ككل تغيير سياسي يواجه الانتقال السياسي في الجزائر تحديات من شأنها تعريضه للانحراف أو التصدع أو الاستحواذ عليه من طرف قوى موازية , فهو ليس محصنا من هذه الاحتمالات , بحكم تعدد اللاعبين السياسيين الذين كشفوا منذ ركوبهم موجة الحراك الشعبي , عن وجهات نظر متباينة حتى داخل العائلة الإيديولوجية الواحدة, فكيف هي الحال بين العائلات المختلفة التوجه الفكري ؟ و هذا ليس من حيث محتوى التغيير لأنه أمر سابق لأوانه , و إنما حتى بالنسبة للطرق المؤدية إلى التغيير المنشود , فلكل عائلة إيديولوجية نظرتها الخاصة إلى شكل الجمهورية الجديدة التي تصبو إليها بدءا بالعنوان الذي اختار له البعض تسمية «الجمهورية الثانية» اقتداء بفرنسا التي تعيش عصر جمهوريتها الخامسة , بينما يفضل معارضو هذا التوجه تسمية «الجمهورية الجديدة» للتبرؤ من شبهة الاقتداء بمستعمر الأمس , و مع ذلك يظل العنوانان يوحيان بأن لحراك 22 فبراير ما بعده , و أن نظام الحكم القادم , ينبغي أن يأخذ في الحسبان , بأن الجمهورية الثانية تتربص بها ثالثة و رابعة و.... كما أن الجمهورية الجديدة قد يسرع إليها القدم , فتحتاج إلى حراك آخر يجددها ...و بالتالي ليس هناك ما يضمن عدم تجدد الحراك مع كل استحقاق رئاسي , بل و خلال العهدات الرئاسية لمجرد إصدار قرار أو اتخاذ إجراء يثير سخط نسبة من المواطنين , ما دامت فرنسا –القدوة- قد سبقتنا في هذا الطريق بتجربة «السترات الصفراء» التي تطالب هي الأخرى الرئيس بالرحيل رغم أنه شاب و يتمتع بالصحة, لكن شعبيته تراجعت لأنه ضد القرارات الشعبوية , النزعة التي أصبحت تشكل أكبر التحديات و أخطرها , لكل أنظمة الحكم أيا كان نمط نظامها السياسي . و لكنها نزعة تهدد بالدرجة الأولى الأنظمة التي تتوفر على إمكانيات اقتصادية متواضعة , غير أن منظمات و وسائل إعلام عالمية تروج وصفها بالدول الغنية العاجزة عن التكفل بحاجات شعبها , تحت عنوان «دولة غنية و شعب فقير», و تتولى وسائل إعلام محلية تسويق نفس الخطاب التحريضي الجاهز عن قصد أو عن كسل يحول دون التثبت من صحة هذه الشعارات الملغمة . شرارة العهدة الخامسة و يؤكد بعض الخبراء في السياسة الاقتصادية , أن أنظمة الحكم من هذا القبيل, هي رهينة خيارين لا ثالث لهما ؛ الأول أن تسعى إلى توزيع الثروة الوطنية بنوع من العدالة ليستفيد منها أكبر عدد من مواطنيها «و هو ما يعبر عنه الغرب و صحافته بخبث بما يسميه «شراء السلم الاجتماعي».غير أنه جراء اختلال التوازن بين حجم الثروة الوطنية و بين النمو الديمغرافي , يجعل الدولة عاجزة عن تلبية احتياجات مواطنيها بشكل كاف , كما أن حتى المواطنين الذي حصلوا على نصيبهم من الثروة الوطنية , يرون أن هذا النصيب لا يضمن لهم العيش الذي يطمحون إليه ,أي أن الدولة بهذا الخيار لا تجني سوى التذمر الشعبي و الاستياء العام , القابل للتحول إلى حراك لأبسط حادث يشكل شرارة اندلاعه مثل