تواجه الجزائر، في المرحلة الحالية، رهانات و تحديات كبرى ترتبط بالبناء الوطني للدولة الجزائرية، و يتمثل ذلك في التنمية الاقتصادية و السياسية والثقافية. و لعل من أبرز المسائل التي تشغل المجتمع الجزائري، نذكر القضايا اللغوية والثقافية التي تحدد الهوية و الانتماء، و هي قضايا لا تزال تثير الجدل الفكري و السياسي و ربما لمدة قد تطول ولأكثر من سبب. و تجدر الإشارة إلى أن الجزائر تضم لغتين وطنيتين رسميتين ( اللغة العربية و اللغة الأمازيغية) ، والعديد من اللهجات العامية، إلى جانب اللغة الفرنسية بوصفها لغة أجنبية ذات حضور قوي ولغات أوروبية أخرى مثل الاسبانية في المنطقة الغربية من البلاد والايطالية في المنطقة الشرقية، كما تتميز الجزائر بكونها تتسع لمجموعة كبيرة من الثقافات المحلية، التي تختلف من منطقة لأخرى. و من المفيد التذكير أيضا أن الجزائر قد عرفت استعمارا مدمرا لكيانها الاجتماعي و الاقتصادي والثقافي واللغوي، و قد قدم الشعب الجزائري التضحيات الجسام في سبيل استعادة سيادته السياسية و هويته الوطنية. و سعت الحكومات المتعاقبة منذ الحصول على الاستقلال إلى الآن لترميم و إعادة بناء ما تم تدميره من قبل الاستعمار و على جميع المستويات. هذا بالإضافة إلى أن الجزائر عانت في الآونة الأخيرة، أي منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي الأزمة السياسية والأمنية الكبيرة و الخطيرة التي مست أركان الدولة الجزائرية و كادت أن تقضي عليها، و لا تزال آثارها بادية للعيان و جراحها لم تندمل بعد، وقد ذهب ضحية هذه المأساة عشرات الآلاف من المواطنين. كما تعرضت البلاد في هذه الألفية الثالثة للاضطرابات الاجتماعية التي نتج عنها تدميرا داخليا للقدرات الوطنية، في كل من منطقة القبائل و في مدينة غرداية. وتواجه الجزائر حاليا تداعيات ونتائج الربيع العربي الذي هدد و يهدد انسجام و تماسك الدول الوطنية حيث تسعى القوى العظمى من وراء هذا الحراك السياسي إلى إعادة رسم الخرائط الجغرافية والسياسية للعالم العربي، ويترافق كل ذلك مع ما تشكله العولمة المتوحشة من أخطار على المجتمعات المحلية تسعى إلى تشظي الهويات والأوطان، و ما تشاهده البلدان من محاولات جادة للانفصال عن الحكومات المركزية وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط (الأكراد) و في أوروبا (كتالونيا) و في إفريقيا (الكاميرون)، و غيرها من الدول و الأقاليم. كل هذه الأحداث والوقائع و التحولات السياسية تفرض علينا مناقشة مستفيضة لما يجري في هذا العالم الذي ننتمي إليه. وعلينا أيضا فحص مفهوم الهوية في علاقته باللغة وبالثقافة، بالاعتماد على رؤية متبصرة للمنطلقات الفكرية والمنهجية لكل المفاهيم التي نوظفها في هذا الإطار بغية وضعها في إطارها المعرفي الصحيح و الملائم لمقتضيات الحال، و أيضا وضعها في سياقها الوطني الذي يفرض حوارا فكريا بين جميع الأطراف التي تهمها مثل هذه الأمور الفكرية. إشكالية الهوية: في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، أصبح الحديث عن مفهوم الهوية يحتل الصدارة في كل النقاشات و في جميع المجتمعات، «إذ لا تخلو ثقافة من الثقافات المكونة للنسيج الإنساني على وجه البسيطة من سؤال الهوية». و تضاعفت هذه النقاشات مع ما يشهده العالم من محاولات للهيمنة الثقافية التي تترافق مع مظاهر عولمة تسعى للقضاء على الخصوصيات الهوياتية للأمم و للأوطان، التي تقابلها في الجهة الأخرى نداءات تدعو للحفاظ على لغات و ثقافات المجتمعات المحلية الشعبية و على لهجاتها. إذا ترتبط مسألة الهوية باللغة و بالثقافة ارتباطا شديدا، و تشكل هذه المفاهيم الثلاثة ، (أي الهوية واللغة و الثقافة)، بتداخلها و تعدد معانيها عنصرا