هو واحد من أعلام الجزائر ومن رجالات الفكر البارزين في قضايا الثقافة والإصلاح الاجتماعي والديني له سجل علمي يضم آثارا فكرية معرفية أهّلته لأن يكون شيخ المؤرخين في الجزائر بدون منازع. ركز الرجل على إحياء التراث و التاريخ الجزائريين خاصة من جانبه الثقافي وقد عمد في قراءته وتفسيره للتاريخ الثقافي الوطني على مخالفة المدرسة الكولونيالية التي كتب مؤرخوها ثقافة و تاريخ فرنسابالجزائر بعد طمسها لمقومات الشخصية الوطنية على مدار 132 سنة من الاحتلال. ثابر مؤرخنا على طرْق أبواب المكتبات للتنقيب بين محتوياتها على نفائس المخطوطات و المراجع و المقارنة بينها ليستنبط خلاصة شاملة جامعة يعززها بتعليقاته و شروحه ويفرد لها كتبا قيمة، تتضمن عدة مشاريع معرفية و إن كان التاريخ الثقافي أبرزها، وهو القائل عن نفسه: «كانت مشاريعي العلمية أكبر من عمري». بدأ سعد الله رحمه الله مشواره المهني صحفيا مراسلا لجريدة «البصائر» الصادرة من تونس و هي لسان حال جمعية العلماء المسلمين، وهي صحيفة حاملة لفكر تربوي إصلاحي و مكرسة لخطاب نقدي إجتماعي تحسيسي، كان الفقيد يرافع من خلالها لحماية ثوابت الشخصية الجزائرية، هذا المسار الإعلامي سوف يؤهله لقرض الشعر الوطني مع مطلع الخمسينيات بل حوّله لمبدع في القصة و الخاطرة، وقد اهتمت الجرائد التونسية واللبنانية بإنتاجه الأدبي لنشر أعماله المميزة و قد زاده ذلك قوة و إرادة لتنويع مصادر مقروئيته من صحف وكتب و مجلات عربية مشرقية وهو طالبا بجامع الزيتونة، التي كانت تنافس جامع القرويين بالمغرب والذي خرّج هو الآخر أعلاما جزائريين ذاع صيتهم في بلاد المغرب و المشرق العربيين. إن المتأمل في فكر «سعد الله» يلمس تلك النزعة المعرفية التي صقلته والتي توصل إليها من تحديات و مناضرات كانت تصل إلى حد العراك الفكري جراء الاختلافات المذهبية في مناحي الحياة الأدبية عبر تنوع مدارسها الفلسفية و الاجتماعية و حتى السياسية. ولم يلبث رحمه الله أن ساهم بفعالية في تأسيس- رابطة القلم الجديد - في تلك الفترة الزمنية التي ضرب الاستعمار الفرنسي بأطنابه في بلدان المغرب العربي. وقد اهتمت هذه الجمعية الأدبية المستقلة و التي تكونت مناصفة بين التونسيين و الجزائريين، بإنتاج و نشر مضامين أدبية رائعة بمختلف أجناسها. ولعل هذه التسمية تحيلنا إلى الرابطة القلمية «أدب المهجر» التي تأسست على يد جماعة من الأدباء العرب المهاجرين بأمريكا سنة 1922، وقد ضمت نخبة من الشعراء والأدباء ذوي النزعة الرومانسية تميز إنتاجهم الأدبي بالتأمل في الحياة وأسرار الوجود والتعلق بالوطن. وفي رحلة طلب العلم بين الأربعينيات و الخمسينيات من القرن الماضي حطّ أديبنا الرحال بدار العلوم بالقاهرة التي فتقت مواهبه الإبداعية و فتحت بصيرته على الحياة الفكرية و على تنوع اتجاهات مدارسها التي كانت حلبة صراع فكري بين كبار و جهابذة العلم من المصريين والقادمين من خارجها. ولم يكن يعلم أن تواجده في الأراضي المصرية معجزة بدأها مغامرا مع قلة الزاد للذهاب هناك ليلتقي بالعشرات من الوافدين مثله إلى دار العلوم للانتساب إليها ومجالسة علمائها من أمثال «عبد السلام محمد هارون» و «عمر الدسوقي» و غيرهم من رموز الفكر و الأدب. هذا الإحتكاك بهذه القامات العلمية التي أخذ عنها «سعد الله»ستجعل منه فيما بعد العالم المحقق و شيخ المؤرخين الجزائريين بدون منازع. سجلت إسهاماته المعرفية وما تميزت به من إبداعات حضورها بشكل لافت في المشهد الثقافي بالقاهرة. وهناك وبعد ولوجه عالم الفكر والثقافة من بابه الواسع تخلى عن رابطة القلم التي كانت بالنسبة إليه مرحلة محدودة مقارنة مع ما رآه من نخب أدبية و شعرية و ثقافية وجد فيها ضالته المنشودة كقطب أدبي حديث و متجدد في الطرح، فضاعف من إنتاجه الإبداعي تأليفا و نشرا في أمهات المجلات والجرائد على غرار مجلة «الرسالة الجديدة»و»العالم العربي» الصادرتين بلبنان، زيادة على جريدة «البصائر». ويعود له الفضل في تلك الحقبة من الخمسينيات في التعريف بالأدب الجزائري – الذي ظل في دائرة النسيان حينا من الزمن – بمقالات و دراسات على صفحات مجلة «الآداب» بعدما تمكن من تقنيات الكتابة الروائية والشعرية و القصصية و تحكّم فيها بجدارة واستحقاق. في تلك الفترة طبع ديوانا شعريا تحت عنوان «النصر للجزائر» سنة 1957، و هي السنة التي وقعت خلالها معركة الجزائر وإضراب الثمانية أيام. وقد جاء هذا المولود الشعري في وقته معززا للروح الوطنية و