أسهمت مجموعة من الباحثين والمبدعين العرب في تأليف هذا الكتاب الجماعي الذي شبهته، إلى حدَ ما، ببعض جهود النقد الأوربي والأمريكي المشتركة ومجلاته المتخصصة التي ظلت تؤسس لمنظورات منهجية ولسانية قدمت خدمات جليلة للمهتمين بشأن الخطاب والمحكي بشكل عام، كل ومجال تخصصه ومنطلقاته. لعلنا نتذكر جيدا، وببعض الإعجاب والتقدير، الجهود التي قدمت في مجالات البنيوية واللسانيات والسيميائيات وعلم الدلالة والتداولية وغيرها، تلك الهالات التي جمعت كبار المنظرين الذين أثثوا مدارس غدت، مع الوقت، مرجعيات يتعذر تجاوزها لقيمتها وصفاء أدواتها التحليلية وخلفياتها. وإذ أضع هذه الكلمات التي تعنى بمؤلف المحكي الروائي العربي، أسئلة الذات والمجتمع، الذي يقدم نفسه بمستواه المتقدم، فإني أعتبر هؤلاء الباحثين أكبر من هذا الموجز الذي يحاول، ببعض التركيز والتكثيف، وببعض الاختزال الذي لا مفر منه في مثل أي عرض، الإحاطة بمختلف المقاربات التي ستدعم، بلا شك، ما تقدمه المخابر والجامعات العربية التي تملك قدرات كبيرة في المناهج الجديدة، بيد أنها بحاجة إلى مثل هذه الأعمال التي ستسهم في إرساء تقارب ومجاورة بين الباحثين والجامعات المتباعدة، الأمر الذي سيؤدي، بالضرورة، إلى تطعيم المعارف وخلق تقاليد بحثية من شأنها الإسهام في تنويع وجهات النظر وتأثيثها، إضافة إلى خرق بعض الحدود والجدران التي تقف عائقا أمام التعاون العلمي على المستوى الوطني والعربي على حد سواء. الفكرة في حد ذاتها نادرة في تقاليدنا البحثية، ومفيدة جدا للتجربة النقدية العربية التي ستظل، مهما كانت مصادرها وقدراتها واجتهاداتها وعبقريتها، فقيرة إلى مثل هذه الأبحاث الجماعية كتقليد حميد، وهي من الخطوات التي وجب تشجيعها والتنويه بها في ظل غياب أي تقارب بين النقاد والباحثين في بلداننا التي تجتهد في استقلالية تامة، ودون تنسيق، إن نحن استثنينا العدد القليل من المجلات العربية التي تنشر مداخلات الملتقيات الدولية التي تقام هنا وهناك، مع انحسار الإشهار والتوزيع، ما يجعل هذه الجهود مبعثرة، وليست ذات تأثير واضح المعالم، أو على الأقل ليست ذات جدوى كبيرة مقارنة بمستواها الراقي. ثمة أمر آخر يبدو ذا أهمية قصوى في هذا الكتاب، ويخص طبيعة الآليات وتفاوتها: سيلاحظ القارئ المنبه والمتخصصون في الشأن الأدبي بأن النقد في البلدان الغربية ظل يراجع نفسه بتنويع القراءات وتجاوز الآلية المنهجية التي ألحقت بعض الضرر بالأدب في السنين الأخيرة، وبالمنهج في حد ذاته، كما تشير إلى ذلك بعض التراجعات والمساءلات الجديدة التي شغلت الفكر والنقد والفلسفة، لذا يصبح التنويع، شأنه شأن مساءلة مسوغات المنهج ومقصديته وحدوده في التعامل مع المنجز، مسألة ضرورية، وشكلا من أشكال الاستباق الذي نحتاج إليه في قراءاتنا الحالية واللاحقة، وذلك بعض ما يوفره هذا الكتاب الذي يتميز بمقاربات وإحالات متنوعة تفيد المهتمين بالمنهج والمصطلح والمنظور والمفهوم في آن واحد. هذا الكتاب، في جوهره، عبارة عن مقاربات متفاوتة من حيث المنطلق، ومتعددة الإحالة والمتكأ، وقد يكون هذا التنوع في حد ذاته مفيدا للدارسين والأكاديميين الذين يبحثون عن إجابة لأسئلة متواترة في الخطاب النقدي المعاصر. كما نجد في المتن تفكيكا دقيقا لتمفصلات المعنى وفق منظورات متباينة، ووفق أجهزة مفهومية ومصطلحية حديثة تم تداولها في الدراسات الجديدة، وتحديدا ما له علاقة بالشأن