الحلقة 2 والأخيرة إنتاج أدبي وعلمي غزير في غمرة إنتاجه الأدبي الوفير، كتب الباحث أبو القاسم سعد الله أطروحته للماجستير سنة 1960 عن الشاعر محمد العيد آل خليفة وكانت بعنوان: (محمد العيد آل خليفة رائد الشعر الجزائري في العصر الحديث)؛ وكان للمقادير مشيئتها ودورها، فلم يناقش رسالته وتوجَّهَ إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد حصوله على منحة للدراسة من جبهة التحريرالوطني. ومن قسم التاريخ بجامعة (منيسوتا MINNESOTA) تحصل على الماجستير سنة 1962، ومنها نال الدكتوراه سنة 1965، وعاد إلى جامعة الجزائر سنة 1967، وبدأ مساره الأكاديمي بين زملائه وطلبته، وتبوَّأَ عدة مناصب ومسؤوليات في الجامعة الجزائرية، وكان أستاذا زائرا في العديد من الجامعات العربية والأجنبية، وساهم في إصلاح التعليم العالي بتجربته وخبرته، وترأس لجانا علمية مختلفة كما كان عضوا في بعضها، كما أسندت إليه مهام علمية أخرى مثل فيها الجزائر أحسن تمثيل. وتقديرا لجهوده الأكاديمية التي تُذكرُ على الدهر فَتَشْكَرُ؛ خصه (معهد المناهج) بالجزائر العاصمة، بنشرية حول: (السيرة الذاتية والعلمية) تحت عنوان (أ. د. أبو القاسم سعد الله شيخ المؤرخين، وقدوة الباحثين) بمناسبة تكريمه واستحقاقه ل: (وسام العالم الجزائري) الممنوح له من طرف المعهد المذكور ربيع الثاني 1428 / ماي 2007 ؛ فتحية خالصة لِ: (معهد المناهج)على لفتته الخالدة، وتقديره لأعمال فقيدنا وتكريمه في حياته. وقد أنتج الدكتور سعد الله في مجال تخصصه طائفة من التواليف الموسوعية ككتابه الضخم (تاريخ الجزائر الثقافي) الذي جاء في عشرة مجلدات، واشتمل على 5071 صفحة، وموسوعته الأخرى (أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر) المؤلفة من خمسة مجلدات واشتملت على 1675 صفحة، وأطروحته للدكتوراه (الحركة الوطنية الجزائرية) بمجلداتها الأربعة، وتجاوز تعداد صفحاتها 1880 صفحة، فضلا عن كتبه الأخرى التي زادت على الأربعين وتوزَّعتها التراجم والدراسات المختلفة والتحقيق والإبداع الأدبي بمختلف ضروبه. وستبقى كتبه ودراساته شاهدة على موسوعيته وأصالة أبحاثه وغزارة علمه، فهو الرجل الذي جمع أطراف العلم، واعتكف في محراب التاريخ، ورابط دهرًا طويلا في خنادق الأدب، وكان بحق المفكر والمؤرخ والرحالة الطَّوَّاف الذي جاب الأمصار والبقاع النائية من أجل استكمال معلومة أوتسجيل تهميش يظنهما البعض من البساطة بمكان، وهما عند فقيدنا من صميم العلم الذي لا يستقيم إلا بهما وبأشباههما ونظائرهما، وهو الأديب الشاعر الناثر والروائي المبدع الذي جرب كل ألوان السرد، فكان يراعه مطواعا يستجيب ويتدفق كالسيل المنهمر، وهو الذي جال أصقاعا كثيرة للاطلاع على شتى فنون المعرفة والوقوف على منشإ ونهاية الحضارات، فكان المتقن المتحكم في فن الأداء العلمي بمهارة المتخصص الذي خُلِقَ للإنتاج الفكري وخُلِقَ هذا الأخير له، وكأنهما صنوان لا يفترقان. ثقافة معرفية شاملة وعلى الرغم من ذلك الجهد وما فيه من مثابرة وانضباط، فقد كان الباحث أبو القاسم