هل انقرضت الأمثال الشعبية الجزائرية من واقعنا المعيش بعدما أنعدم أو قلّ استعمالها في الفضاءات العامة والمجالس الحميمة، وبخاصة في زمن شرس ازدادت فيه هيمنة ثقافة الوسائط المتعددة التي يعمل أصحابها على نشر نمط حياة لم يألفه مجمعنا؟ وطرحت على نفسي تساؤلات أخرى وأنا أدخل الأسواق الشعبية وأرتاد المقاهي الصاخبة، محاولا اصطياد أي مثل شعبي عريق. إن غياب الأمثال الشعبية من أحاديثنا اليومية لا يعني أبدا أن هذا الإرث الشفهي قد اختفى من مجتمعنا الحالي الذي كان إلى وقت قريب متشبع من التراث الثقافي ولكني شعرت أن الجزائريين استسلموا لواقع فرضته التكنولوجيات المعاصرة فصار حديثهم لا يخرج عن هيمنة الخطابات الفوقية التي تروج لها القنوات التلفزية، ومنصات التواصل الاجتماعي ومنه الفضاء الأزرق (الفيسبوك). ومن خلال استجوابي الشبانَ، لاحظت جهلهم الفظيع بهذا الإرث الثقافي الذي أنتجه أجدادنا لكن كلامهم كان يحتوي على حكم وأمثال مستحدثة بلغة عامية هجينة، كانوا قد تعلموها من "اليوتوبار" (youtubeur) ومطربي أغاني الراي ومنهم الشاب بلال صاحب "درجة درجة"، و"شريكي". لقد احتوت الفضاءات الجديدة عالمنا القديم الذي ورثناه دون دراسته فعجزنا عن غربلته وتكييفه مع المحيط الحضري فظل مستقرا في القاع ونحن نعتقد أنه تلاشى في عالم الحداثة. فمتى نلتفت إلى هذه الظاهرة ومجتمعنا الحالي يعيش في خضم تحولات كبيرة لم تخطر حتى ببال النخب المنشغلة بالتنظير للهوية؟ إن الصعوبة الأولى التي تواجه الدارس للمثل الشعبي تكمن في التعرف على المجتمع الذي أنتجه، وهو مجتمع الريف المرتبط بالطبيعة والحياة الزراعية، والذي كان يسكنه قبل استقلال الوطن أكثر من 90 في المئة، ويكاد اليوم ينقرض بسبب استقرار جل سكان الأرياف بالمدن والقرى التي كانت أغلبها "مراكز استيطان" أقامها الاحتلال الكولوينالي لنهب خيرات بلادنا، وقد واجه هؤلاء السكان التحديات الكبرى التي رافقت بناء مؤسسات الدولة بعد استرجاع سيادتنا الوطنية سنة 1962، ولكنهم وفي خضم التحولات السريعة فقدوا بعض معاني الترابية التقليدية الريفية، إلى جانب تخليهم عن جل مظاهر الثقافة التراثية القبلية (من القبيلة) في عالم سادته مفاهيم جديدة أفرزتها ثقافة عالمة معلبة تبنيناها بحماسة لعصرنة حياتنا العامة. لقد عرفت الجزائر هجرات عديدة من الريف إلى المدن والقرى الكبرى، أولا في أثناء المقاومات الشعبية والأوبئة والمجاعات، وفي زمن الثورة التحريرية، ثم في عهد بناء المؤسسات الوطنية وثوراتها الثلاث، وأخيرا في العشرية السوداء، وقد أثرت هذه الهجرات في التركيبة الاجتماعية والوضعية الاقتصادية للمجتمع كما أحدثت تغييرا جذريا في بنيته الثقافية بل أرغمت الفرد الجزائري على الانفصال عن القبيلة والعشيرة (العرش) ولم يعد عضوا فيها، ولكن هذه الصدمات التاريخية القوية لم تواكبها دراسات سوسيولوجية وأنثروبولوجية تمكن هذا الفرد من العيش في فضاء المدينة وبالأخص من التعرف على التحولات التي أسهمت في تشكل هويته المتحولة في ظرف جديد عليه، ومنها ما طرأ على المثل الشعبي باعتباره أحد الخطابات الفكرية المهمة في حياتنا الثقافية. وتجدر الإشارة إلى جهود بعض المثقفين في مرحلة ما بعد استرجاع السيادة الوطنية، ومنهم قادة بوتارن الذي أصدر كتابه الموسوم "الأمثال الشعبية الجزائرية: بالمثال يتضح البقال" كما انشغل روائيون معاصرون بتراثنا الثقافي ومنه الأمثال الشعبية فقد نشر للكاتب الأديب والأكاديمي عبد المالك مرتاض مؤلفه "الأمثال الجزائرية الزراعية"، وأسهم الروائي عبد الحميد بن هدوقة بتدوين أمثال قرية (الحمراء) مقسط رأسه، في كتابه الموسوم "أمثال جزائرية"، وجمع الروائي رابح خدوسي 3000 مثل شعبي في كتابه "موسوعة الجزائر في الأمثال". وبذل الروائي عز الدين جلاوجي جهدا معتبرا في تأليف كتابه عن الأمثال الشعبية الجزائرية بمنطقة سطيف. أما الروائي أحمد خياط فقد نشر كتابه الموسوم (الأمثال الشعبية على ضوء الكتاب والسنة النبوية). وقد سبقهم إلى هذا الكنز الشعبي العلامة محمد بن شنب الذي أصدر 1907 كتابا يحتوي على الأمثال العامية للدول المغاربية. بهذه االتآليف أسهم كتابنا في الحفاظ على جزء من تراثنا الشعبي وكأنهم شعروا قبل زمن الأنترنيت أن الأمثال الشعبية الجزائرية مهددة بالاختفاء أو الانقراض من حياتنا الثقافية فسارعوا إلى تدوينها، على أمل دراستها في ضوء مناهج علم التاريخ والأنثروبولوجية الثقافية. إن الأمثال الشعبية وبقصصها العجيبة وتأويلاتها المتنوعة، كانت مادة ثرية للمبدع الجزائري، فقد كان الروائي والباحث مولود معمري متميزا في البحث الانثربولوجي ومتحمسا لإحياء التراث الشفهي. أما الروائي الكبير الطاهر وطار وبذكاء وحس إبداعي أنشغل بالأدب الشعبي. ألم يذكرنا في روايته الشهيرة (اللاز) بالمثل الآتي: "ما يبقى في الواد غير حجاره"؟ وأمام خطر اندثار الأمثال الشعبية من تراثنا لم يبق الأمل إلا في جهود الباحثين القادرين على الغوص في عمق المجتمع الذي يوجه تحديات كبرى.