تتحقق المعّية مع الله بالنسبة للعبد المؤمن، من خلال الذكر الذي يوقِّع حركة الحياة اليومية، توقيعا لا يخلوا من دعاء، أو ذكر، أو تدبر، أو تأمل.. وكأنّ العبد لا يتحرك إلاّ في هذه الصحبة التي يكفلها له الذكر ، فيجعل حركة الدنيا مهما كانت بسيطة عادية فعلا تعبّديا، يرفع فيه العبد الفضل إلى الله عز وجل، معترفا بالنعم، شاكرا لها. يراها بين يديه وقد ازدادت بركتها، وتنوعت أشكالها، وعمَّه منها خير ٌكثير. لأن الله عز وجل كان قد أخبره من قبل قائلا: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ « إنها دائرة مثمرة تزداد اتساعا كلما حركها لسان العبد بالذكر، قارئا لكتاب الله، أو مرددا لحمد، أو تسبيح، أو تهليل، أو تكبير. فغبطة المعّية تجعله في هذا الاتساع الذي ينبع من أعماق النفس،فيخالط ذرات الكون من حوله، ويعانقها، لعلمه أنّها مُسبِّحة مثله، ذاكرةٌ مثله، لا تفترُّأبدا.. فهي في صلتها بالله عز وجل، لا يداهمها فتور، ولا يتخوَّنها نسيان. وحينما يقول الله عز وجل في محكم تنزيله مخبرا بحقيقتها: «إِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنلَّاتَفْقَهُونَتَسْبِيحَهُمْ» يدرك العبد أنّه، وهو العاقل، المكلَّف، تغتاله الغفلةُ من حين إلى حين، وتمضي به إلى فقر، وضيق، وقلق.. ولو علم أنَّ في الذكر كلُّ الغنى الذي يبحث عنه، وفيه كلُّ الطمأنينة التي يسعى وراءها، وفيه كلُّ البشر الذي غابت آثاره من وجوه الناس، لأدرك أن الغفلة، وسوء الفهم، قد أودى به إلى هذه الحال المتردية المزرية. نعم إنَّ النعم لتزكوا بالشّكر، وتنموا بالحمد، وتتكاثر البركة فيها، وتعود على الذات بهذا القدر الوافر من السعادة، التي تجعل يومَ العبد أفضل من أمسه، وغدَه أفضل من يومه، لأنَّه يزداد اتساعا، ويزداد قربا. ويدرك أنَّ ما خبأه الله له في كلِّ ذكر أمرا عظيما جدا. فقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاية عن ربه: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ». ولنا أن نتخيل هذا الأمر على نحو نَقْدر على استيعابه، فإذا انشغل عديد من الناس بطلباتهم في أدعيتهم، يطلبون من الله عز وجل خيري الدنيا والآخرة، واجتهدوا في ذلك صباح مساء. وكان غيرهم رطب اللسان بالذكر، قرآنا، وتسبيحا، وحمدا. وحال ذلك الانشغال دون أن يلتفتوا إلى مطالب الدنيا كما يفعل غيرهم. فإنَّ الله سيعطيهم أفضل ما يعطي السائلين من الفئة الأخرى. إنَّهم سينالون نصيبا أوفى وأوفر من العطاءات، التي خُصِّصت لغيرهم. لأنهم انشغلوا بالذكر. فكانوا في ذلك أقرب إلى تلك المخلوقات التي جُبِلت على الذكر كما أخبر الله عز وجل، فتولى الله شأنها. فهم الآن في هذه المنزلة، يتولى الله شأن دنياهم وآخرتهم. إنَّهم يفعلون ذلك لأنَّهم يعلمون أنَّ شأن التسبيحة الواحدة عند الله شأن عظيم. لا يعرف مقداره العامة من الناس الذين تلهيهم الدنيا بزخارفها وبهرجها، وتُتْعبهم بمطالبها. فقد جاء في الأثر: «لو أن ثواب تسبيحة واحدة قسم على أهل الأرض لأصاب كل واحد عشرة أضعاف الدنيا» . «. وحينما يُطلق لفظ الدنيا بهذه الطريقة، فإنّه لفظ عام يشمل الدنيا من أول خلقها إلى يوم قيامتها.. فيحصل الواحد بهذه التسبيحة هذا القدر العظيم من العطاء مُعَشَّرا. (يتبع)