سعد الله يتطلع من وراء كل تلك المتاعب والمشاق إلى التحصن بثقافة معرفية شاملة تكون بمثابة الذخيرة العلمية المسلحة بلسان العلم والدليل، التي تحتاجها جزائر ما بعد الاستقلال، تحسبا وتحديا للفراغات والتركة الخراب التي سيتركها المستدمر بعد رحيله. وكان فقيدنا يومذاك على علم ووعي تامين بمخططات العدو ومكره وأحابيله الإدارية والعسكرية التي كانت تستهدف تقرير المصير وتتربص باسترجاع سيادتنا الوطنية. وقد تحقق الكثير من حدس سعد الله، بتصاعد عنف منظمة الجيش السري (O.A.S) التي عملت على تلغيم التفاوض، وضرب استقلال الجزائر بشكل جنوني بوساطة تنفيذ جرائم جهنمية فيها الإبادة والمحو الكامل لكل ما له صلة بالشعب الجزائري الذي أصبح هدفا مستباحا لجرائمها التي لا تستثني شيئا ولا ترحم أحدا؛ وقد اشتمل مخطط المنظمة الإرهابية على زرع الخراب وإشاعة الرعب والذعر في النفوس، وتدمير المؤسسات واغتيال الأشخاص، ومناوءة كل ما هو جزائري، فكان اغتيال الكاتب مولود فرعون في: 15 مارس 1962، وتفجير الميناء في قلب العاصمة في: 02 ماي 1962، وحرق مكتبة جامعة الجزائر في: 07 جوان 1962، من بعض أعمالها الإجرامية الراسخة في الذاكرة الجزائرية. تحرير الدرس التاريخي وكان تحدي سعد الله في محله، فالجزائر في السنوات الأولى لاستقلالها كانت في أشد الحاجة إلى أبنائها وإطاراتها العلمية والثقافية في كل مجال. وكان فقيدنا عليه رحمة الله من أبرز تلك النخب المخلصة التي عادت إلى الجزائر للإسهام في بنائها؛ وقد عاد بعزيمة صادقة لتحرير الجزائر ثقافيا وتطهيرها من أدران المستدمر وآثار بقايا االمسخ والانسلاخ، التي دمرت الأمة الجزائرية، وفَرْنَسَتْ واقعها على مدى أكثر من قرن واثنتين وثلاثين سنة. وبعودة سعد الله إلى الجامعة الجزائرية، بدأت هذه الأخيرة تعرف نقلة نوعية في التدريس، وبدأ اليراع في أيدي الطلبة يتحرك من اليمين إلى الشمال. وعلى مستوى المضمون كان للشاب المتألق الدكتور أبو القاسم سعد الله الفضل الأبرز في تحرير الدرس التاريخي من قبضة المدرسة التاريخية الفرنسية وتفسيرها المغرض للتاريخ من وجهة نظرها الكولونيالية المتجنية، وتعصبها الشوفيني المقيت. وكان سعد الله صاحب «الحركة الوطنية الجزائرية» بمنهاجه الصادق ونظرته المتطلعة التي تقوم على استراتيجية علمية وطنية، يعمل على تأسيس مدرسة واقعية للتاريخ الجزائري، مدرسة موضوعية متحررة من هيمنة الإملاءات التي يحاول تكريسها والإبقاء عليها سدنة الاستدمار وقَوَّادِّيهِ بوساطة المنهج العلمي !!! وما هو بعلمي أو التدليس الكولونيالي من الذين تداولوا على دراسة وتدريس التاريخ الجزائري من منطلقات متشبعة إلى حَدِّ التخمة بالروح الاستدمارية القائمة على الاستكبار والزيف والاستعلاء. مدرسة قائمة بذاتها ويكفي الدكتور سعد الله أنه أصبح مدرسة قائمة بذاتها ورمزا علميا قضَّى أكثر من خمس وستين سنة فارسًا لا يُشقُّ له غبار في ميدان العلم، وسلخ يفاعته وزهرة شبابه وكهولته وشيخوخته بين القرطاس والقلم، وأحب الكتابة ومتابعة البحث إلى درجة الهوس