سَأحاول هنا الاقتراب من القراءة للرّمزية الثّقافية التي ترتبط بالمخيّل، إذ أن تأريخ الحَدث التّاريخي أو سَرده وكشف تفاصيله ليست من اختصاصي العلمي ولو أنّ تلك القراءة في الإمساك بالحَدث التّاريخي في كليّته يتطلّب الرّحلة إلى هذا الحَدث بلغة من أنشأ النّص الرّوائي، واعتمد «الذّاكرة» التي امتزجت بالحقيقة والحُلم والخيال، وهذه قوّة المَحْكي في التأثير النّفسي والاجتماعي في أزمنة مشابهة من حيث جدل «نحن والآخرون»، أو تلك الثّنائية التي ظلّت حاضرة في تاريخ المسلمين (دار الكفر ودار الإيمان) تغتني بمعجميّة دينية فيها التّماهي والتّماثل مع العصر الإسلامي الأوّل. هذا الحُضور للعصر الأوّل الإسلامي أو أحياناً العودة إلى العصر الأمازيغي ومقاومة الاحتلال الرّوماني يتبعه حضور «تاريخ الفُتوحات» أو «تاريخ تأسيس الدّول» مثل الدّولة الإدريسية في فاس أو الأغلبية أو الأندلسية أو الرستمية في تيهرت ثم المرابطية والموحدية ثم الدّويلات. مسَار الحكي هنا واحد في سبب التأسيس لكن يختلف في الشّرعيات من الشرعية الشّريفية أو الفَتحية أو الشَّرعية العلمية، فدولة الباي محمد بن عثمان الكبير في وهران قامت على «شرعيّة الفتح» وكانت النّوازل الفقهية المتعلقة بالنّشوء الجديد تجد الإجابة عنها من نخبة علمية تحيط به، منهم من هو وريث بيولوجي وعلمي لمدرسة مازونة ذات الخصوصية الفقهيّة في النوازل منذ أبو زكرياء يحي المازوني والونشريسي، كما أن «شرعيّة بركة الأولياء» حاضرة سواء بدعواتهم وأذكارهم أو بألوية الحرب في المعارك التي كانت تُمثِّل الانتماء القَبلي- الصُّوفي، وهناك ألوية كتبت فيها أسماء أهل معركة بدر للتبرّك . ومما يُلاحظ في «النّص الفتحي-الوهراني» البدء في التأريخ للمدينة من التأسيس الأول «دور قبيلة مغراوة» في إنشائها وهذه «شرعيّة تاريخيّة» جعلها بعضهم سبباً للتّأليف مثل الزّياني صاحب «دليل وهران» الذي قصد بعمله الردّ على الذين يرون تاريخها قبل ذلك، أي قبل التأسيس الإسلامي في القرن الثالث الهجري، تِلكم الشّرعيات الثّلاث (الفتح، والبركة الصُّوفية، وشرعيّة التأسيس) هي الحاضرة في مفاصِل الحدث الذي يتكرّر بصورة واحدة في مفاصله في يوميات وقصص المؤرخين وفي الأسواق العامّة وقتها، وشكّل مخزوناً من الأمل في بداية الاحتلال الفرنسي للمقاومة الشّعبيّة في انتظار مهدي جديد مثل الباي محمد بن عثمان الكبير أو قبله من أجداده الأخوّة عرّوج وخير الدّين وإسحاق. وهران: التّأسيس وإعادة التأسيس تتكثّف الرّواية التّاريخية التي تتحدّث عن تأسيس المُدن، وأبرز عنصر في متن الرّواية ذات الطّابع الدّيني هي ارتباط ذلك ب«الكرامة»، بأسلوب ومضمون عجائبي فيه القُدرة على التّأثير الإلهي وتكون الطّبيعة الجغرافية طَيّعَة للمُؤسّس أو المؤسِّسين في الاستجابة لهذا التّحدي، ولذلك تكون «دار الله» –المسجد أو الجامع- أساساً تبرّكياً وشكراً لله على التوفيق والنّصر (المدينة المنوّرة