مهما في النقاش الذي يدور حول مسوغات بناء الدولة الجزائرية بهويتها الوطنية ولغاتها المتعددة و ضرورة الحفاظ على أمنها السياسي و الثقافي والاقتصادي، وتقتضي مناقشة هذه العناصر الثلاثة أيضا الاعتماد على منجزات العلوم الإنسانية، مثل علوم اللغة واللسانيات و علم الاجتماع وعلم النفس و علوم الاتصال والتاريخ و الأنثروبولوجية... كون الهوية قد تكون فردية وجماعية، و وطنية وثقافية، و تعريفاتها كثيرة. وبادئ ذي بدء لا بد من الإشارة إلى أن الفرد لا يستطيع العيش دون الجماعة فهو ينتمي إليها، انتماءا حقيقيا و مرجعيا تتدخل فيه العديد من العوامل مثل السن والجنس والمهنة و الثقافة و الدين و الطبقة الاجتماعية، و غيرها من العوامل التي تجعل من الفرد عنصرا أساسيا في تكوين المجتمع و انسجامه. و في السياق هذه الأفكار يمكن القول أن الفرد باعتباره جزءا لا يتجزأ من المجتمع يعيش هويته الفردية و الذاتية المبنية على الوعي بالذات كما يعيش هويته الجماعية المبنية على العلاقات و التمثلات الاجتماعية التي يكونها داخل المجتمع الذي ينتمي إليه. أما عندما يتعلق الأمر بالانتماء الوطني فإن الفرد يعيش هويته الوطنية التي تتمثل في الشعور بالانتماء إلى جماعة كبرى قد لا يعرف أو يتعامل إلا مع القليل من أفرادها و لم يزر سوى بعض المناطق منها، و لكنه يشعر أنه يتقاسم معهم أشياء كثيرة، منها ما هو مادي و منها ما هو رمزي. وهنا لا بد من الإشارة على أن الهوية الوطنية تختلف عن الجنسية التي هي ذات بعد سياسي أو قانوني. وقد تعدد الهوية من كونها تشمل كذلك العرق أو الدين أو المقام الاجتماعي أو الانتماء الأيديولوجي، إلى أخره... و لكون الفرد يبحث عن الاعتراف من قبل الآخر، و كون الآخر (أو الغيرية) هو الوجه المقابل للأنا الفردية أو للذات الجماعية عندما يتعلق الأمر بمجتمع ما في مقابلته لمجتمعات أخرى. وعلى هذا الأساس فإن الهوية هي «شعور داخلي و خاص يتوقف على الطريقة التي تم بها الاستيعاب الباطني للمعالم الهوياتية مثل اللغة والممارسات الاجتماعية و الثقافة والموسيقى والطبخ و أشياء أخرى، و في العموم إن الهوية ليست جامدة، فهي تتطور عبر الزمن، كما أن الشعور بالهوية قد يتشدد عندما تتعرض الهوية لتهديد الزوال، أو الوسم و التهميش». و ستظل مسألة الهوية مسألة معقدة و علينا مقاربتها و معالجتها وفق منهج علمي وأيضا وفق المصادر الأدبية و الفلسفية (أي من منطلق الثقافة العالمة) ومن منطلق المعيش اليومي (الثقافة الشعبية)، فالإحالة على أسس الهوية الوطنية ومرجعياتها ليس سهلا، كون الهوية ليست ثابتة بل تعرف التحولات نفسها التي يعرفها المجتمع في تفاعله مع مختلف الأحداث و الوقائع التي تمر بها الأمة في تشكلها السياسي. و لا يتعلق الأمر في هذا الباب ب«يافطة أو بماهية ثابتة نلصقها بجماعة، لكن بالأحرى هي مسار لبناء ولتماثل تطوري يأخذ بعين الاعتبار التحولات السوسيو-ثقافية و السياسية والاقتصادية» إذا فالهوية هي نتاج اجتماعي بامتياز، يجعل الفرد يمر منذ طفولتها الأولى عبر عدة مراحل و يخضع للتنشئات الاجتماعية المتعاقبة و المتدرجة في حياته، بفعل تأثير مؤسسات عديدة كالعائلة و المدرسة و مؤسسات ثقافية و تربوية ودينية و سياسية أخرى، و ما ينطبق على الفرد يسري على المجتمع باعتبار أن كل من الفرد و المجتمع متلازمان. وهذا يجرنا إلى القول أن كل شيء يتغير، و يعرف مسارات جديدة و تحولات عميقة، عبر التاريخ الطويل، «فالأساس السوسيو-ثقافي قد يتعرض للتغييرات وتتبدل اللغة، كما يتأثر الصفاء العرقي و كما يعرف الإقليم تحولات. هذا بالإضافة إلى أنه بإمكان، وفق السياق، أن تتناقض هذه المرجعيات الهوياتية وأن تتقاطع أو أن تتطابق». و لعل قراءة متأنية في تاريخ الشعوب و الأمم قد تدلنا على التحولات العميقة التي مرت بها هذه التجمعات البشرية المختلفة، ومنها الجزائر، وهنا تلعب الهزات و التمزقات الاجتماعية و السياسية والثقافية الكبرى و حتى الطبيعية في توجيه المسارات و التجليات و التصورات والدلالات في البناء الهوياتي. و في هذا المضمار تلعب اللغة دورا أساسيا في تحديد و تشكيل الهوية الفردية أو الجماعية، حيث أنها «تمثل جزءا لا يتجزأ من هويتنا و تشكل أكبر عنصر في كل تبادل ثقافي و لساني»، و لهذا فالهوية هي نتاج «للعلاقات الديناميكية بين الفرد والممارسات الاجتماعية اليومية و منها الممارسات اللغوية، إذ يتم بناء الهوية و يعاد بناؤها باستمرار. وتلعب اللغة، بوصفها عنصرا لهويتنا، دورا أساسيا في العلاقات الثقافية واللسانية». و يمكن القول أيضا أن «الانتماء الديني والانتماء اللغوي هما، بديهيا، من بين أقوى مكونات الهوية،»، على أن لكل من عنصر اللغة أو الدين مجال خاص به واشتغال خاص يتفق مع الخلفية الثقافية لكل مجتمع. و بالحديث عن اللغة، تجدر الإشارة إلى أن دارسي اللغة من لسانيين و علماء اجتماع والأنثروبولوجيا، يتفقون على كون اللغة ظاهرة و مؤسسة اجتماعية، إذ لا يمكن لأي مجتمع أن يعرف انسجاما وتواصلا بين أفراده دون وجود لغة توظف بوصفها أداة اتصال و تواصل بين مكوناته و أداة تعبير عن الحاجات المختلفة التي يضمنها العيش المشترك و العمران الاجتماعي. و مما يؤكد ارتباط اللغة بالمجتمع و بالتالي بالهوية وبالثقافة، كون اللغة تؤدي وظائف متعددة على المستوى الاجتماعي و الثقافي و السياسي، و ترتبط بتاريخ المجتمع و تعرف التطورات ذاتها التي يعرفها المجتمع في الحاضر و في المستقبل و تؤثر في تحولاته و تتأثر بها. فاللغة إذا هي «وسيلة للاندماج الجماعي وللتأكيد الفردي، تشتغل اللغة بوصفها محددا و بوصفها قرينة انتماء. و لكونها وسيلة اتصال، فاللغة هي كذلك كيفية للتعبير عن الثقافة و وسيط للهوية». اللغة و الهوية الثقافية إن مسألة العلاقة بين اللغة و الهوية الثقافية ليست جديدة، و هي علاقة معقدة بدأت في الظهور لما باشرت اللغات طريقها إلى التقنين من خلال وضع المعاجم والقواعد النحوية على وجه خاص. و قد كان ذلك مع اللغة العربية في عصر التدوين في الفترة العباسية وقبله تدوين القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين ثم تلاها تدوين الحديث النبوي الشريف. كان الهدف من وراء ذلك الحفاظ على عقيدة المسلمين من الضياع و على وحدة المسلمين الدينية والسياسية والثقافية و على سلامة اللغة العربية، و كان فيما بعد تدوين السيرة النبوية وتاريخ المسلمين والشعر واللغة و علوم أخرى لتعزيز هذه الأهداف. وترسخ دور اللغة الوطنية داخل المجتمعات مع الظهور الحديث لفكرة الدولة-الأمة والأوطان و الأقاليم في أوروبا تحت شعار «لغة، شعب و أمة» و هو «شعار أسهم في القرن التاسع عشر في تحديد الأقاليم الوطنية، وفي ذات الوقت في انطلاق الصراعات للدفاع عن هذه الأقاليم أو امتلاكها، كما أسهم في نشأة «الوعي الوطني»، إن هذا الوعي أو الشعور الوطني هو الذي سيدفع بالجزائريين إلى التكتلفي الأحزاب الوطنية والجمعيات الثقافية منذ عشرينيات و ثلاثينيات القرن الماضي للدفاع عن هوية السكان الأصليين والمطالبة بالاستقلال عن الدولة الفرنسية الاستعمارية. و قد خاض الجزائريون في تلك الفترة معارك كبيرة من أجل تحقيق تلك الأهداف المتمثلة في إعطاء المكانة التي تليق باللغة العربية و بالثقافة الإسلامية الأصيلة، و التنويه بدور جمعية العلماء المسلمين في هذا المجال ضروري و أكيد. و تواصل هذا العمل في فترة الاستقلال و نتج عن هذا المخاض خريطة لغوية فريدة من نوعها، مما يفرض علينا التوقف عندها.. يتبع