لا يمكن القول أن الأحزاب السياسية في الجزائر قد نأت بنفسها عن الحراك الشعبي ما دام معظمها قد التحق بركبه و لو متأخرا , و ما دام الحراك قد سحب البساط من تحت بعضها الآخر و رفع سقف المطالب فوق ما كانت تدعو إليه مثلما هي الحال بالنسبة للأحزاب المتكتلة ضمن حركة المواطنة الرافضة للعهدة الخامسة . كما تجاوزت مطالب الحراك الشعبي , تلك المحاولات التي ظلت أحزاب المعارضة تعقد الاجتماعات تلو الأخرى للتوصل إلى توافق حول مرشحها للرئاسيات -قبل تأجيلها- لمنافسة مرشح أحزاب الموالاة , دون أن تنجح في مسعاها , و يقرر بعض قادتها عدم الترشح لها بعد تأكد ترشح الرئيس المنتهية عهدته. ومما تضمنته بيانات هذه الأحزاب المعارضة قبيل انطلاق الحراك الشعبي بيومين فقرة , «تثمن الاحتجاجات الشعبية و تؤيدها و تحذر السلطة من مواجهة المواطنين في ممارسة حقهم الدستوري في التظاهر و التعبير عن رفضهم لاستمرارية الوضع الحالي...», و هو ما يمكن اعتباره إرهاصا بالحراك الذي انطلق يوم 22 فبراير , و توالت بعده مواقف الأحزاب بمختلف مواقعها من السلطة , بمباركة الطابع السلمي للمظاهرات الشعبية عبر ولايات الوطن و تثمين «المطالب المشروعة» للمشاركين فيها. بعد ذلك اكتفت أحزاب المعارضة و الموالاة بردود الفعل ,عما يصدر عن الحراك من أفعال و مطالب حيث أعربت أحزاب التحالف الرئاسي، يومين بعد المظاهرات الأولى «عن «ارتياحها» للطابع السلمي الذي ميز المسيرات الأخيرة التي شهدتها عدة ولايات من الوطن نهاية الأسبوع، داعية الجميع إلى «تغليب لغة العقل والحكمة» والحفاظ على المكتسبات المحققة» , كما جددت أحزاب المعارضة بعد الجمعة الثانية من الحراك « تحيتها للأسلوب الحضاري والسلمي للذين شاركوا في المسيرات التي نظمت بمختلف ولايات الوطن و الاحترافية التي تحلى بها رجال الأمن في تعاملهم مع المتظاهرين...» , و سارع بعد ذلك رؤساء أحزاب معارضة إلى الإعلان عن عدم ترشحهم على غرار حركة مجتمع السلم وطلائع الحريات و حزب العمال , بينما اكتفى بعضهم بالتهديد بسحب ترشحهم في حال ترشح الرئيس المنتهية عهدته ,( و هو تهديد بلا جدوى بعد إيداع ملف الترشح لدى المجلس الدستوري كما هو معلوم) . و ضمن مسار ردود الفعل هذه, باركت أحزاب الموالاة و في مقدمتها الأفالان و الأرندي و تاج , مضمون رسالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة إيداع ملف، معتبرة ما ورد فيها من تعهدات , يلبي مطالب الشعب و خاصة فئة الشباب , ودعت إلى «استغلال هذه الفرصة الثمينة من خلال رص الصف الوطني وصناعة أجواء مريحة وبناءة والتحضير لبناء الجزائر الجديدة في كنف الأمن والاستقرار والتنمية». بينما سارعت أحزاب المعارضة إلى التشكيك في نوايا السلطة متهمة إياها «بمحاولة الالتفاف على المطالب الشعبية «و واصفة تعهداتها «بغير المنطقية» و داعية إلى الوقوف مع المسيرات الاحتجاجية «ومد جسور التواصل بين الشعب والطبقة السياسية من أجل ترجمة انشغالات الشارع في مشاريعها السياسية بما يحقق السيادة الشعبية الحقيقية واحترام الصالح العام على أساس مرجعية بيان أول نوفمبر». كما دعت كذلك مختلف فئات الشعب إلى المحافظة على «سلمية