والقيروان وفاس وتيهرت) وفي إعادة التّأسيس على أنقاض المُدن القديمة تكون «مدينة الفَتح» (الإسكندرية وقرطاج وبجاية). الرّواية التأسيسية للمُدن تَحفَل بمخيّلة غَنيّة في عناصر الحياة التي تُنسب للصّالحين ولو كان ذلك أُنجز على أساس علمي ولكن «التّأسيس هو خَلْق جديد» ولذلك المؤسّس السّياسي أو العسكري قد يكون هو ذاته المؤسّس الرّوحي في الآن ذاته أو يحتاج شرعيّة دينية تُحكى حولها الكرامات ويكون «حارس المدينة» الرّوحي في حياته أو مماته، وتكون الأبواب التي تحمي البلد نوعين: أبوابٌ دفاعية كما هو معروف أو أبواب روحية –سماوية تَحرس السّكان والخيرات ولذلك هؤلاء مثل العَسكر «رجال البلاد» وإذا كان منهم الرِّضا وتقديم الطُّقوس السّنوية كان الأمان والغيث والاطمئنان وزوال الجوائح والأمراض وردّ العدّو والّلصوص (مثال حكاية سيدي الهوّاري عن موقفه السّياسي من الدولة الزيانية وبعض سُكّان وهران بعد مقتل ابنه وتسليمه لوهران بعد سبعين عاماً من موته للإسبان –تسليم رمزي- «دعوة الشّر» نهاية الحِراسة ولكن المخيّلة الدينية الشّعبية مع محمد بن عثمان الكبير أنه هو من حرّرها أي سيدي الهواري - بعد نفاذ مدّة العقوبة- وأولياء وهران والزلزال ، كلها اشتركت في حَدث تاريخي رمزي أعاد التأسيس لهذه المدينة. تأسيس المدن وتحطيمها وإعادة تأسيسها مثل قيام الدّول والسّقوط حاضِرة في نُصوص المناقب والتّراجم بعبارات مُكثّفة وبلغة تشويقية في حَكي الكرامات في زمن سُقوط المُدن وتخريبها بفعل الحُروب أو الاحتلال في القرون التي تلت معركة حصن العُقاب (609ه/1212م ) وسُقوط غرناطة وأخيار الدّولة المركزيّة في شمال إفريقيا.، فتاريخ المتخيّل الشَّعبي يتجاوز السّردية اليوميّة في كتابة التّاريخ أو التركيز على القائد السياسي، ويحضر التأويل كقراءة للرّمزية الثّقافية التي تفتح أمامنا تاريخا جديدا يترابط منهجياً وفي الرّؤية مع الأنثروبولوجيا والديمغرافيا واللسانيات والتأويلية، «ليس هناك تاريخ بالتاريخ فقط بل هناك تاريخ بشتّى أصناف العلوم»، أو كما يقول غيزو Guizot لقد اكتشفنا أن في كل المجتمعات مهما اختلفت ، يوجد ارتباط وتأثر متبادل بين البنية السياسية والاجتماعية والاقتصاد والمعتقدات وأبسط التعابير الذّهنية وأكثرها». وهران: العبادة والعلم والجهاد هكذا سنكون أمام تاريخ طويل حيث المُدن يُعاد تأسيسها وتحريرها (فتحها) بفضل ظاهرة الرّباط التي هي تجمع بين منسكيات ووظائف دينيّة ثلاث (العبادة والعلم والجهاد) وهي الوظائف التي كانت مؤسّسات بديلة حلّت محلّ مؤسّسات الدّولة المركزية بعد انهيارها منذ القرن الثاني عشر ميلادي فكان الإصلاح بين القبائل والفصْل في الخلاف قضائياً وجِباية الزكاة، ونكون أمام تَمدين جديد له خصوصيّته «المدينة- الثّغر» مثل مُدن : المنستير وعنابة وبجاية ومجاجة ووهرانوالرباطوسبتة ومليلية ..