ربما تأخرت قليلا للاحتفاء إعلاميا بالدكتورة يولاندا غواردي، إحدى الأيقونات الثقافية الإيطالية، ومؤسسة قسم الأدب العربي واللغات الشرقية في جامعة ميلانو، ثم في جامعة بافيا رفقة الأستاذة باربارا أيرو، قبل أن تنتقل للتدريس في الجامعة الإسبانية، ثم تعود إلى إيطاليا، موطنها الأصلي. لكني، بالمقابل، واعترافا بوفائها للنص العربي من سنين، وللأدب والترجمة بشكل عام،أسهمت في استضافتها عدة مرات في الجزائر، في جمعية الجاحظية بالعاصمة مع المرحوم الطاهر وطار الذي وافق مباشرة على الفكرة، في الملتقى الدولي للرواية عبد الحميد بن هدوقة ببرج بوعريريج مع الهيئة العلمية، في المقهى الأدبي بالعناصر مع السيد سعيد عياشي، وكنت آنذاك مديرا شرفيا للمقهى الذي عنى بأسماء ثقافية وسياسية وازنة، وأخيرا في المهرجان العربي للسينما بمدينة وهران حيث قدمت محاضرة رائعة رفقة مجموعة من المهتمين بالخطاب السينمائي. لقد التقينا في مناسبات كثيرة، وأهمها الملتقى الدولي للترجمة بفندق الأوراسي بالجزائر العاصمة، وكان معنا الأستاذ والمترجم عبد العزيز بوباكير، ونخبة من المترجمين العالميين. ومع أني أعرف أني لن أوفيها حقها في هذه العجالة، ولن أفعل ذلك في ورقة موجزة بالنظر إلى المساحة المسموح بها في الجريدة، فإني أعتبر هذا التعريف مقدمة قد تكون نافعة للمعنيين، وقبسا جزئيا يحاول الإحاطة باسم كبير وجب أن نحتفي به إكراما له، ولما أنجزه منذ أعوام. يجب، من الناحية الأخلاقية والعلمية، أن نتذكر هذا الاسم جيدا، أن نضعه نصب أعيننا،، أن ننظر إليه باحترام شديد لأنه أهلٌ لذلك. ثمّ... من المهم أن نحاول الالتفات إليه، ونحو أقلام أخرى ذات أهمية كبرى، تلك الأقلام التي عرّفت بمنجزنا في أوروبا، الشيء الذي قد لا ننتبه لقيمته بالنظر إلى طبيعة تفكيرنا، وإلى كيفية تعاملنا مع العلوم الاجتماعية والإنسانية التي نعتبرها فائضة عن الحاجة. أذكر، فيما أذكره مما تبقى في البال من جزئيات تلك الأزمنة القصية، وكهامش مضيئ لهذه العلاقة الأكاديمية التي تعود لسنين طويلة، أنها استضافتني، باحترام وسخاء، في جامعتي ميلانو وبافيا، ثم في بيتهابإيطاليا، رفقة عائلتها الصغيرة وأساتذة القسم في جلسة بهيجة تحدثنا فيها عن بعض القضايا اللسانية والمعجمية المتعلقة باللغة العربية، بالأصول والامتدادات والمراهنات، بالمتغيرات العالمية.وقد فضّل الحضور أن لا أتحدث سوى باللغة العربية الفصحى، وذاك ما قمت به إرضاء للأساتذة المهتمين بهذه اللغة. كان الاستقبال حميما، من ذلك النوع الذي لا نعثر عليه إلا نادرا. كان نصفه أوروبيا، ونصفه عربيا قحّا لأن " يولاندا " تتقن الطبخ الجزائري بتفاصيله، ولها كتاب في ذلك، كما تعرف البلد جيدا، بأدبه ولباسه ونواميسه وأنثروبولوجيته وثقافته وعاميته، وتترجم من العربية إلى الإيطالية بانمحاء صوفي جليل، ودون جعجعة لفظية تفسد جهدها الكبير في التعامل مع النصوص، بتؤدة ورقي. أركز جيدا على ذلك التواضع الزاهد، وعلى أحاديثها القصيرة التي تتخللها ابتسامات تقول كلّ شيء، كما لو أنها تحلّ محلّ خطاباتها المضمرة. أذكر أيضا أننا تجولنا آنذاك، باقتراح نبيه منها، في عدة مكتبات بميلانو، وتناولنا، ونحن نتأمل العناوين الموضوعة على الرفوف بوقار، بعض قضايا الترجمة في الوطن العربي، النصوص التي تمّ اختيارها، الأسماء المنتقاة، أسباب الانتقاء، عنف الترجمة، الخيارات، دور المؤسسات في فرض العناوين والأدباء وفق أسس مؤدلجة، أو تأسيسا على الاقصاء المبرمج لكفاءات سردية وشعرية لها قيمتها الكبرى في المنجز الأدبي، وهي تدرك ذلك جيدا بفعل خبرتها وملاحظاتها، وبفعل احتكاكها بالمجال الذي تشتغل فيه بنباهة الرائي الذي يستعمل عدة حواس للوصول إلى خلفيات الحقائق، إلى ذلك الجزء الخفي الذي قد لا يعرفه القارئ. الموضوع الذي ستطرحه لاحقا بجمعية الجاحظية تحت نظرات الطاهر وطار الذكية. كما حدثتني، في بعض السياقات، عن طريقة تعامل بعض المترجمين مع المنجز، ومن هؤلاء المرحوم مارسيل بوا وعلاقاتها بنصوص بن هدوقة، كيفية نقلها من العربية إلى الفرنسية، وظلت تطرح أسئلة جوهرية تخص الفعل الترجمي، الأمانة والتصرف، الحرفية والمعنى. ظلت الأستاذة يولاندا تناديني باستمرار: بوطاجين، وما زالت تفعل ذلك إلى اليوم، هكذا، ببساطة كبيرة، دون إضافات أخرى قد تلحق ضررا باسمي، لا السعيد ولا الدكتور ولا الكاتب ولا الأستاذ، تماما كما يفعل السيد فرانشيشكولوجيو، وكان ذلك يعجبني كثيرا، خاصة عندما أسمع لكنتها الرائعة، وهي مزيج من الإيطالية والعربية معا، شيء بهيّ جدا، وموسيقي إلى حد كبير، على أمل أن تظلّ كذلك، ولتسقط الألقاب التي لا شأن لها في طقوسنا الهزيلة. كيف يجب أن أقول لها شكرا جزيلا على الخدمة الجليلة التي قدمتها لأدبنا العربي، وبعلامات كافية لذلك، دون تقصير في حقها، هي التي لا تتحدث إلا في مقامات، ولا تفعل ذلك إلا باقتصاد دال، وبوعي كبير بما تقوله وتكتبه. أسهمت السيدة " يولاندا غواردي" إذن، باحترافية مشهود لها، في عدة نشاطات متخصصة، ثقافية وفكرية وسينمائية وترجمية، وهي تملك نظرة ثاقبة عن فنون الترجمة بأنواعها، بكثير من الدقة القائمة، في بعض الأحيان، على الجانب النظري، على الممارسة العينية، وعلى الاحصاء الذي عادة ما اتكأت عليه في مداخلاتها لضبط رؤيتها للموضوعات التي تتناولها بروية، وبأرقام دقيقة عندما كان الأمر يتعلق بالمؤلفات التي تمّ نقلها، أو بتلك التي برمجت لمقاصد عينية. أذكر أني اقترحتُ، في وقت سابق، على أحد الولاة تكريمها تكريما رمزيا نظير ما تقدمه بتفان كبير، رفقة الإيطالي فرانشيشكولوجيو، مترجم أحلام مستغانمي، والروسي ديميتري ميكولسكي مترجم عبد الحميد بن هدوقة، ومروج الذهب للمسعودي، وغيرها من الأعمال العربية. فعل الوالي ذلك بأبهة استثنائية، وبسعادة كبيرة، الأمر الذي لا يحدث إلا نادرا جدا في تاريخنا الثقافي المهلهل، وفي ظل هيمنة كرة القدم والأغنية المنحطة، وما جاور ذلك من السفاسف التي امتصت ميزانية الدولة، دون نتيجة. قدمت الدكتورة يولاندا غواردي، بشهادة العارفين بالشأن، عدة خدمات جليلة