يعتبر الدكتور حبيب مونسي من الوجوه الأدبية المعروفة على الساحة الوطنية و العربية من خلال أبحاثه في المشهد السردي في القرآن الكريم إلى جانب إبداعاته الأدبية و إصدارته المتنوعة التي تحمل مغزى العمق و من خلال هذا الحوار الشيق نقف مع الدكتور حبيب مونسي على عدة محطات . *رمضان كريم و كل عام وأنت بخير و مرحبا بك في فضاء شموع . رمضان كريم لكل الأمة الإسلامية جمعاء و شكرا على الاستضافة رفقة قراء الجريدة الذين أحيهم و احي جميع المثقفين في الجزائر و كل الوطن العربي . * تتصارع الثقافة العربية حول ثنائيتين القديم و الحديث ، التراث و المعاصر ، الماضي و الحاضر و بدلا من الحوار كان الصراع الذي كانت نتيجته ذلك العنف الذي يشيع في حياتنا ،ما تصورك كباحث و مفكر للخروج من هذا الصراع ؟ إن المتفحص للمسألة من منظور حضاري لا يجد في ثنائية القديم و الجديد ، التراث و الحداثة ،شيئا يستغربه ، لأن روح الحضارة تقوم على هذه الازدواجية ، بل إن عدم وجودها في مجتمع ما ، يثير الكثير من الشكوك في سلامة ذلك المجتمع ، فالحركة الدائبة بين القطبين جيئة و ذهابا ، و ما يعتريها من احتكاك و ما تثيره من أفكار و ردود ، هو الذي يغذي الفاعلية الحضارية ، و يخصبها و يمنحها قوة التجديد و الاستمرار ، بيد أن الإشكال - فيما يخص الواقع العربي بصفة عامة ، و الواقع الجزائري بصفة خاصة _ أن التراسل بين القطبين لا يقوم على الحوار ، و إنما يؤسس خطابه على الصراع ، وذلك وهم تترتب عليه كثير من المزالق التي تجهض المشاريع الحضارية ، حينما تقوم رغبة الإقصاء . . . إقصاء الآخر و إلغاء رؤيته كلية ، و ليس هناك من تعريف للعنف في شكله المستعصي إلا هذه الهيئة من المواقف . إن حضور الثنائية في صلب الكيان الثقافي الجزائري تراث / حداثة ، قديم / جديد ، في حد ذاتها ظاهرة صعبة مثمرة ، إذا نظرنا إلى النتائج التي يمكن استخلاصها في التفاعل بينها ، ما دام حاضر الناس يختلف عن ماضيهم ، و ماضيهم لم يعد له من الحضور سوى ذاك الامتداد التاريخي الثقافي . * ما الذي يعنيه لديك مصطلح الخصوصية الحضارية في زمن يتسم بسيولة عامة غير محددة تقوم على فرض أنماط من التفكير في السياسة و الثقافة و هل في قدرة الثقافة الجزائرية بصفة خاصة و العربية بصفة عامة الحفاظ على هويتها القومية في مواجهة تلك المتغيرات التي تسعى جاهدة لتحويل عالمنا الثالث بأعرافه و ثقافاته و تراثه إلى كومة من الخردة ؟ يظن بعض الدارسين أن أكبر خطر يتهدد الخصوصية الحضارية ، يتمثل في العولمة ، ويظن البعض الأخر أن العولمة ، وهي حركة مد عاتية ستعقبها أو تصاحبها ردات فعل نحو الخصوصية ، فيها من خطورة التطرق ما يخشى أن تعود من خلاله الخصوصية إلى بعض مظاهر التزمت و الانغلاق ، و ما يصاحبها من أحاسيس الكراهية و البغض تجاه شعوب و أقوام ، كانت خامدة في ظل الانفتاح قبل العولمة، وهناك مقال صدر في المجلة الثقافية الكويتية لباحث أمريكي صيغ عنوانه في شكل سؤال : هل نحن أمام بربرية جديدة ؟ حينما لاحظ العودة إلى القوميات الضيقة في أوروبا الشرقية ، و انتشار وقود حرب اسمه التطهير العرقي و الكراهية تجاه الآخر ، وهذه الخصوصية البغيضة المنبوذة التي تغذيها بعض الأفكار التي لا هم لها سوى الاصطياد في المياه العكرة . إن العامل الثنائي الذي يصاحب العولمة زيادة على الاتصال و سيولة الفكر ، هو انفتاح الحدود أمام الآخر، في هذا الموقف بالذات يكون على الثقافة بالجزائر واجب الأخذ بما يمد الخصوصية الثقافية من متغيرات تجعلها ذات ألوان تمييزية واضحة الدلالة عند أهلها و عند الآخرين ثانيا . * المناعة الثقافية للمجتمع الجزائري تبدو ضعيفة كما تكشف عن ذلك أزمة الهوية و المرجعية و التواصل اللغوي بين الجزائريين ، فما رأيك في ذلك ؟ لقد أضحى مفهوم " العالم قرية " الذي كان تصورا مستقبليا منذ عهد قريب ، واقعا يفرض نفسه على جميع طبقات المجتمع ،فالصوت و الصورة لا تهمل في أهدافها العامة من الناس على اختلاف أعمارهم و مستوياتهم الثقافية و المعرفية ، فالحديث عن المناعة الثقافية أمام هذا السيل الدافق من الثقافات الجاهزة المعلبة لا يعدو أن يكون تخوفا لا يزيد في عقل الثقافة العربية بصفة عامة و الثقافة الجزائرية بصفة خاصة إلا بلبلة و اضطرابا ، فالمناعة ليست في رفض الوافد و التوقي منه و لكن المناعة في تشكيل أرضية معرفية الأصول ، تعمل على تقبل الوافد و الاستفادة منه أخذا و عطاء. * من المعلوم أن حضارة أي أمة هي بناء متكامل الأجزاء و المراحل ، فما هي في نظرك أولويات هذا البناء و الشروط الكفيلة بنجاحه ؟ الحضارة بناء تلك حقيقة أولية مما يجعل الحضارة تربية و تكوين و تنشئة ، و كل بناء إنما يقوم على أسس و قواعد يضاف إليها من الجماليات ما يجعل البناء بناء يجمع إلى متانة بنيانه جمال الهندسة ، و الشكل ، فالقواعد التي تكفل المناعة و الخصوصية لا يمكن استلامها إلا من مضامينها الأصلية ، ما يتصل منها بالجانب العقائدي ،و ما يتصل بالجانب اللغوي و ما يتصل بالمشروع الحضاري الذي تصبو الأمة إلى إنجازه في حاضر أبنائها و في مستقبل أجيالها . فالبناء الحضاري مشروع قد يستغرق وجود أمة من الأمم في ساعة نشأتها إلى غاية فنائها على بكرة أبيها . كتاب "المشهد السردي في القرآن الكريم" قراءة في قصة سيدنا يوسف الصادرة عن مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع بالجزائر العاصمة أخر اصداراتك الحديثة فماذا تقول عنه ؟ الكتاب يسعى إلى مقاربة السرد القرآني في أحسن القصص مستندا على تقنية المشهد مستعيضا بها على الأدوات الإجرائية التي تعتمدها السرديات الحديثة في تحليلها للنصوص الروائية، وهي المقاربة التي لا ترضى تفكيك الأثر الفني وعزل عناصره عن بعضها البعض وإحالة الوحدة إلى شتات وإنما يكفل لها المشهد الإطار الذي تنتظم فيه العناصر السردية في وحدة تامة البناء والتكوين، تتقاسم فيها العناصر السردية أدوار الفعل والتأثير بحسب تواردها في الدفق السردي فتنكشف علاقاتها الداخلية والخارجية على نحو ظل التحليل الحداثي يغيبه في كافة القراءات. ولقد اتخذ ت في هذا المؤلف نموذج من القرآن الكريم والمتمثل في قصة سيدنا يوسف عليه السلام لأنها تعتبر من أحسن القصص القرآني وتعتبر من النموذج الأوفى في المشهد السردي حيث ركز في قراءته الداخلية على نسيقة النص وما يملكه من تصورات عن كيفيات بناء الشخصيات في خضم الأحداث المشدودة إلى الزمان والمكان حيث قسمها إلى عدة عناصر منها الإطار الذي يعتمد على الزمان والمكان والشخصيات التي تعتمد على حسب الظهور الهيمنة والفعل والأفعال حسب طاقتها وقدرتها على تغيير الأحداث والأشياء حسب أثرها وتأثرها بالأفعال وعواطف الشخصيات حسب تقاطعها مع الأفعال والأشياء واللغة حسب استجابتها لطبيعة المشهد ودلالاته والخطاب حسب الدلالة المباشرة لما يشيعه المشهد في البناء السردي العام للقصة.وحسب المؤلف فإن هذه الرؤية التحليلية استنتجاها أساسا من النص القرآني نفسه. قد قسمت الكتاب الذي جاء في 276 صفحة إلى محورين أساسين وكل محور يضم عدة مشاهد ومنها الرؤيا التي تعتبر بؤرة التشكيل السردي والانفعال والفعل والكيد وإرادة التغييب والحوار لينتقل إلى المشهد الثاني الذي يخص رمي سيدنا يوسف في الجب، وملتقى الطرق الذي تسير فيه القافلة وأخذ الفتى إلى مصر وبعد ذلك تمكنه من الحكم فيما بعد، والمشهد الثالث خصصته لفعل المراودة من قبل زوليخة والإصرار والمواجهة وفي المشهد الخامس، السجن وفضاء العزلة ثم الرؤيا والنبوة ليخصص المحور الثاني للقاء الإخوة وغيرها من التواصل السردي. * كيف استعملت تحليل الأثر الفني في القصص القرآني ؟ اتخذت سورة يوسف كنموذج قدمت من خلاله دراسة ترتكز على مدى التدبر والاهتمام في استكشاف بعض الخصائص للمشهد السردي في قصة يوسف عليه السلام ، قراءة استندت إلى مناهج مختلفة في إطلالتها على القرآن الكريم ليعرض النص في وجه العصر وفكره وفلسفاته اللاحقة ليأخذ الإنسان اليوم الحكمة من القصص القرآني فإنه ليس بالأمر الهين تحليل أثر فني عميق كقصص الأنبياء وما تقتضيه طبيعة التحليل من جمال هذا الأثر الذي كثيرا ما يتسامى عن التعليل والضبط والتقويم، فإن مقومات الإبداع تفلت من قبضة الذهن، وفي طبيعته أنه لا يثبت للمعرفة العلمية وما دامت مقومات الإبداع تخضع للجنس الأدبي المتطور عبر الزمان والبيئة فإنها لا تلبث على حال فكيف إن تم تقيدها بالنص القرآني تحديدا وتعريفا وهي عرضة للزوال والتبدل في غيره من النصوص البشرية؟. من جهة أخرى ، إن القراءة في القصة القرآنية هي قراءة هينة، سلسلة، تستسلم لهدهدة السرد بينما تكون القراءة في الرواية الجديدة مصاحبة لقلق وللشخصية التي تتخبط في أوهامها الخاصة إذ لا يوجد اليقين إطلاقا في فكرها أو في واقعها أو في أحاسيسها إنما هي كتلة تتدحرج من حدث إلى حدث ولا يمكن لصفة " النمو " التي ألحقها النقاد بالشخصية القصصية أن تفيد في مقاربة الشخصية الرئيسية في القصة القرآنية خاصة قصة سيدنا يوسف عليه السلام لأنه لا يوجد تشكيل نفسي يركبه السارد على النحو الذي يتماشى مع الغرض الذي يقيمه لقصته فالتشكيل القصصي تركيب يسمح السارد فيه لنفسه بأن يعرض الشخصية لما يشاء من أحداث يفتعلها ويعقدها ليبلغ بها درجات عليا من الدراما قصد التأثير والمفاجأة وهذا ما يوجد في الروايات الغربية والعربية لكن لا يوجد هذا في القصص القرآني. * كانت مقاربة السرد القرآني من زاوية المشاهد حسب الدكتور مونسي تجربة جديدة عليه بحيث كانت نابعة من طبيعة المشهد الداخلي الذي أتاح له التعامل مع العناصر المشهدية بالصورة نفسها التي يعمد إليها الرسام في تدبير الموضوع الخاص بلوحته وتأثيثها بالعناصر التصويرية التي يرغب فيها تمثيلا لموضوعه ، فماذا تقول في هذا الخصوص ؟ استفادت من تقنية الخلفيات التي ينسجها الرسم من قبل البدء في توزيع العناصر المشهدية على اللوحة وكأن هذه الخلفية بألوانها وظلالها تحتمل العبء الأكبر في تقديم العناصر إلى الوجود بما تمهد من مجال فإذا كانت الخلفية في الرسم تعتمد الألوان، فإنها في المشهد السردي تعتمد على الظلال والعواطف والمشاعر والأحاسيس كما تعتمد على الأفعال وظروفها الخاصة إنها الحيز الذي تتراكب فيه العناصر في مسافاتها وأحجامها الخاصة، ومن تم تقوم بفعل التراسل فيم بينها، تراسلا يخدم التأثر والتأثير معا وكأن المشهد الذي كنا نراه في اللوحة ثابتا قارا قد غدا مشهدا متحركا يعج بالحياة بكل دقائقها. إن الحركة فيه تتبع من التعاليق البادي والخفي بينهما فالشخصية التي تتحرك في الحيز المنوط بها، تجد في الخلفية التي تقف عليها كافة المعطيات التي تحدد لون تفكيرها ومدى مشاعرها وحدة عواطفها بل تمدها الخلفية بالثقافي الذي يحدد قيمتها في المجال السردي والحياتي سواء بسواء. إنها الاستفادة الكبرى التي تأتي من الإفراج المسرحي ذلك العون في التقديم والتأخير لحركة الشخصيات استنادا إلى مبدإ الهيمنة إذ ليس هناك فضل لشخصية على أخرى في تأدية الأدوار، بل لكل دور من الأدوار قيمته التي تحدد وجهة السرد وتجدد فيه الحركة بما تمهده من حيوية ، إن فاعلية المشهد تتحرك خطوة أخرى حين تستبدل المشاهدة بالقراءة، فالقارئ لا يقرأ تواليا خطيا تفرضه الكتابة بل يشاهد حراك حياة تتوزع على عدد المشاهد لها بدايتها ونهايتها. وإذا كان السرد القرآني قد توقف على القمم في الأحداث والأقوال والأفعال فإنه ترك للمخيلة أن تعمل عملها الخلاق في إنشاء الكون السردي بعامة وتوزيع ألوانه وتسريع حركاته.