التباين الصارخ بين صلابة الجبل ونعومة الأمواج، بين شموخ القمم الضاربة في عمودية السماء، وانبساط الماء في أفقية البصر، وامتزاج عالمين من بر وبحر، هو ما يجعل "بجاية" ساحرة. وأنت تقود بحذر على الطريق المتعرج المحفور في الجبل، تمر بمحاذاة الصخور الناتئة والأشجار الباسقة؛ تتحدى الحجارة وتشرئب بهاماتها، بإباء، يروي حكايا جرجرة، ويردد صدى رصاص ثورة العزة. تمر داخل الأنفاق الكثيرة، في عمق الجبال، فيرتعد كل جسدك وأنت تتخيل كيف أنك في قلب الصخر تسير... يتحدى السائقون ومن معهم رهبة ذلك الشعور، بإطلاق مزامير سياراتهم والغناء وحتى الزغاريد.. ورغما عنك، تلاحظ أنك تقاوم الإحساس بالاختناق، في نفق مضاء، مزود بأحدث تقنيات التهوية، الممتد لمئات الأمتار؛ فكيف بك في حفرة مظلمة لا تتسع لأكثر من طول قدميك؟؟ بلا تهوية، ولا إنارة ولا فتحة شمس في نهايتها.. رحماك، يا إله الرحمة..! بعد النفق، تنظر إلى جهة البحر، فيأسرك الأزرق المبهر، تتموج درجات ألوانه نحو العمق. وبرغم روعته، فلن تقاوم الخوف الذي يبعثه فيك هدوءه المزمن؛ مرعب الجمال هو، مغر، كخطيئة قديمة، تضج بأجمل الملذات، غامض الصمت، بسيط ومستحيل، صاخب السكون؛ تحدّثه لساعات، فلا يملّ من سماعك. ونحن عائدون من سحر شواطئ " أفتيس" و" العوانة " نحو "مالبو"، بجيجل، تداعبك القرود القافزة على جانبي الطرق الجبلي، بأعجوبة؛ تنتظر منك إطعامها، وقد تخطف منك الهاتف إن حاولت تصويرها، حتى أنها قد تخطف الأطفال الصغار جدا.. وحين بدأ الظلام يسدل هيمنة سواده على الكون، فكرتُ في صعوبة الطريق بين الأحراش، وعدت بذهني إلى سنوات خلت، حين كان مجرد السير في هذه الدرب، ضربا من ضروب الانتحار.. تلك السنون العجاف، كم من أرواح بريئة حصدتها الكمائن والحواجز المزيفة..كم من قلوب فجعها ألم الفقد، ونفوس أقعدها الرعب.. ولكل هذا وغيره، ترانا، ونحن نسير على تلك الطريق الوعرة، نشغل "سي دي" السيارة بأعلى صوت، ونتمايل بحبور مع أنغام الموسيقى، راضين بمجرد العودة بسلام لبيوتنا وأهلينا؛ حتى لو كنا لا نملك قوت الغد الموالي. صرنا نردد عبارة " الله غالب"، ونحفظها أكثر مما نحفظ النشيد الوطني.. قد يبدو ظاهرها استسلاما متخاذلا أمام ما نراه من ثرواتنا تنهب وتضيع، استسلام من شعب توارث العزة أجيالا، لكنه في باطنه نوع من حكمة متعقلة؛ تفضّل طعم " الهنا" على مخاطرة الثورة ضد الفساد.. من قال أن شعبنا غير واع؟؟ إنه أكثر الشعوب وعيا بعدم جاهزيته بعد..للتعامل مع الديمقراطية الحقة ! وإلى" أن يحدث الله أمرا كان مفعولا"، نستمتع بأمان افتقدناه كثيرا.