اللساني وامتداداته واستثماراته. سنجد في هذا الجهد الاستثنائي شيئا من جيرار جينيت ويوري لوتمان وغولدمان ولوكاتش وجان ميشال أدام وكلود بريمون وإيفروتير وغريماص وغولدمان وكريستيفا وإيكو وغيرهم، وبالمقابل هناك بعض التلقي المؤسس على الإدراك الشخصي للمنجز، سواء كان مستقلا عن النسق، أو جزءا من بنيته الكبرى التي يتحرك داخلها. ما يعني أن القراءات المختلفة ركزت، وبنسبة كبيرة، على الجهد الشخصي في كيفية استقبال الظواهر الأدبية وتفكيكها وفق استقبال له هويته. تناول الباحث المغربي شعيب حليفي، وبدقة كبيرة، كما ظل يفعل في مقارباته المعروفة، موضوع التخييل والمجتمع في الرواية المغربية، مقدما إضاءات ذات قيمة كبرى تخص العناصر المشكلة للرواية في المغرب في السنين الأخيرة، وتحديدا في العشريتين الأخيرتين 1992 2012. وقد أشار الباحث بإلمام واضح إلى المسار والتشكيل الروائيين، مركزا على العناصر القاعدية التي أسهمت في ترقية الرواية المغربية وتقويتها، ومنها على وجه الخصوص: إسهامات الجامعة باعتبارها إطارا معرفيا بارزا له دوره الخاص وتأثيراته، إضافة إلى الدرس الروائي وما قدمته التيارات النقدية الغربية للنص، على اعتبار أن المغرب رافد من الروافد المتميزة وأحد المراكز التي انصب اهتمامها على الجهد اللساني والمدارس التي أسست على هذا المنحى. كما قامت الصحافة الثقافية بدور مهم من حيث تناول الأفكار ومناقشتها، ومن خلال الجدل الذي طرحته خلال هذه السنين. وثمة أيضا، من منظور الناقد، عامل المثاقفة المركبة الذي استقى من الموروث ومن الشرق والغرب. كما أن هناك الدور الذي قام به المثقفون الأدباء في التوجيه والإشعاع ومشاركتهم في الشأن العام ووعيهم بقدرة الرواية على تأويل المحيط الخارجي والعالم، إضافة إلى عامل التفاعل مع الأشكال والمتغيرات والاقتراب من الذات والتاريخ والمجتمع في تعاملهم مع اللغة والمتخيل، وهي عناصر أسهمت مجتمعة في صناعة رواية لها مسوغاتها وهويتها وعوالمها الخاصة بها. أما الباحث والأستاذ الجزائري حبيب مونسي فقد اشتغل على الرواية الجزائرية الحديثة، الواقع والمأمول، وقد فعل ذلك ضمن مشروع طويل تجلى في بعض كتبه النقدية السابقة، وفي الصحف، كما فعل ذلك كثيرا على شبكة التواصل الاجتماعي، إذ طالما ظل يطرح أسئلة جوهرية تخص قضايا الرواية وواقعها ومرجعياتها وهويتها السردية وآفاقها، وقد أثارت جدلا واسعا في أوساط الكتاب والمثقفين والجامعيين والمهتمين بالرواية. ويبدو أن هذه المقاربات المهمة هي التي سنجدها، ببعض التنويع في الدراسة والطرح. وقد تكون الجملة النووية التي احتكم إليها الناقد هي: هل يفترض في الرواية الجزائرية أن يكون لها إطار عام يحدد خصائصها ويميز لونها من بين الألوان السردية الأخرى التي لها مبرراتها وسياقاتها؟ كما ركز في قسم من العرض على رصد تحولات الرواية انطلاقا من رؤيتين، رؤية الكاتب ورؤية الناقد والقارئ بشكل عام. بيد أن سؤالا آخر ظل في صميم انشغالاته البحثية منذ سنين، ويتعلق بالذات والهوية السردية التي تمنح الخصوصية، وقد خرج بالاستنتاج الآتي، وببعض الجرأة التي قد تثير حساسيات كثيرة بالنظر إلى مسألة الأنا والمرجع: إن الذين يسعون إلى العالمية من خلال طرق موضوعات تقع خارج الحدود "الجزائرية" يتوهمون أن فعلهم سيكفل لهم العالمية من خلال خرق الحد، والحال أن الأعمال التي حازت شرف العالمية كانت متوغلة في المحلية. وهناك، موازاة