شرارة «العهدة الخامسة « في الحالة الجزائرية , و شرارة حرمان «زعيم المعارضة من رئاسة البرلمان في الحالة الفينيزويلية» . أي أن الحراك بالمرصاد لهذه الفئة من الدول طال الزمن أم قصر . كما أن الخيار الثاني لهذه الدول ليس أفضل من سابقه , لأنه يقتصر على فتح الأبواب و النوافذ للاستثمار الأجنبي, فيستحوذ على مقاليد تسيير اقتصادها, مراعيا مصالحه الرأسمالية بالدرجة الأولى , على حساب مصالح المواطنين, الذين يرون السلع المختلفة تنتج بأيديهم و في بلدهم, لكنهم عاجزون عن اقتنائها لأن أسعارها تتجاوز قدرتهم الشرائية , و هؤلاء كذلك تكفي شرارة بسيطة لإطلاق عقال حراك شعبي تعيش بعض دول الجوار تبعاته. و هذا يفرض على الطامحين إلى حكم الجزائر تحت ظل نظام سياسي جديد , سواء وفق الخيار الأول , أو الخيار الثاني , أن يأخذوا في الحسبان التحديات التي تنتظرهم , و هي تحديات لا يمكن تجاوزها إلا بعقد اجتماعي بين الحكام و بين الشعب , حول أهداف محددة سلفا ,و قابلة للتنفيذ خلال آجال منظورة , و للقياس أو التقدير, و تساعد على تحديد المسؤوليات, في حالة وجود أي تقصير. فهل هناك من يقبل المسؤولية في هذه الحالة و بمثل هذه الشروط؟ عوائق المرحلة الانتقالية في تعدد الأطروحات لو كانت الحلول السياسية مجدية لما احتاجت المجتمعات إلى دساتير و قوانين ذلك ما لا يمكن انتظاره من العائلات السياسية الجزائرية المتصارعة , لفرض رؤى و توجهات سياسية و إيديولوجية وفق مقاسها على الشعب الجزائري انطلاقا من المرحلة الانتقالية ,بحكم تمتعها و توفرها على هياكل تنظيمية, و شبكة نشطاء و مناضلين منضبطين يمكنهم التأثير على توجهات الحراك و شعاراته في ميدان المسيرات , و عبر شبكات التواصل الاجتماعي ,في ظل انشغال الأصوات و الآراء المخالفة و حتى المحايدة ,انشغالها برأب تصدع هياكلها و تجاوز خلافاتها الداخلية , و هي أطراف يمكنها بدورها تقديم مخرجات بديلة للأزمة السياسية , و خارطة طريق تحافظ على مطالب الشعب في تغيير النظام , دون الوقوع في الفوضى التي بدأت معالمها باحتلال مساكن قيد التوزيع , و اقتحام سوق مهددة بالانهيار و غلق مقرات البلديات بالسلاسل و الأقفال و الاعتداء على أعوان الأمن و المتظاهرين ..., لأنه هكذا يفهم البعض مبدأ «السلطة للشعب», و لأنه ليس كل من يمشي في المسيرات يتمتع بخبرة في الفقه الدستوري . عندما نستعرض المواقف السياسية التي تتفاعل على الساحة الوطنية لتجاوز الوضع الراهن , يمكن تلخيصها إجمالا في موقفين , أحدهما يتمسك بالحفاظ على المسار الدستوري لتغيير النظام عبر صناديق الاقتراع بدءا بانتخاب رئيس جمهورية تحت إشراف و مراقبة هيئة مستقلة , في مدة 90 يوما . و هو موقف تتبناه عدة أحزاب منها أحزاب في المعارضة , مع تغيير بعض الجزئيات و التفاصيل لدى بعضها دون التخلي عن التزامها بضرورة احترام القانون. و هناك موقف تتبناه أحزاب المعارضة , الداعي إلى تجاوز الحلول الدستورية , بإقرار مرحلة انتقالية تبدأ بتحييد كل المؤسسات الدستورية و استبدالها ب«هيئة عليا ؟