استضاف أول أمس المجلس الأعلى للغة العربية، في إطار نشاطه الثقافي منبر “حوار الأفكار” بفندق “الأروية الذهبية”، الدكتور بومدين بوزيد لمحاضرة ألقاها بمناسبة اليوم العربي للغة الضاد، تحت عنوان؛ “الأمن اللغوي والاستقرار الاجتماعي”، بحضور نخبة من رجالات الفكر، العلم، الثقافة والإعلام. في بداية الاحتفاء بيوم لغة الضاد، ألقى السيد علي طالب جيلالي، الأمين العام للمجلس الأعلى للغة العربية، كلمة افتتاحية رحب في مستهلها بالحضور، وعلى رأسهم السيد وزير الاتصال، محمد السعيد، إلى جانب الباحثين وممثلي وسائل الإعلام، موضحا في كلمته أن هذا المنبر يناقش الموضوعات المتعلقة بترقية استعمال اللغة العربية وتحديث مضامينها، لكي تواكب حركية التطور التي تعرفها البشرية. وأضاف الأمين العام أنه تم الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر الماضي، وها نحن نحتفي باليوم العربي للغة الضاد، مؤكدا في هذاالسياق أن اللغة العربية في أمس الحاجة إلى من يستعملها ويتعامل بها، وهي في أشد الحاجة إلى الإنتاج الفكري والإبداع الفني، وإلى كل ما يعزز من مكانتها في وسائط التكنولوجيات الحديثة، خاصة الشبكة العالمية. ليلقي بعدها الدكتور بومدين بوزيد محاضرته الموسومة ب “الأمن اللغوي والاستقرار الاجتماعي”، حيث أكد فيها التزاوج في العنوان بين الأمن والاستقرار اللذين هما مبتغى الطمأنينة في مواجهة التهديد والمخاطر، والهيمنة اللغوية هي نتيجة لأنواع الهيمنة السياسية، الاقتصادية والإعلامية، وأضاف المحاضر أن “الثنائية اللغوية” غير المنتجة تحدث التمزق اللساني، الفكري والاجتماعي، فيكون اللا استقرار والخلل في العلاقات التواصلية بين الفئات الاجتماعية والنخب. ورأى المحاضر أن استخدام مفهوم الأمن اللغوي يأتي في إطار المعاناة من الهيمنة التي تحدث الاغتراب والتمزق اللغوي الثقافي، خصوصا إذا كانت الهيمنة تاريخية تحول دون تطوير اللغة الأم وانتشار المعرفة، مؤكدا أنه ينبغي ألا نستخدم مفهوم الأمن اللغوي في ظل مضمون قديم انكفائي يخاف من التجديد واللغات الأخرى، ولكن يضيف المحاضر يجب أن يرى في التطورات التقنية الرقمية الجديدة وسيلة للأمن، وفي نفس الوقت لللا أمن، إذا لم نطور لغتنا ونعتبرها حصنا وثغرا لهويتنا، ومن هنا يصبح “الأمن اللغوي والثقافي مرتبطا بالأمن الاجتماعي والسياسي”. وأضاف المحاضر أن دراسته هذه ترتكز على ربط الاستقرار الاجتماعي وتعالج قضايا اللسان والهوية معالجة علمية، من خلال استثمار التطورات التقنية الجديدة، وبضخ أموال استثمارية في خدمة هويتنا ومواصلة الدفاع عن منظومة قوانين ومواثيق تحمي لساننا ومرجعيتنا الوطنية والتاريخية. كما تطرق المحاضر إلى تطور مصطلح الأمن من المفهوم العسكري إلى المفهوم الإنساني الشامل، من خلال تمدده وترحيله في حقول المعرفة الإنسانية والاجتماعية، فالترحيل أضحى من المجال المعرفي العلمي الدقيق البحت إلى المعرفة الاجتماعية ، أو من خلال سياق ثقافي خاص بشعب من الشعوب إلى آخر، ويرى الدكتور بوزيد بومدين أن مفهوم الأمن يتحقق في تأمين كيان الدولة داخليا وخارجيا، وتحقيق الاستقرار السياسي، الاجتماعي والاقتصادي، مع تحقيق الرضا التام لأفراد المجتمع. كما تطرق المحاضر إلى قضية العولمة والأمن اللغوي، حيث يرى أن ذلك يتم من أجل حماية الحدود بالمعنى الأمني الجديد، وليس في غلقها وإبقائها على ماضويتها، ولا يتم لها ذلك إلا باستعمالها للمفاهيم الثلاثة؛ “الأمن الفكري والثقافي واللغوي”، إذ لهذه المفاهيم صلة بالعلاقات الدولية وحوار الأديان والثقافات، أمام الثنائية الجديدة “الهوية والعولمة”، حيث يقع التجاوز في بعض مضامين إشكالية “الأصالة والمعاصرة” أو “التقليد والتجديد” التي تم طرحها في فضاء ثقافي تاريخي في المشرق، وفي