مع ذلك، لإضافة أخرى يمكن أن تتحدد بنقص في التكوين بأبعاده المختلفة، الثقافي والفني والفكري والجمالي، وهي عناصر أثرت، حسب الناقد، على الاستيعاب الحقيقي، وربما لعب النقد الواصف دورا سلبيا في الكشف عن فجوات كثيرة بسبب طبيعته العارضة التي عادة ما لا تولي أهمية لعنصرين أساسيين: التقييم والتقويم كقيمتين ضروريتين لترقية الفعل السردي. متاهات يهودي للكاتب محمد الأحمد هو عنوان مقاربة الباحث العراقي فاضل عبود التميمي. وقد أشار في مقدمته إلى المنحى الجديد للرواية العراقية بعد سنة 2003، ولهذا التاريخ إحالة على مرجعية مركبة. وهو يرى أن الكاتب استطاع بعد هذا التاريخ أن يتجاوز بعض الممنوعات والخطوط الحمراء التي رسمتها فترة ما، وذلك بتناول قضايا الهويات والإثنيات والأقليات وبعض المسكوت عنه باستعادة التمثيل السردي لحالات ثقافية وفكرية طالما ظلت حبيسة الوضع. المقاربة في حد ذاتها تقنية، واصفة إلى حد ما، وذلك باستفادتها من آليات التحليل التي اقترحتها المدارس الفرنسية، ومنها السيميائيات البصرية، إضافة إلى الأدوات التي وجدت مع ناقدين اثنين: جيرار جينيت ويوليا كريستيفا. وقد قدم الأستاذ فاضل، مع ما يطرح من أسئلة على هذه الأنواع من المقاربات في الأعوام الأخيرة، دراسة تفكيكية دقيقة تخص العتبات، ومنها ما ارتبط بالغلاف والعنوان والتصدير والميتا سرد وسيرة المؤلف والمخطوطات كلعب سردية موازية للنص الروائي، معتمدا في ذلك على أجهزة مفاهيمية واضحة المعالم وحقول مصطلحية مضبوطة ومضيئة، مع بعض الانفتاح على الذات، أي على تأويل مقنع للعلامات اللغوية وغير اللغوية التي تم التعامل معها في إطار منهجي صارم. في حين جاءت دراسة الباحثة والروائية الجزائرية منى بشلم الموسومة: تعالق الرواية الجديدة بالأجناس التراثية، لتكشف عن نوع آخر من التناصات الخارجية الذي ميز بعض الروايات المعاصرة التي استلهمت من الموروث لمقاصد كثيرة فرضها السياق والتداول. وقد قدمت لدراستها، المؤثثة بزاد معتبر، بالعودة إلى الستينيات ومرحلة الحساسية الجديدة، كما عرفت في الغرب بفعل التشظي العام وتفتت القيم وميل المجتمعات نحو التشيؤ، ومن ثم بروز نزعات جديدة كالوجودية والعبثية ورواية تيار الوعي. ترى الباحثة، تأسيسا على عينات تمثيلية دالة استقتها من التجربة السردية العربية، أن رواية الستينيات لجأت إلى جماليات مغايرة، مستلهمة بذلك توجهات تجديدية بينة بالاستفادة الكبيرة من الكتابة التراثية وتجاوز الخطية المنوالية نحو شكل مغاير للمعيار المكرس سابقا. وهكذا، مع الوقت، غدت النصوص السردية متقاطعة مع عناصر أجناسية مشتركة بين النصوص الروائية ومنفتحة على الموروث، وأكثر تجذرا في التراث من حيث إنها كتابة تأصيلية ذات منحى مغاير، لذا كان التعلق واضحا بمجموعة من الكتابات القديمة، ومنها: السيرة الشعبية، المقامة، فن الترسل، الرحلة، الخط الذي يعود إلى الفترة المملوكية، وغيرها من التعالقات التي جاءت لتأدية وظائف عينية، وفي سياقات لها خصوصياتها المعرفية والتاريخية والسردية. كما قدم الباحث المغربي محمد معتصم دراسة بعنوان: سؤال المصير في خضم التحول (تنوع الحكايات)، متخذا رواية رغبات.. ذاك الخريف لليلى الأطرش عينة. الدراسة تقنية إلى حد بعيد، وهي تعتمد، في توجهها العام، على الدرس السيميائي، وعلى علم السرد، وتحديدا على بعض مقترحات بارت وفيليب هامون كورتاس وإيفروتير وكلود