إلخ، «المدينة- الثّغر» هي مدن بحرية تُطلّ على «البحر الرّومي» بلغة المؤرّخين، والتسمية هنا لا تأخذ بعين الاعتبار الخُصوصيّة الّلونية والجُغرافيّة ولكن خصوصية قومية ودينية، فهو – أي البحر- الذي تأتي منه سُفن الاسبان والبرتغال بعد نهاية الخلافة الإسلامية كما كان شاهد مأساة الهجرة الأندلسية بعد الهجرة الأولى من الجنوب إلى الشمال التي تأسّست بفضلها مدن الأندلس، إنه رمزٌ للانتصار والانكسار. وهران المغراوية-الأندلسية وإعادة التأسيس النّص التّاريخي الذي يتكرّر في رواية وهران أنّ الأندلسيين هم الذين أنشؤوا مرفأ ليصبح عمراناً وكان هاجس بعض المؤرخين في التأريخ لوهران الردّ على الذين يحاولون البحث عن البداية من الرومان وحرمان الفضل الإسلامي على هذه المدينة ومنهم محمد بن يوسف الزّياني الذي عاش زمن الاحتلال الفرنسي: «أوّل من اختطّ وهران، أي بناها وأسَّسها ومدَّنها وحَرسها، هو المغراوي خَزر بن حفص بن صولا بن وانزمار بن صقلاب بن يصلين بن مسروق بن زاكين بن ورسيخ بن جانا بن زنات في عام 92 أو 91 من القرن الثالث الهجري وهذا القول الأخير هو الأصح» ، ويرى أبوراس الناصري المعسكري: «وكان ممّن امتدّ له الملك بهذه العُدوة عبدالرحمان بن الحكم بن هشام بن عبدالرحمان الدّاخل الأموي، وهو الذي أسّست على يده وهران غير صحيح، وإنما أسست على يد حفيده عبدالله بن محمد بن عبدالرحمان» ، والرواية في زمنها أو في أزمنة لاحقة تأكيد شرعيّة الولاء السّياسي للأمويين في الأندلس، ولاء القبيلة البربرية «مغراوة يقول الزياني: « اعلم أنه لا خلاف أن مغراوة لهم ولاية عنق لبني أمية كما أن لصنهاجة ولاية للعلويين ، وإنما الخِلاف في سبب إسلامهم» وبطونها لعثمان بن عفان رضي الله عنه من خلال بيعة جدّهم المسالمة صولات بن وزمار وتأسيس «الإمارة المغراوية» التي ظلّت القوّة السياسية والعلمية لأمراء الأندلس والتي كانت تسعى الدّول القائمة في بلدان شمال إفريقيا طلب رضاها والتحالف معها ودخلت في حروب وهذا سبب «السّقوط والانبعاث» الذي لازم تاريخ وهران، وعبارة «»خُرِّبت وهران وأحْرقَت سنين ثم تَراجع النّاس إليها وأعيد بناؤها» المكرّرة في كتب التاريخ تذكرنا بعنصر أساسي في أساطير الموت والانبعاث . مدينة أسسها المغراويون الأمازيغ مع الأندلسيين من عرب وأمازيغ واستقبلت الإسلام وأهله من العلماء والقرّاء الذين قدموا في رحلات متكرّرة، وتعايش فيها ازداجة وعجيسة ومسرغين ثم كانت الهجرات المتتالية من قبائل أخرى عربية وأمازيغية كما كانت ملجأ المسلمين واليهود الأندلسيين بعد المحنة الكبرى، ويعاد التأسيس من جديد زمن الباي محمد بن عثمان الكبير لتشهد المدينة إعادة تركيب عمراني وديمغرافي وترتيب قبلي حسب دور كل قبيلة في عملية التّحرير، وفي كل انبعاث جديد للمدينة تشهد تنوعاً سكانياً وثقافياً ولغوياً: «وجاءت لها الملوك من أقاصي الأقطار، وتزاحمت عليها لنيل قضاء الأوطار، ورحل لسكناها الأخيار والأشرار، والعبيد والأحرار، والمسلمون والكفّار، فكانت مفتخرة على غيرها بمخزنها