واستمرارية» هذه المسيرات. أحزاب تبارك و أخرى تعارض و ثالثة «بين-بين» و نفس ردود الفعل المتباينة صدرت عن الطبقة السياسية بخصوص قرار رئيس الجمهورية القاضي بتأجيل الانتخابات الرئاسية و ما صاحبه من إجراءات تضمنتها رسالته إلى الأمة؛ إذ هناك من رحب بها باعتبارها جاءت «استجابة للمطالب الشعبية» ومن رفضها واصفا إياها بمحاولة الالتفاف على ذات المطالب الشعبية. و من المرحبين بهذا القرار ، الحركة الشعبية الجزائرية التي اعتبرته « استجابة لمطالب المسيرات الشعبية التي لقيت صدى إيجابيا وكان مطلبها الرئيسي عدول الرئيس عن الترشح لعهدة رئاسية خامسة وتغيير النظام السياسي».داعية الشعب إلى»المشاركة بكل عزيمة لإنجاح المسار المقبل المتمثل في تنظيم الندوة الوطنية الشاملة والمستقلة وإعداد دستور جديد وإثراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللازمة للولوج إلى جمهورية جديدة». و نفس الموقف تبناه تجمع أمل الجزائر الذي دعا بدوره إلى «التعجيل بالإصلاحات العميقة والجريئة مع توفير ضمانات الانتقال السلس للحكم وتغيير النظام ...» كما توجه إلى الشعب الجزائري بكل مكوناته داعيا إياه إلى «التعاون وتقريب وجهات النظر والتنازل عن الأنانيات والطموحات الشخصية الضيقة لتحقيق تطلعاته في بناء جزائر آمنة، مستقرة، متطورة، قوية ورائدة». ووجه التحالف الوطني الجمهوري نداءه في ذات السياق إلى «جميع المخلصين والوطنيين إلى تبني هذا المسعى (...) من أجل تحقيق الهبة الوطنية المنشودة وبناء جزائر جديدة تتجسد فيها كافة تطلعات وآمال الجزائريين نحو غد أفضل». أما أحزاب المعارضة فإنها لا تكتفي بمعارضة السلطة و قراراتها , و إنما تعارض كذلك بعضها بعضا , مثلما هي حال حركة مجتمع السلم التي رفضت إجراءات السلطة بحجة أنها «لا ترقى إلى طموحات الشعب الجزائري الذي خرج بالملايين في مختلف الولايات يطالب بتغيير فعلي». و في نفس الوقت تحمل الحركة أحزاب المعارضة «مسؤولية عدم قدرتها على الاتفاق على رؤية سياسية كاملة وعدم اتفاقها على آليات محددة للانتقال السياسي والاكتفاء بتوجيه السهام لبعضها البعض بالمزايدات والاتهامات الجوفاء التي لا تنفع البلد في هذا الظرف العصيب الذي تمر به الجزائر ومحاولة البعض ركوب موجة الحراك الشعبي بالمزايدات التي لا طائل منها». كما رفض حزب طلائع الحريات على لسان رئيسه, قرارات رئاسة الجمهورية بحجة أنها تكريس ل« سياسة الأمر الواقع». كما وصفت زعيمة حزب العمال هذه الإجراءات بالتحايل على..» إرادة الأغلبية الساحقة من الشعب في تحرره من النظام»من خلال «تمديد العهدة الرابعة «. من جهته أكد التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية أن «الهدف المنشود من قبل الجميع هو وضع دستور يوافق تطلعات الشعب الجزائري في السلم والديمقراطية والتطور الاقتصادي والاجتماعي وانتخاب ممثلين عن مختلف فئات المجتمع». إطالة عمر الحراك ليس في صالح أي طرف أما رئيس حزب جبهة المستقبل فرفض تأجيل الانتخابات الرئاسية طالبا إجراءها «في موعدها المحدد»، داعيا كل الأطراف إلى «تحمل مسؤولياتها فيما يخص فرض احترام الدستور». و هو ما دعت إليه أيضا حركة