النضالية للشعب الجزائري المكافح من أجل الكرامة و الحرية و كأن الفقيد «سعد الله» يتنبأ بالنصر المبين الذي تحقق بعد بضع سنوات من تأليف هذا الديوان على غرار شاعر الثورة «مفدي زكرياء» صاحب ديوان «اللهب المقدس». قبيل الاستقلال ( 1960) و في خضم مباحثات اتفاقيات إيفيان كان «سعد الله» الأديب المجاهد بالقرطاس قد أكمل تحرير رسالة الماجستير الموسومة» محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث» الأطروحة التي لم يناقشها بسبب السفرية الإستعجالية نحو الولاياتالمتحدةالأمريكية بفضل المنحة التي تحصل عليها من طرف جبهة التحرير الوطني سنة 1962 حيث انتسب إلى قسم التاريخ بجامعة « منيوسوتا « Minnesota، فتحصل على الماجستير سنة 1962 ثم الدكتوراه سنة 1965. وعاد إلى الجزائر سنة 1967 بعد الرحلة المعرفية الثلاثية بين تونس ومصر وأمريكا. والتحق بالجامعة الجزائرية التي كانت في أمس الحاجة لفكره و آراءه التي جمعها من أصقاع كثيرة ليفيد بها المنظومة البحثية الجزائرية التي أفرغها الإستدمار من مضامينها وتركها قاعا صفصفا. و كان مطلوبا من الجامعات العربية والأجنبية كأستاذ زائر يجوب المدن الجامعية يلقن فيها الطلبة فنون الأدب و ألوان الثقافة و الفكر و المعرفة التي اكتسبها من رحلاته التي جاب فيها البقاع والأمصار في ظروف صعبة خاصة في المراحل الأولى من مشواره لطلب العلم التي اعتبرها المقربون منه مغامرات بكل معاني الكلمة. وكان سعد الله صاحب إيمان عميق بالحركة الوطنية الجزائرية و سمو الوطن لذلك عمل على تأسيس المدرسة التاريخية الواقعية الجزائرية وكان قطبها ومحرّك الهمم لإقامة صرحها على قواعد البحث الموضوعي والأصالة الحضارية، بعيدا عن المخلفات وبقايا الفكر الإستعماري المبني على الهيمنة والزيف و الإستعلاء. خلّف المفكر الرحالة «أبو القاسم سعد الله» دراسات و مؤلفات تشهد على موسوعيته التي طوّعها بعد اعتكاف طويل في محارب العلم والثقافة والفنون والآداب لينهل لب المعرفة من ينابيعها المتدفقة. من البحث العلمي الأكاديمي المعمق إلى الأستاذية بالجامعات داخل و خارج الوطن وترأس اللجان العلمية والنفور من المناصب على مستوى الدولة إلى التأليف الغزير، نال عن جدارة و استحقاق «وسام العالم الجزائري» الذي منحه إياه معهد المناهج بالجزائر الذي لقبه بشيخ المؤرخين و قدوة الباحثين. الأستاذ الدكتور الأكاديمي «أبو القاسم سعد الله» وبشهادة طلابه والنخبة الفكرية التي كان يتربع على عرشها، يشهدون جميعهم بتفرده وتميزه العلمي منهجا ونظرية بحيث خلّف ما يفوق 66 مؤلفا بين مجلد و كتاب، و هو الباحث الرحالة الذي عاش الغربتين «غربة الوطن و اللسان» وهو يتنقل بين جامعات الغرب كما قال عنه أحد طلبته «الدكتور الباحث» محمد الأمين بلغيث «. من بين مؤلفاته الثمينة نذكر: الحركة الوطنية في أربع مجلدات، و تاريخ الجزائر الثقافي في عشر مجلدات و موسوعة حول أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، علاوة على مؤلفاته الأخرى التي استفادت منها الدراسات البحثية و استنبطت منها الإشكاليات ونالتها الترجمة لما تتضمنه من حقول معرفية متشعبة. يُذكر أن المفكر الفقيد «سعد الله « له منهج متفرد في الكتابة والتدريس والمدرسة التاريخية الجزائرية. فهو لم يتقيد بمنهج واحد بل وظف الكثير منها فيما يعرف بالمنهج المتكامل الذي يوظف أكثر من منهج للضرورة البحثية، لكن من منطلق تاريخي ومن جملة هذه المناهج التي كان يمارسها أكاديميا صاغ نظرية له في الأدب والتاريخ بأسلوب خطابي نقدي، مقارن و موضوعي توافقي بين النزعات الثلاثية الأبعاد الوطنية والعربية والإسلامية. رغم هذا الثقل الفكري والمعرفي لم يجد الرجل القيمة العالية والمكانة التي يستحقها في وطنه كسابقيه من المفكرين الجزائريين و على غرار كبار الأدباء و المفكرين الغربيين في أوطانهم الذين يحظون بالكرامة و القيمة العالية يعتقد و يضيف عنه طالبه «الأستاذ الدكتور محمد الأمين بلغيث» أن معلمه «سعد الله رحمه الله» لم يحظ بالكرامة من وطنه إلا التبرم والاستياء والأوصاف التي أُلحقت به من قبيل: المعرّب والقومي والعروبي ...» هكذا يغادرنا عملاق الأدب والنقد والشعر في صمت رهيب و هو الذي تخرج على يديه مئات الطلبة والطالبات وأصبحوا مراجع في البحث والتأليف في التاريخ والتدريس الأكاديمي، فموته رزية كبرى و لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير، لكن الرزية فقد عالم يموت بموته خلق كثير.