السَّادات الأسود، أهل العناية والشّجاعة والعَطاء الممدود، ومقصودة للعساكر والجيوش والحشود، مؤسَّسة في أسفل (جبل هيدور) الأشمّ» سَرديّة «فتح وهران» حَدثٌ تاريخي مِفصلي في تاريخ المدينة يتكرّر في أكثر من نصٍّ نثري أو رَجْز منظوم بطريقة شِعريّة أو أشعار احتفاليّة بالنّصر فيها المدح للذي قاد الانتصار وأخذ لقب «الفاتح» محمد بن عثمان الكبير بل هو في نظر المادحين والمؤرّخين لمآثره يستحقّ لقب «أبو الفتوحات»، كما أنّ المدح والثّناء وتعداد مناقبه وخِصاله ارتبطت بالتأريخ للمدينة وشرعيّة في الدّفاع عن الوجود التركي في الجزائر والرّد على الذين ثاروا ضدّ هذا الوجود أو انتقدوا ظُلمهم وسيرتهم في الحُكم وعلاقتهم بالرّعية مثل ما أورده أبو راس في «الشّماريخ» أو رسالة العربي المشرفي في ذكر الأمجاد النَّسبيَّة والعلميَّة للمشارف وأهل الكرط بمعسكر . مدح الباي والمدينة واحد إذ أنّ الصفات الجغرافية التي تدل على الشموخ هي المعاني ذاتها التي ألبسها المؤرخون والقصّاصون للباي الكبير ويمكن ذكر هذا النص الذي يحضر فيه الوصف الجميل للمدينة مع وصف أسدها الجسور محمد الباي بن عثمان الكبير: « لو رآه (يقصد بناء وهران) صاحب «تاريخ القاهرة» لعدّه من أعجوبات البناء التي ذكرها في كتابه: «حسن المحاضرة» ولو رآه الغزال صاحب «الرِّحلة» لما اعتنى بوصف سبتة وطليطلة، ولو أخبر به صاحب كتاب:« اللباب» الواصف لضخامة بيان البلدان، لما قال الدار داران إيوان وغمدان، ولا سيما قلعة مرجاجو الشهيرة ، الفذة الجامعة الكبيرة، يقل مثلها في الوجود، وتتيه على قلاع بني حمود، وقد وضعت في قنّة جبل لمس الأفلاك بيده، ونظّم النّجوم في مِفرقِه، وتلفّع بالسَّحاب في مِروطه، وأوى الرّياح إلى جَوّه، وألقى إلى خبر السماء بإذنه، وأطلَّ على البحر بشماريخه، واستدبر قاعات سيرات وملاتة بظهره، وأنام سائر جبال بني ماخوخ في حِجره، وحقَّ المدح للجديد والعيون، فإنهما والله قُرّة للعيون، وأجمعت العَجائب بالبرج الأحمر فإنَّه يفوق حِصن بني الأحمر، ....هذا وقد ملَّك الله جميع تلك الهياكل، المصانِع الحَوافل، للمنصور بعناية الملك الدّيان سيدي الباي محمد بن عثمان مغنماً مكسباً حلالاً طيباً» الحَدث التّاريخي هنا يتماهى ويستحضر التّاريخ الطويل من الفتوحات الإسلاميّة والجهاد الإسلامي محمّلاً بالصُّورة الملهِمة في الذّاكرة والمخيال «فتح مكّة» التي هي النموذج المحتذى في الثّقة بالله والقدرة على استرجاع الحقّ وفي العفو والتّسامح، كما يتحدث صاحب كتاب «الثغر الجماني» عن تحرير القدس بفضل الكردي صلاح الدين الأيوبي في معرض حديثه عن الباي، وهنا يستحضر «القداسة الجهادية» و«الأصل العِرقي الكُردي» الذي يشترك فيه الباي محمد بن عثمان الكبير مع صلاح الدين رحلة التّحرير: المسلك العلمي هكذا «سَردية فتح وهران» حدث يستحضر بكثافة رمزية في العبارة والتخيّل الألفاظ نفسها التي وظّفها المؤرّخون في بناء معمارية «النّص الانتصاري» «الفتح، الكفار، صلاة الشكر، الدّخول للمدينة من أبواب مختلفة، الجهاد، رايات النّصر، الدّعاء والتهليل..