بريمون في كيفية التعامل مع التقطيع، وفي تحديد الأنظمة المقطعية التي تشكل النص، كما فعل ألجيرا جوليان غريماس في كتابه موباسان عندما طبق على قصة الصديقين، وكما فعل ذلك كثير من النقاد الذين اهتموا بمجال المرويات، كفريق أنتروفيرن بجامعة ليون على سبيل التمثيل. الدراسة غاية في الدقة المنهجية والمصطلحية، وهي تكتسي أهمية كبيرة على عدة أصعدة، ومنها المفاهيم والمصطلحات والوعي النقدي والقيمة التجزيئية للخطاب إلى وحدات وظيفية مشكلة له. وقد تناول الباحث، بدراية كبيرة وعمق في التعامل مع النص وأدوات التحليل المناسبة للمقاربة، ما تعلق بالموضوعات التي تم التبئير عليها في النص، بالمحكيات الكبرى والصغرى والتحتية والعلاقات السببية بين المرويات على اختلافها، مركزا في ذلك على طبيعة الأنواع المهيمنة: محكي أكبر إطار، محكيات كبرى امتداد، محكيات صغرى تامة، محكيات أصغر غير تامة، مقدما بذلك عملا ذا أهمية قصوى في كيفية تقسيم النص إلى أجزاء ومتواليات. عمار بن طوبال قلم جزائري له بصماته، كما تعكس ذلك كتاباته، إنه من ذلك النوع الذي نتوجس فيه خيرا بالنظر إلى اهتماماته وسعة اطلاعه على النقد والإبداع، وهو يقدم في دراسته المعنونة: الرواية ونقض النزعة السلطوية للتاريخ، قراءة سوسيولوجية لرواية متاهات ليل الفتنة للروائي والإعلامي عياشي احميدة، عناصر ذات قيمة اعتبارية مهمة، ومنها حضور التاريخ في المسرود، والكشف عن آليات المادة التاريخية وكيفيات توظيفها، وليس ماهيات الرواية التاريخية ومكوناتها كما هو متداول في الطرح الحالي، وهو يراجع، ببعض الدقة المفهومية، أسئلة بعيدة عن التصورات والمعالجات المعيارية المتواترة في هذا الشأن. كما كشف الباحث، ببعض المراجعة والمساءلة والإثارة، عن العلاقة بين التاريخ والمتخيل، والفرق بين منطق التاريخ ومنطق السرد، أو بين التخييلي والإملائي، مبرزا دور السرد في التأريخ للتحولات الاجتماعية بتقديم الحقائق الممكنة بصيغ متخيلة تتجاوز الحرفي، وفوق ذلك، تركيز الرواية على التأريخ للمهمشين بطريقتها الخاصة بها، الأمر الذي يتجاوز قدرات التاريخ والتأريخ. المقاربة إياها متعددة الإحالات والمنظورات، ولعل ذلك ما يسهم في تقويتها، إضافة إلى تأسيسها على قضايا مرتبطة بمساءلة المفهوم، أو بمراجعته انطلاقا من مقولات وآراء متواترة قد تحتاج إلى انضباط أكثر من حيث المفهمة والتعامل، دون الاتكاء على الأحكام التبسيطية التي قد تشوش المعنى وتساهم في تبديهه، أو في بلبلته وتحريفه عن نواته. في حين يقدم الباحث والروائي بوشعيب الساوري من المغرب، وبكفاءة معتبرة، دراسة بعنوان: الهوية بين الالتباس والانتفاض في رواية جنة الأرض لمصطفى الورياغلي. وهو يتطرق في مقدمتها إلى الرواية الحضارية وسرد الهوية، قبل انتقاله إلى التركيز على قضايا نفسية وفلسفية تتعلق بلحظة الكشف عن الذات الخفية بفعل عوامل كثيرة، أو استيقاظ الهوية بلقاء الآخر، مذكرا إيانا، بشكل ضمني، برواية موسم الهجرة إلى الشمال للروائي السوداني الطيب صالح عندما تستيقظ هوية مصطفى سعيد دفاعا عن أناه، وبأشكال مختلفة في إطار صراع ضار ومستمر بين الأنا والآخر، بين الأصول وامتداداتها وبين الوافد. تتحدد الهوية، من منظور الأستاذ بوشعيب الساوري، من خلال الخروج من الذات إلى اكتشاف الغير، أي أن اللقاء مع الآخر، مهما كان، يشكل، إلى حد بعيد، لقاء مع الأنا، من حيث إن اكتشاف لون الآخر