يُلاحظ مدى غياب الحاضن الاجتماعي للعلوم في البيئة العربية؛ هذه البيئة التي تستهلك التكنولوجيا وتتفاخر في استخدامها ومع ذلك لا تحترم العلم، بل ولا تقيم له مقدار!. ويصبح الإعلامي العلمي في هذه البيئة مثل الذي يروّج لبضاعة ثمينة، لأناس لا يعرفون قيمتها، فيزهدون عنها وعنه. فالمجتمع العربي لديه حواضن للسياسة والرياضة والطرب، لكن ليس لديه حاضن للعلوم، ودعونا نرصد الظواهر حولنا؛ أما الحاضن السياسي، فأظن أحوالنا (الحالية) تأتيكَ بالأخبارِ منْ لم تزودِ! فلا يخفى عن المتابع انقسام الشارع العربي بعد أحداث 2011م إلى فئات متباينة، إلى حد التناحر!... أما الحاضن الرياضي؛ فحين تقام مباراة كرة قدم بين فريقي ريال مدريد وبرشلونة، ينقسم الشارع العربي إلى فسطاطين حول الأمر، دون أن يكون لهم ناقة ولا جمل في ذلك، ويعلن بعض ناشئتنا حالة الطوارئ أثناء إقامة مباريات كأس العالم أو دوري أبطال أوروبا، رغم أنه لا يوجد فريق عربي وصل لدور الثمانية في تصفيات كأس العالم! وفي الطرب، انظر (هَوَسْ) طبقة الشباب بمطربيهم، خصوصا مطربي الأغنية الشبابية التي جاءت على غرار هذه العصر، في سرعتها وتشنجها وكلماتها المجلوبة من سوق الخضار – كما يقول الشاعر نزار قباني! ومع هذا فإني أجد أن كل هذا أمر صحي – إذا وجّهنا الذوق نحو الأفضل إجادة، وبدون غلو ولا تنطّع. لكن أين الحاضن العلمي؟ يتجلى البون الشاسع بين وجود الثلاثة السابقة لدى الجماهير العربية وتفاعلها معها وبين إهمالها للهم العلمي، ويمكنك أن ترى هذا بوضوح في التباين الشاسع بين اهتمام الناشئة بمباريات كأس العالم ودوري أبطال أوروبا وبين اللامبالاة تجاه أخبار جائزة نوبل، وكذلك بين وجود مجلات متخصصة لكل هم من الهموم الثلاثة السابقة وعدم أو ندرة وجود مجلة علمية منتشرة بين الجماهير، وعدم مبالاة الصحف العربية بموضوع العلوم وتبسيطها، ونشر أخبارها بشكل غير مدروس ولا مخطط له إلا لتغطية مساحة فارغة، في حين لا تخلو أي صحيفة أو مجلة أمريكية من صفحات علمية، يحررها متخصص قادر على تبسيط حقائق العلم الحديثة، وعرضها بصورة يستطيع كل قارئ أن يستوعبها. إن صناعة حاضن للعلوم في مجتمع لم يتفق على تعريف العلم بعد، لهو من سابع المستحيلات! مع هذا هناك جهود يقوم بها أفراد وبعض المؤسسات من أجل تبيئة العلم في هذا الأرض البور، لإيمانهم أن تبيئة العلم أهم من استيراد التكنولوجيا، ومن هذه الجهود هذا الكتاب الذي بين أيدينا حيث يقدّم فيه مؤلفه المهندس/ محمد أمين بشيرباي بما وضّحه أنه مقاربة للواقع الثقافي والاجتماعي بظواهر علمية بسيطة. الكتاب مكوّن من عدّة مقالات علمية يصحبنا فيها المؤلف - من خلال تخصصه الرئيسي الهندسة البتروكيماوية وتخصصات علمية أخرى مقاربة - في رحلة للحديث عن مشاكل المجتمع الحياتية لكن بواسطة مصطلحات تلك العلوم، فنتعرّف على دور الضغط والحرارة في تكرير البترول – بما سماهما العشيقان اللذين يصفان شخصيتنا- و(الميركبتان) وصفات المعادن المختلفة ومشابهها في المجتمع البشري و(الشوارد) في الكيمياء وأحوال المادة المختلفة وغيرها. المؤلف هنا يأنسن للعلوم ومصطلحاتها فتصبح تلك المصطلحات مألوفة للقارئ العادي وليست حكرا على العلماء والعاملين في المجتمع العلمي. تقوم أنسنة العلوم بتقرّيب مفاهيم هذه العلوم إلى أذهاننا، لكنها تحتاج إلى الجملة الرشيقة البعيدة عن التعقيد والتقعر، فعرض المعلومة العلمية المعقدة بكلمات سهلة ويسيرة موهبة لا تتاح لأي واحد لمجرد أن لديه القدرة على الكتابة، بل يجب أن يدرك جوانب المعلومة تماما، ويعرف كيفية عرضها للقارئ غير المتخصص بشكل يتناسب مع خلفيته الثقافية. ومؤلفنا رشيق العبارة لذا جاءت مقالاته قصيرة غير مملة، ولا ينسى أن يضمنها بعبارات ذات دلالة كقوله: «لا يكفي أن تكون كيميائيًا لخدمة أمتك ما لم تكن إنسانيًا في اختياراتك وتوجهاتك وقراراتك». وكذلك بث مفاهيم فكرية، مثل قوله: «الكربون من أكثر العناصر الكيميائية انتشارا في عالمنا، يُعلمنا تواجده في الكون أمورًا دنيوية بطريقة تلقائية وبسيطة، فخاصيته المعروفة في كونه عنصرًا ذا أربع روابط كيميائية تقترن في أغلب الأحيان بذرات الهيدروجين، وهذه الخاصية بالذات تشبه إلى حدٍ ما، ما أقرته الشريعة الإسلامية في تحليل زواج الرجل (الكربون) من أربع نساء (الهيدروجين)، لمنافع تتمثل في الحد من ارتفاع نسبة العنوسة في المجتمع الإسلامي وزيادة تعداد المسلمين في العالم وغيرها»! (كيمياء الثقافة والناس) واحد من الكتب التي تقرّب العلوم للقارئ العادي بأسلوب يفهمه حتى يصبح العلم ضمن مكونات ثقافة المجتمع، وتحضرني الآن مقولة د أحمد شوقي – عالم الوراثة - «إن العلم باعتباره من أهم أدوات التغيير المجتمعي لا يمكن أن يقوم بدوره بكفاءة إلا إذا تحول إلى مكون عضوي من مكونات ثقافة المجتمع». المهندس/ عبد الحفيظ العمري إب- اليمن... 7 يناير /كانون الثاني 2018م