة في التّغيير الاجتماعي، أما عندما يتعلق الأمر بالفضاء المؤسّسي العلمي، تطرح إشكالية «الأكاديمي التواصلي»، أو ذلك الشّخص الذي يستطيع أن يقول أفكاره من عمق الدلالات الأشد ارتباطا بالتخصّص بتدفّق إنساني يشمل العقلي وينيره، فهناك من يعيش أكاديميته وداخلها باعتباره إنسانا، وهناك من يعيش داخل أكاديميته عقلا مجرّدا منطويا على الدّرس النّظري في ظاهره اللغوي المرتبط بالتخصّص. تاهت مراكبي مرّة عند شواطئ الأكاديمية فتساءلت بجوار أحد روّادها الإنسانيين، الدّكتور سعيد بوطاجين، هذا الجامعي الذي يكسّر كل رتابات الأكاديمية ليس بمعناها المعرفي والمنهجي، ولكن بتداعياتها التداولية على مستوى الرّاهن، بحيث أصبحت حشوا مليئا من المعطيات المصطلحية وإحالات ضخمة إلى المراجع والمصادر، وهذا لا ينقص من قيمتها لأنّه عمل جوهري فيها، لكن حبّذا لو أنّ لبوس الإنساني بما يحمله من تجربة ساد ضفافها وشمل خطاباتها. إنّ السّعيد بوطاجين في انفلاته الإنساني من أكاديميته، تترجمه في إحدى جوانبه رسائله التي يتبادلها مع أصدقائه وتلاميذه سواء على شبكات التواصل الاجتماعي أو على مدرّجات الجامعة حين تتحوّل إلى منبر إنساني، وقد نتساءل عن كيفية كسره للحاجز الأكاديمي الذي لا يهدمه ليزيحه، ولكن ليجعل منه منبرا أكثر إثارة للتّواصل من أجل أن تكون الحياة فرصة للعيش المزدهر، ولا أقصد ما قد يتبادر للأذهان من علاقات أهل الاختصاص الاجتماعية، والتي تفرضها حركة الإنسان الاجتماعية، ولكن ما أريد أن أركّز عليه هو استثمار الفاعل الأكاديمي في تخصّصه لكي يجعله أكثر تأثيرا في محيطه، حيث عندما يخاطب أو يحاور يكون موقفه مكرّسا كناقد أنسن أكاديميته، ولهذا فالسّعيد بوطاجين عادة ما يفعّل الحديث حول المناهج التي يجب أن تنطلق من بيئة النّاقد، لأنّ النص وليد وجدان يختلف من بيئة إلى أخرى، والنص العربي يختلف عن المنهج الغربي في توافقه مع بيئته، ولعل هذا ما يجعل بوطاجين أكاديمي ينبثق من شفافية المدى المعرفي، ومن بساطة جبّة الكشف، فالنص حينها، أي حين خضوعه لمنهج الذّات، يتلبّس خصوصياتها، ويصّاعد مقام المنهج، لأنّ المنهج حينها يكون وليد التّجربة والخصوصية. يتصوّر السّيميائي سعيد بوطاجين «أنّ الدّراسات الأكاديمية بحاجة إلى منظورات تجعلها أقل صنمية»، لأنّ الثّبات لا يمكن إلا أن يؤدي إلى غلبة الموضوع وتحوّله إلى شكل من أشكال القداسة التي لا يمكن أن تكون الأشياء دونها، وهو ما يجعلها في تغوّل مستمر إلى أن تصل الدّرجة التي تغطي فيها على جوهر الشّيء، وهو حال المناهج التي أصبح المتلقي لا يرى في الدّراسة سوى شكل المنهج أو صوت النّاقد، والتحرّر من الصّنمية يعني اعتلاء مقام الشّفافية التي تزيل الحجب بين النّاقد والمتلقي حتى يغدو الكلام في أشدّ الموضوعات ارتباطا بالتخصّص كما لو أنّه حديث على رصيف مقهى أو شرفة قلب عارف، لأنّ المصطلح حينها يخضع للبيئة التي أنتجت الخطاب والمخاطِب والمخاطَب، لكن هل هذا يعني التخلي عن ضرورات الدّراسة الأكاديمية ؟، طبعا لا يمكن ذلك، حيث يرفض السّعيد بوطاجين التخلّي عن الانضباط المتعلق بالجوانب المنهجية والمصطلحية والمفهومية الضّرورية لكل مقاربة موضوعية، وهنا لا يعتبر التخلي شرطا واقفا لازم الحضور، فحضوره متعلّق أيضا في حالة الأنسنة النصية بموقف الأكاديمي من دلالية حضوره كفاعل إنساني، ومن سياقات الخطاب التي تُنجَز انطلاقا من البحث المبدئي عن المشترك بين الأكاديمي والمتلقي، بحيث لا يخلو السّياق من نبرة وجدانية تتجلى فيها الأشياء كما لو أنّ المتلقي يعرفها سلفا لكنّه يستزيد من تركيزها وتثبيتها في الوعي. يعمل السّعيد بوطاجين جادا على تجاوز مرحلة «الصّنمية» في الأكاديمية حين يستدرك على حضور «الانضباط المتعلق بالجوانب المنهجية والمصطلحية والمفهومية» قائلا: «هناك حالات تتطلب نوعا من التّنازل عن الصّرامة التي تنتج حالات من اللبس حتى لا يصبح المنهج هو الموضوع وليس الخطاب، كما يحدث في كثير من قراءاتنا»، هذا الاستدراك لا يلغي أهمّية عناصر «المقاربة الموضوعية»، بقدر ما يسير بها إلى نوع من التمثل الإنساني داخل سياقاتها، وهو ما يلمّح إلى أنّ البساطة تزيل كثيرا من التعقيد «لأنّ وراء كل تعقيد فراغ رهيب يتوهّمه الأغبياء عملا عبقريا» كما يرى الرّوائي «باولو كويلو»، حين وُصِفت لغته بأنّها «بسيطة مباشرة»، فكان ردّ «كويلو» متعلّقا بجانب من جوانب المعطى الإنساني في مقامياته المتعالية والشفاّفة، حيث وصف تعامله مع اللغة بالتقشّف الذي يتعمّده فيها، والتقشّف سلوك يهدف إلى تركيز الاهتمام حول موضوعة الخطاب ومحاولة حصره في دائرة خصوص الموضوعة لكي يتحصّل الفهم، وهذه العناصر لا تتوفر سوى في مستويات توصف بالمقامية، أي حين يندرج الفهم ضمن علاقات الّشفاف والإنسانية التي لا تخلو من صوفية تعتمد أساسا الجبّة والخرقة كسيمة مستمرّة، وكتعبير عميق عن دلالات التقشّف في سبيل اعتلاء صدارة المشترك الإنساني وجوهر التّواصل في بساطة الوجود.