وهويته وممارساته ورؤاه ونواميسه التي يؤسس عليها في الرؤية والموقف والفعل، يسمح بمعرفة الذات ومكوناتها ومرجعياتها وهويتها الحقيقية. أما زيف صور الذات فيحتاج إلى مقاومة ثقافية لتطهير الهوية من الشوائب العالقة بها. في حين أن الهوية عادة ما تنتفض في سياقات عينية للتمسك بمقوماتها القاعدية، وذلك بمقاومة هذا الآخر، أو الوافد إليها من الذوات الغيرية في إطار مثاقفة غير متكافئة، أو في إطار محاكاة وصيغ نقلية جاهزة غريبة عنها. هناك عناصر كثيرة من التماس بين هذه الدراسة الوافية وبين مقاربة الباحث الجزائري لونيس بن علي التي تحمل عنوان: الهوية الثقافية من الانغلاق الأيديولوجي إلى الانفتاح الحضاري، قراءة في رواية "كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك" للروائي عمارة لخوص، مع فروق في التموقع والتناول. يقدم الأستاذ لونيس لدراسته، قبل التركيز على الرواية، بمدخل مؤثث معرفيا يتناول قلق الهوية عند الإنسان المعاصر التائه ذي الثقافة الميالة إلى التسكع، بمفهوم والتر بنيامين، أي العلاقة الصدامية بين الفرد والمحيط بسبب ما أنتجته الرأسمالية الغربية، وبسبب تفكك الوجود الإنساني بعد انهيار السرديات الكبرى وظهور فلسفات الاغتراب والعدم والأنساق الجديدة في العالم، ثم بروز الحاجة إلى الهوية، إلى الوعي ضمن منظومات ثقافية منقسمة ما بين من يدعو إلى هوية شمولية جامعة، وبين دعاة تقوية الخصوصية والالتفاف حولها دفاعا عن الذات، وتفاديا للانمحاء في المنظور الغيري. ثم يعرج، بكثير من التفاصيل المهمة، على قلق الهوية في الرواية الجزائرية مستشهدا بكاتبين اثنين تجلت الظاهرة في كتاباتهما بشكل مثير: شكري خوجة ومالك حداد، قبل أن ينتقل إلى علاقة المنفى والمهجر بالكتابة الروائية، وكيف تتحول التجربتان إلى خلفية وجودية ومعرفية وسياسية لصياغة خطاب جمالي وثقافي حول الهوية، قبل الانتقال إلى مساءلة الهوية ذاتها، الكيفية واللمية، وصولا إلى هوية الخطاب ما بعد الكولونيالي، الهوية بين المطابقة واللاتماثل، الهوية والحرية، الهوية كنشاط فكري يقوم على الوعي بمكوناتها، سرديات الهوية والهوية السردية، تمثيلات الهوية، وصولا إلى العلامات الدالة على الهوية في الرواية، ما بعد الهوية، الهوية والأنساق الثقافية، الترجمة والتجسير، إضافة إلى بعض ما نجده عند يوري لوتمان فيما يتعلق بسيمياء الثقافة، كقراءة للأمارة والمحمول والدلالة والبعد. المحكي الروائي العربي، أسئلة الذات والمجتمع، كتاب غاية في الأهمية لعدة اعتبارات أكاديمية، منها مساهمة نخبة من النقاد والروائيين في إنجازه، وهناك القراءات المحترفة ذات المنطلقات المركبة في تحليل المنجز وعرضه، إضافة إلى ثراء المفاهيم والإحالات والمنظورات والحقول المصطلحية التي تم الاتكاء عليها في مقاربات لا يمكن الاستغناء عنها في الدرس النقدي الجديد. الجامعات بحاجة ماسة إلى مثل هذه الجهود الجماعية القليلة في الوطن العربي برمته، وقد يكون هذا المؤلف مدخلا للتفكير جديا في القيام ببحوث مشتركة من شأنها أن تجمع الباحثين وتعرف بهم وبمنجزاتهم، كما تفيد الدارسين والأكاديميين على حد سواء، لأن البحوث الفردية، مهما كانت قيمتها العلمية، قد تحتاج إلى هذا النوع من البحوث ذات المنطلقات والمناهج والمقاصد المختلفة، وذلك إثراء للرؤى، وإسهاما في جعلها أكثر انفتاحا وتنوعا وانتشارا، وأكثر حضورا وفائدة. مستغانم، الجزائر، ماي 2014