«، تمنح لها صلاحيات إجراء «محادثات مع ممثلي الأحزاب السياسية والنقابات المستقلة والشخصيات من أجل إشراكها في المسار الانتقالي».و إشرافها على «إعداد مشروع دستور جديد يتم اعتماده عن طريق استفتاء شعبي في أجل لا تتجاوز مدته الشهرين ؟«، وكذا تشكيل «حكومة إنقاذ وطني يتم تعيينها من طرف الهيئة العليا الانتقالية» مع إنشاء «هيئة وطنية مستقلة تتكفل بتنظيم الانتخابات تترأسها شخصية نزيهة يتم تعيينها من طرف الهيئة العليا الانتقالية»، على أن يتم انتخاب رئيس للجمهورية في ظرف 6إلى 7 أشهر؟ ...علما أن هناك من يقترح فترة انتقالية خارج إطار الدستور و القانون تصل مدتها إلى 18 شهرا) ؟ و السؤال المطروح, أي الموقفين يُمكِّن الشعب من أن يصنع مصيره من أيسر الطرق و أسرعها؟ , لأن استمرار الحراك بنفس الزخم لمدة أطول , احتمال ضعيف , حسب توقعات معظم المحللين , بينما يسمح طول المدة الانتقالية لكثير من «اللاعبين» , من إعادة تنظيم صفوفهم , و تنشيط قواعدهم للاستحواذ على مقاليد حكم البلاد , و تسيير شؤونها بنفس الأساليب و لكن بوجوه جديدة , مستنسخة من القديمة , بدليل أن البعض لا يرى أي تناقض بين مطالبته بوضع حد للشرعية الثورية التي شغلت مناصب المسؤولية منذ الاستقلال, و بين اقتراحه شخصيات بحكم رصيدها التاريخي الثوري لتكون ضمن هيئة تسيير المرحلة الانتقالية معتقدا بأن الدافع الشعبوي لمثل هذا المطلب يخفى على الناس ؟ المصلحة العليا... الخيار الأضمن لكن الملاحظة الأخطر في التخلي عن احترام الدستور و القانون , أن أبرز الشعارات التي رفعها الحراك الذي عاشته الجزائر جراء وقف المسار الانتخابي سنة 1991 ,هو شعار «لا ميثاق لا دستور» , و الكثير من شخصيات المعارضة السياسية و من الموالاة , يعرفون ما آلت إليه أوضاع البلاد جراء مثل هذه الدعوات و ما يترتب على عدم احترام الدستور من شيوع الفوضى و تعطل مصالح البلاد و العباد.و من هنا جاءت المادة 74 من الدستور لتؤكد أنه لا عذر بجهل القانون , و لتفرض وجوب احترام الدستور و قوانين الجمهورية على كل شخص . قد لا تلقى هذه الآراء تجاوبا أو قبولا لدى معظم الحراك الشعبي , غير أن تقديم المصالح الشعبية على الأغراض الشعبوية , في جميع الأحوال يبقى الخيار الأضمن و الأمثل لجميع الأطراف . و للشعب القرار الأخير في اختيار الأسلوب الذي يصنع به مصيره , أسلوب مسار تحدده وتضمنه أحكام دستورية و نصوص قانونية إضافة إلى مؤسسة الجيش , أو أسلوب مسار ما زال رهن الأخذ و الرد بين أطراف اتفقت على ألا تتفق ؟و قد بدأنا منذ مساء الجمعة الثامنة للحراك نشاهد بعض نتائج هذا المسار الأخير, و هو تطور خطير نأمل أن يتوقف عند هذا الحد بتحلي جميع الأطراف بالحكمة و ضبط النفس تفاديا لجر البلاد إلى ما لا يحمد عقباه.