للأدب العربي الجديد، رواية وقصة وشعرا وفكرا، كما نقلت إلى اللغة الإيطالية مجموعة من الدراسات والفيديوهات، ولها موقف واضح من العربية التي تعتبرها، بنوع من العرفان والحياد المميزين، لغة كبيرة وجب أن تتحدى الرهانات الدولية القائمة حاليا. تقول موضحة في إحدى مقالاتها الجديدة:« استمرار عظمة اللغة العربية مرتبط بقدرتها على منافسة اللغات الحية الأخرى. لذا فلا بدّ أن تمتلك وسائل التحدي التي يفرضها العصر الحالي، كتجديد وتوسيع المصطلحات اللازمة لمواكبة التطور العلمي والتكنولوجي"، عكس ما يذهب إليه دعاة اللغة الثالثة الذين يرون أن العربية لا تصلح سوى للقرآن والشعر، دون أن يؤسسوا على منطلقات موضوعية، أو إحصائية تسوّغ منظوراتهم المسيّسة، أو ذلك الطرح الهش المتداول على الألسن. هل يجب أن ننتظر اعتراف الآخر بهذه اللغة لتستعيد مكانتها في وطنها، وفي هذه الأوطان الضائعة؟ ربما كان الأمر كذلك. لقد ترجمت الدكتورة يولاندا عدة مؤلفات لكتّاب وشعراء عرب من مختلف البلدان: الجزائر، المملكة العربية السعودية، لبنان، مصر...إلخ. نذكر من هذه الأسماء والعناوين، على سبيل التمثيل: رواية "غدا يوم جديد" لعبد الحميد بن هدوقة، "الزلزال" للطاهر وطار، "كلما لمست شيئا كسرته" للشاعر المغربي عبد الاله صالحي، "ملامح" للروائية السعودية زينب حفني، "لحن إفريقي" للقاص والأكاديمي الجزائري أحمد منور المقيم في كندا، "حزن الحمام"، قصة للأديب الجزائري جيلالي خلاص، "عواصف جزيرة الطيور" للمؤلف نفسه، قصائد للشاعر المغربي أحمد سراج، "سفينة حنان إلى القمر" للبنانية ليلى بعلبكي، "حرف جامد"، شعر ثريا إقبال من المغرب، إلى غير ذلك من المؤلفات التي عرفت طريقها إلى الإيطالية بفضل هذه المترجمة الراقية التي ظلت صامتة، راقية، إنسانية وقليلة الكلام، رغم أنها تتقن العربية والفرنسية والإسبانية والانجليزية، إضافة إلى لغتها الأصلية. كما صدرت، تحت إشرافها المباشر، عدة ترجمات أخرى لأشعار وقصص متفرقة: فني عاشور، بشير مفتي، وغيرهما، إضافة إلىترجمة بعنوان قصص جزائرية، وهناك ما نشرته من ترجمات لنصوص شعرية وقصصية في مختلف المجلات والدوريات الأجنبية المتخصصة، ومنها نصوص أحمد رضا حوحو، أحد مؤسسي القصة الجزائرية القصيرة في الجزائر، وأحد روادها المكرّسين. ذاك ما يمكن الكشف عنه من خلال سيرتها الذاتية المؤثثة. يولالنداغواردي أستاذة جامعية تشتغل في مناطق الظل، وتقدم للأدب ما وجب تقديمه كباحثة متمرّسة، وكمترجمة عارفة بالشأن، ومتمكنة من عملها الذي تعتبره فريضة، وطقسا مقدسا. كل الامتنان لك السيدة يولاندا، هناك في مقامك العالي حيث تتحوّل المعارف اللسانية والمعجمية إلى ترجمات راقية تستحق أن نلتفت إليها، دون مزية، بانتظار ذلك، مزيدا من الاهتمام بأدبنا لأنه ليس أقلّ شأنا من كثير من الآداب المهيمنة عالميا، غير أن بعض المركزيات والمؤسسات تفعل فعلتها لمقاصد غير أدبية، سياسية أو أيديولوجية مثلا، وهي تلحق أذى بالإبداع، أكثر مما تخدمه، وأنت تدركين ذلك تمام الإدراك.