تزخر منطقة الجنوب بالكثير من الحكايات والأساطير والخرافات الجميلة والمثيرة كذلك والتي يمكن أن تقتبس للركح، وتشكل عرضا جميلا واحتفاليا كذلك تتوفر فيه كل شروط العمل الركحي الناجح. ويا حبذا لو يتوجه المسرحيون عندنا نحو هذا الإرث الثقافي الشعبي والعمل على مسرحته بدل التعب في الأخذ من أعمال كتبت أصلا للركح ، ولا تحتاج إلى اقتباس خصوصا أن العديد من المسرحيين استسهل عملية الأخذ من الأعمال الجاهزة للعرض بمسمي الاقتباس . إن عديد الظواهر المسرحية أو الإرهاصات كما يصطلح البعض تسميتها والتي يتداولها سكان الجنوب في ليالي سمرهم الطويلة أو يقضمون عروضا مشخصة لها بطريقة بدائية . قصصا وحكايا لا تحتاج إلى جهد كبير في نقلها إلى الركح وإعطائها كل مواصفات العرض الحديث والخلق،منها نصوص مسرحية لا تكون الجودة والمتعة فيها أقل من النصوص الأخرى. و أود اليوم الحديث عن ظاهرة وقفت عليها في الصحراء أثناء إحدى الزيارات، وهي في رأيي الخاص تشكل عرضا مسرحيا متكاملا من كل الجوانب ولا تنقصها سوى بعض التقنيات مثل الإضاءة و السينوغرافيا ونص مكتوب بإحكام دراماتورجي .ذلك لأن الظاهرة تتوفر على كل عناصر المسرحية من مقدمة وعقدة وصراع وبلوغ الذروة بالانفراج، تبدأ الظاهرة بصياد يطارد فريسة، وهو مجهز بكل ما يحتاجه من أسلحة الصيد بعدها يدخل الحيوان بدوره باحثا عن شيء يتغذى به ويقوم الصياد برمي الحيوان فيصيبه وعندما يسقط يقوم الصياد بذبحه ثم يسلخه وعندما يهم بتقطيع لحمه تدخل مجموعة من الصيادين " لا يهم عددهم"، عندما ترى الصياد وصيده ، تهاجمه في محاولة منها لأخذ الغنيمة وتنشب معركة بين الطرفين يجرح فيها من يجرح ويقتل من يقتل ، حيث يستميت الصياد في الدفاع عن نفسه والاحتفاظ بصيده وبعد صراع مرير تتم المصالحة بينهما لا غالب ولا مغلوب ،ويتم اقتسام الغنيمة، لتدخل بعدها مجموعة من النساء وهن يعزفن وينشدن على إيقاعات "التندي " ، وهي أغاني تشيد بالتسامح والإنسانية والمحبة والتعايش السلمي بين مختلف قبائل الصحراء ، ويتعانق الطرفان تعبيرا عن التصالح بينهما وينتهي العرض برقص مشترك بين كل الصيادين ،مرفوقا بتصفيقات النسوة المنشدات واللواتي هن أشبه بالكورس في المسرحيات الإغريقية مما وصلتنا. إن هذه الظاهرة أو الحكاية أو الأسطورة أو الخرافة، ولتكن لها كل هذه الأسماء. هي ظاهرة مسرحية بدائية متوارثة في الصحراء .لكنها باقية على حالتها البدائية لأنها لم تجد الكاتب الذي يعمل علي صياغتها وإعادة كتابتها أو تدوينها في نص مسرحي كما فعل الإغريق مع ظاهرة الاحتفال بباخوس إله الخمر والإخصاب عندهم، لتأخذ الشكل الفني الذي وصلنا و أصبح يعرف بالمسرحية. إننا نحتاج إلى الالتفات نحو موروثنا الثقافي والفني والعمل على استلهامه في إبداعاتنا المسرحية، إذ أن مثل هذه الظواهر والإرهاصات هي أشكال مسرحية بدائية عرفتها المنطقة الصحراوية ،كما عرفت مناطق أخرى ظواهر أخرى مشابهة، لكنها بقيت كما ولدت. ما أريد قوله من خلال إيراد هذه الظاهرة اليوم، وما سبق لي عرضه من ظواهر أخرى في غير الصحراء هو لفت انتباه كتاب المسرح عندنا إلى مثل هذه الظواهر وضرورة الاشتغال عليها. وكم يكون مبهجا وممتعا مشاهدة مثل هذه الظواهر ممسرحة على الركح وتقدم بوسائل حديثة مع احتفاظها بروحها الاحتفالية الراقية، إنها دعوة لكل الفاعلين في الساحة المسرحية وبشكل خاص منهم المتواجدين في الجنوب عوض البكاء والتشكي من عدم وجود النصوص المسرحية ، وهو في رأيي بكاء باطل، إذ النصوص موجودة في محيطهم وما عليهم سوى الانتباه لما تتوفر عليه المنطقة من الظواهر المسرحية والعمل على مسرحتها، ولا أشك لحظة أن مثل هذه العملية سوف تكون دفعا قويا للحركة المسرحية وتأصيلا لها والانطلاق نحو العالمية التي منطلقها الأول المحلية ، وهو ما فعله ويفعله عديد الكتاب في أنحاء مختلفة من العالم ، ممن قرأنا ونقرأ لهم، فتبهرنا نصوصهم وما مصدر انبهارنا بهم سوى محليتهم وأصالة وعراقة تراثهم الثقافي وما تركه الأسلاف من إرث في شكل حكايات وخرافات جميلة تمثلوها ومثلولها لتمثلهم بدورها في أنحاء العالم.