المغرب ضد الاحتلال. واستخلص المحاضر في تحليله لقضية التجديد الثقافي، أنه لا يمكن أن يتم إلا من داخل اللغة العربية، وذلك بإعادة بنائها وممارسة الحداثة في معطياتها وتاريخها، مع التماس وجوه الفهم والتأويل لمسارها حتى تسمح بربط الحاضر بالماضي في اتجاه المستقبل، واعتماد الإمكانات اللا محدودة التي توفرها العولمة نفسها، وفي مقدمتها العلم والتكنولوجيا. كما تناول المحاضر قضية الازدواجية اللغوية وثقافة الهامش، وعن كيفية تنشيط مفهوم الأمن اللغوي في إطار تنمية اللهجات واللغات الإقليمية في مواجهة اللغة الرسمية المهيمنة، لهذا، يشير المحاضر إلى أن البعض يردد اعتماد “الدارجة” كمخرج لغوي، ويسعون في تثبيت ذلك من خلال تشجيع قنوات إعلامية فيها تهجين وخليط من كلمات، منها ماله أصول بلهجات محلية وفرنسية تنطق بشكل عربي في آخر الكلمات، هجين من الجمل يعتقد أصحابه أنهم بذلك يتواصلون، ولكنهم يعبثون بالعلاقة السليمة بين “اللغة والتفكير”. وأضاف الدكتور بومدين بوزيد في تحليله، أنه إذا ما حاولنا الربط بين اللغة وما يشهده العالم اليوم من تطورات تكنولوجية مهيلة وسريعة، واتصال مرقمن متميز، يطرح أمام الشعوب المتقدمة والنامية، في نفس الوقت، الانشغال بمصير لغاتها، ثقافاتها، هوياتها ومستقبل منظومة القيم المشتركة المؤطرة لقيم المجموعات، ضمن هذا التطور العلمي والتكنولوجي الذي لا يصاحبه بنفس وتيرة السرعة، الاجتهاد والتفكير حول قضايا الهوية، اللغة والثقافة، تطرح علينا اليوم قضايا تحد حقيقية تتعلق ب “أمن لغتنا” سواء العربية أم الأمازيغية، فالحدود الجديدة تستدعي تعبئة من نوع خاص، وهي؛ “حدود اللغة والهوية. وأكد الدكتور بوزيد أنّ “الأمن اللغوي” والسعي نحو عربية حديثة ومتطورة، معناه التفتح وضمان عدم اضمحلالها أمام اللغات الأخرى التي صار بعضها جزءا من المنظومة التربوية في البلدان العربية، الفرنسية في المغرب العربي والإنجليزية في المشرق العربي، كما أن طرح مسألة الأمن اللغوي ليس بديلا عن عبارات “الغزو الثقافي” أو ثنائيات “الأصالة والمعاصرة” التي فكر فيها ضمن رؤى التوفيق والتلفيق، سابقا. كما تناول المحاضر الاتهامات التي تتهم بها اللغة العربية عن جهل أو قصد ذلك لعزلها، وما يسبب في حرمان شعوبنا من تطوير لغتهم، وحياتها التي تكمن في اللسان الذي تعبر به، كما أكد أن علاقة اللغة بالفكر لم تعد تطرح بالمضامين الفصلية السابقة في التفضيل والأولوية أو من هو الأسبق، بل إن علم الأعصاب وعلوم أخرى مصاحبة لها تؤكد أن اللغة والتفكير جزء من العملية الدماغية. مضيفا في استعراضه لهذا الموضوع، أن اللسانيات الحديثة شديدة الاتصال بالرياضيات، المنطق، النفس، الاجتماع، الأنثربولوجيا، الأنثولوجيا، التاريخ، الأدب والسياسة، وهي شديدة الاتصال بوسائل الاتصال الحديثة والإعلامية. كما تناول المحاضر في مبحث “اللغة العربية وخصائص المعرفة الجديدة”، الجمالية، المعلومة، المعلوماتية والمعرفة التي تتحول إلى ثقافة وقيم رمزية، إلى قيم للتقدم والدفاع عن الحريات والديمقراطية، والمعرفة الجديدة، فالمصنع الجديد لا يحتاج في الغالب إلى كثير من الشروط التقليدية للقيام بدوره الإنتاجي، بل يكتفي بقوة واحدة وهي القوة الابتكارية. وأنهى المحاضر دراسته بالقول؛ إن بناء قاعدة مجتمع المعرفة، يؤكد أن التقدم نحو هذه المجتمعات يقتضي استخدام اللغة المشتركة التاريخية دون انغلاق لغوي نحو الآخر، وهنا يكون علينا تأصيل الوضع العالمي للغة العربية. وفي نهاية المحاضرة، تدخّل كل من الأستاذ عثمان سعدي والأمين العام للمجلس الأعلى للغة العربية، واستعرضا كيف تطورت الشعوب التي أعادت الاعتبار للغتها التاريخية، مثل؛ الفيتنام، أندونيسيا وغيرهما من البلدان التي كانت ترزح تحت ربقة الاستعمار .