والافتتان، فجاءت النتائج كما أراد لها أن تكون، وأصبحت الكتابة عنده جِرَشَّةً تلازمه ويلازمها، يكتب في كل مكان.. يصطحب معه كنانيشه أينما حل وارتحل.. يُدَوِّنُ.. يلاحظ.. يتساءل عن فكرة.. يبحث عن مخطوط.. يحاور من أجل الظفر بغائبة أو اكتشاف حقيقة علمية تنير دروب البحث وتبدد الضباب الكثيف الذي يحجب ذخائر التراث وحقائق التاريخ.. يثير النقاشات حول مواضيع تحتاج إلى التعاون والتركيز للوقوف على أجوبة تتعلق بقضايا ثقافية حساسة غير مجمع عليها. وقد آتت المدرسة التاريخية الجزائرية أكلها على أيدي أبي القاسم سعد الله وأينعت ثمارها في كل جامعات الوطن، ولاخوف على مصيرها ومشروعها؛ فأصلها ثابت وفرعها في السماء، وسيبقى سعد الله الرمز.. سعد الله النضال.. سعد الله الموقف.. سعد الله الإنسان الذي لا ينفد صبره.. سعد الله اليراع المتميز الذي لا ينضب حبره.. ويكفيه أن يكون من طلبته وحوارييه هذه الأسماء اللامعة والهامات المتألقة في سماء الجامعة الجزائرية التي تسلمت أمانة المشعل من أيدي المعلم الرائد الذي ذهب إلى دار البقاء مطمئنا، ونذكر منهم الأستاذ الدكتور العالم المحقق ناصر الدين سعيدوني، والبروفيسور الكبير محمد العربي الزبيري، والبروفيسور المرحوم يحي بوعزيز، والبروفيسور يوسف مناصرية، والأستاذ الدكتور محمد العربي معريش، والأستاذ الدكتور محمد الأمين بلغيث، والأستاذ الدكتور أحمد مريوش. والذي يريد أن يتعرف على سعد الله أكثر عليه أن يقرأ آثاره، ويتعمق في فهم نتاجه الذي يعد ظاهرة في عالم الكتابة الموسوعية التي لا ساحل لها؛ وبقراءة سعد الله واكتشاف عالمه الفكري الدسم نستطيع التعرف على اهتمامات هذا المفكر العملاق الذي لَمْ نعرف بعد من يجاريه من معاصريه في غزارة الإنتاج العلمي، والتفرغ للبحث الأكاديمي تفرغًا كليا. واللافت للانتباه أن أبا القاسم نذر نفسه للبحث الْمُضَنَّى الذي كان على حساب صحته، وأوغل في هذا الإتجاه حتى طالته طائفة من الأسقام، تضافرت كلها على النيل منه، وأحاطت به من كل جانب، وجعلت منه فريسة للأدواء المستعصية، وما كان منه عليه رحمة الله إلا أن تصدى لها بمواصلة الكتابة وبالتصميم على إنجاز ما يمكن إنجازه، وكان صبورًا وقويًا ببأْسه وعناده، وواجه محنة العلل التي جاءته تترى بإضافة مشاريع جديدة إلى مشاريعه السابقة، وتشبث بالبحث ودفع ضريبة التعب والمرض في سبيل حفظ تاريخنا الثقافي من الانمحاء والتلاشي والضياع، وأبلى البلاء الحسن بصموده المتواصل وثباته الذي يشهد له به المنصفون. واستمسك في نهاية المطاف بالقلم بين ثلاثية السبابة والوسطى والإبهام، مثله مثل المقاتل الشهم الجريح في ميدان الوغى، يقاتل وجراحه تنزف؛ ذلك هو سعد الله الذي أبى أن يسقط القلم من يمناه، وأصر على استمرارية المواجهة بين القلم والقرطاس، وتسجيل آخر الفصول من معركة الحبر مع بياض الورق الذي سيظل بياضا بعد مجالدة سعد الله الذي انطفأت بذهابه ورحيله إلى دار البقاء شمعة من شموع الوطنية والعلم والتاريخ. فرحم الله أبا القاسم سعدالله وأسكنه فسيح جناته. «انتهى»