البناء الوطني مطالبة ب «ضرورة العودة إلى المسار الانتخابي الحقيقي الذي يبقى الخيار الحر لتعبير الشعب عن إرادته»، محذرة من «خطر المراحل الانتقالية التي تدار خارج إطار الشرعية الشعبية الانتخابية». و لأن مساهمة الحراك الشعبي ظلت مقتصرة إلى غاية الآن على صياغة المطالب و رفع الشعارات الرافضة لقرارات السلطة ممثلة في الرئاسة و الحكومة , حيث اكتفى الحراك الشعبي بردود الفعل , لا بالأفعال , لافتقاره إلى قيادة و خريطة طريقة و إلى اقتراحات سياسية واقعية قابلة للتفاوض حولها . و هو الشغور في قيادة الحراك الذي فتح الباب واسعا لأطياف الموالاة والمعارضة الحزبية , لمحاولة ملء الفراغ بمبادراتها المعهودة , كالمطالبة ب«فتح حوار وطني جامع» يهدف إلى تأطير الحراك الشعبي الذي تشهده الجزائر و الدعوة إلى تغيير النظام وبناء الجزائر الجديدة»؛و من ذلك ما أكده البيان الختامي للقاء التشاوري الأخير للمعارضة الذي جرى بمقر جبهة العدالة و التنمية و شارك فيه قياديو14 حزبا سياسيا و ممثلو المجتمع المدني, بالإضافة إلى نشطاء شاركوا في المسيرات الشعبية أن هذا اللقاء الوطني المفتوح «يجمع الجبهة الرافضة لمسلك السلطة» و يهدف إلى «إجراء حوار جاد لصياغة المطالب الشعبية و وضع خارطة طريق للانتقال الديمقراطي و بناء نظام جديد».و من هذه المحاولات أيضا, دعوة حزب طلائع الحريات المعارضة إلى رص الصفوف من أجل «ترجمة التطلعات الشعبية إلى نشاطات و مبادرات ترمي إلى تجسيد هذه التطلعات».و اقتراح موسى تواتي رئيس «الأفانا»:«تشكيل لجنة وطنية» تتكون من ممثلين يختارهم الشعب في كل الولايات تتولى تسيير فترة انتقالية وتشرف على تعديل الدستور و تنظيم الرئاسيات المقبلة؛و في ذات السياق جاءت دعوة رئيس حركة الإصلاح الوطني فيلالي غويني إلى فتح نقاش بين مختلف الفاعلين من اجل «تحديد أولويات المرحلة الراهنة «؛كما اقترحت رئيسة حزب العمال من جهتها « تشكيل «لجان شعبية» تعمل على «فتح نقاش سياسي» حول مطالب المجتمع قصد التوصل إلى جمعية تأسيسية وطنية لصياغة دستور جديد.كما دعا «الأفافاس» في بيان له إلى«إطلاق ديناميكية سياسية لبناء ديمقراطي للدولة و المجتمع يعد أولوية قصوى قصد الشروع في انتقال ديمقراطي حقيقي يمهد لقيام جمهورية ثانية عن طريق انتخاب جمعية تأسيسية». و بموازاة هذه التجاذبات الحزبية بين المعارضة و الموالاة وما بينهما , واصل الوزير الأول مع نائبه مشاوراتهما لتشكيل حكومة جديدة تضم كفاءات وطنية بانتماء أو دون انتماء سياسي و تعكس الخصوصيات الديمغرافية للمجتمع الجزائري « حسبما أوردته وكالة الأنباء الجزائرية .على أن تشمل المشاروات الشخصيات و القوى السياسية و كل من له قدرة التأثير على سير الأحداث... و في انتظار إيجاد آليات التواصل و الحوار بين كل هذه الأطراف المتنافرة , قد تعيش الجزائر جمعات أخرى بألوان وخصائص السياسة الشعبية التي أصبحت رهينة ما يخصها به مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي من إعجاب و ثناء . و من ثم بقاء الوضع في البلاد أسير تقييمات العالم الافتراضي,و ما يموج داخله من تعاليق و آراء متناقضة تزيد الوضع ضبابية و تعقيدا ...