إلخ، كما كانت الشُّهور فال خير ورمزية للفتح مثل شهر رجب الذي كان فيه خروج الاسبانيين من المدينة حتىّ الزلزال يُصبح جنداً إلهياً مثل الملائكة في معركة بدر، فهو الضّرر الذي الحقه الله بالمحتلين والنّفع بالفاتحين، وعبارة «اذهبوا فأنتم الطُّلقاء» كانت تأصيلاً فقهياً للذين كانوا من نخبة العلماء محيطين بمحمد بن عثمان الكبير في العفو عن بعض الجزائريين المتعاونين مع الاسبان والذين اعتبرهم شيخ المشارف والراشدية في زمنه عبدالقادر المشرفي في درجة المرتدّين لأنها «خيانة وطنية» -بلغتنا اليوم - في كتابه «بهجة النّاظرين في أخبار الداخلين تحت ولاية الإسبان»، فالباي الكبير أرسل لهؤلاء «المغاطيس» قاضي وهران عبدالله بن حواء وخطيب المسجد الأكبر أحمد السنوسي ومحمد بن فريحة لمعرفة توبتهم وأنّه عفا عنهم بفتوى ويمكن أن يندمجوا في المجتمع الجديد، فاختار بعضهم البقاء وآخرون رحول مع الاسبان وتم اختيار مدينة سبتة لهم. ولقراءة «الحدث الفتحي -الوهراني» وفهم شبكته الرّمزيّة سواء في واقعه الزّمني الذي حدث فيه أو من خلال التّعبير اللغوي الذي يتكرّر بقدسية مثل حكي الكرامة والمعجزات أو الرؤى المنامية التي سبقت الفتح أو الحكي المنقبي للملوك والحكام والصّلحاء باعتبار أن الثّقافة هي شبكة رمزية عالق فيها الإنسان مثل ما يقول غيرتز: « الثّقافة هي شبكات رمزيّة ينسجها المرء حول نفسه وهي عبارة تحتاج الشّرح والتأويل» ، سنحاول أن نعيد ترتيب الحدث في فقرات زمنية تقابلها رمزيات لا زمنية تتحكم في الحدث وتوجهه، هي قَدَره السّماوي النّازل عبر «الكرامة» و «الأولياء» و«العلماء» و الأزمنة القمرية» و«المجاذيب «، هنا المخيال الشعبي تاريخ كذلك سواء في صناعة الحدث أو الحكي عنه بعد انتهائه. نوظّف التّحرير هنا تعبيراً عن «الفَتح» للتحليل وتقديم الحدث التاريخي، فالشُّحنة الثّقافية والسياسية لكلمة «التّحرير» التي لها علاقة بالحرية وقِيم الثورة الفرنسية والأمريكية ثم حركات التحرر من الاستعمار في القرن العشرين تختلف عن «الفَتح» الذي يُشكّل في الذّاكرة الإسلاميّة فعلاً دينياً مقدّساً من دلالتها القرآنية «الفَصْل» من أجل انتصار جانب «الحق»، إنّ «الفتح» هو «الفصل» بين الكفار والمؤمنين، بين الحقّ والباطل، بين المتخاصمين، بين قوم أو عشيرة في خلاف فيظهر الحقّ وتتبيّن معالمه، و«الفتح» هو يوم القيامة قال تعالى: « قلْ يوم الفتحِ لا ينفعُ الّذين كفروا إيمانُهم ولا همْ يُنظرون» سورة السجدة 29، المعاني كلّها تحمل ثنائيّة بين طرفين، فريقين: فريق «أهل الحقّ» و«فريق الباطل». في سردية فتح وهران أو تحريرها كان بعض الفقهاء مُخلصاً للسُّؤال القديم: هل فُتحت عنوة أو صُلحاً؟ قال الزياني في دليله: « واختُلِف في فتحها، فقال بعضهم: إنّ الأمير (رضي الله عنه) فتحها عنوة ودخلها، وقال آخر: إنّها فتحت بشدة الزلازل الحالة بها ففرّ منها النّصارى دون علم من المسلمين..» وبالتالي لم يكونوا في زمنهم وشَرطهم التّاريخي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لأن منظومتهم المعرفية تقليدية ومازالت لم تستوعب بعد أفكار التّحرير التي نجدها في الحداثة الغربية وفي مقاومة الأمير عبد القادر، فهو تحرير ثغر احتلّه الاسبان مثل مدن سقطت قبل وهرانكغرناطة وقرطبة وسبتة ومليلية، ومن كان الحُلم عند أبي راس الناصري في إعادة الجنة الضّائعة «الأندلس» ولم يكن في خُلده أنّ أندلسيات أخرى ستسقط تباعاً (ت 1823م). رباط الطلبة: الحصن المنيع كانت القيادة العلمية-العسكرية تحرّكت من مازونة الرّمز العلمي –الفقهي والموطن السّياسي الأوّل لإمارة مغراوة البربرية التي كانت مُوالية سياسياً للأمويين في الأندلس وأسّست وهران، وتُصبح بعد قُرون رَمزاً لعاصمة الإيالة الغَربيّة في الزّمن العثماني قبل ان تنتقل عاصمتهم إلى مستغانم ومعسكر ووهران، مازونة الحاضرة العلميّة –الفقهيّة تبدأ منه الرحلة الجهادية –الرباطية تحت إمرة محمد بن علي أبي طالب المازوني الذي تجاوز عمر الثمانين سنة وبحكم مشيخته ونسبه الشريف يكلّفه الباي محمد بن عثمان الكبير مع ابنه الشيخ هني وأخوه السيد محمد بجمع المتطوعين من تلامذته المنتشرين في الغرب الجزائري للالتحاق برباط علمي – جهادي بوهران وتنشأ لهم سوقاً وتغلق المدارس القرآنية في بقية المناطق ما عدا الرباط، سوف تكون لقراءة القرآن الكريم الجماعية بشعاب وهران ومغاراتها صوتاً مدوياً للتبرك وطلب الانتصار كما يكون قراءة البخاري وتقديمه أمام الجيوش تبركاً سماوياً وهو تقليد شاع منذ قُرون واستمرّ إلى زمن الأمير عبدالقادر. حركة الطُّلبة – الجيش الذي تطوّع كان تعبئة في مسالك المُدن والقُرى من أجل إخراج «الكافر» من وهران، إنها «هجرة» نحو ثغر في أيدي الأعداء وسيعود مبتسماً بفضل التحرير وهي عبارة عنوان كتاب أحد شهود هذا الفتح ابن سحنون الراشدي «الثغر الجُماني في ابتسام الثّغر الوهراني»، وصول المسيرة التعبوية إلى وهران الغربية مقابل الحصون الاسبانية سوف يلتحق فقهاء ومتعبدون آخرون إلى هذا الرّباط ويكون هنا الحضور الرّمزي الاحيائي للتاريخ القريب من خلال استحضار المرابطين في الفتح الأول لوهران (1708) ويكون مقام الولي المقرئ الشيخ بن ثابت بين السينيا ومسرغين الذي رابط فيه وتبتّل فيه لله مدفناً للشهداء، وهي رمزية تبركية سواء لأنه مكان عبادته أو لأن ثوى أجساد الشّهداء. أمكِنة ورمزيّات سوف يكون رباط الطّلبة إحياء لذاكرة من التّعبد والجهاد خصوصاً تلك المغارات والكهوف القديمة التي كانت خلوات للصالحين، وقد ظلّ الجبل ينسب إلى عبدالقادر الجيلالي صاحب «جبل المايدة» أو سيدي الغريب أو سيدي الفيلالي وقبل هذا الزّمن خلوة –مغارة دادا أيوب جنب الحمام المعدني الذي شهد نهاية دولة المرابطين وقيام دولة الوحدين فآخر ملوك التاشفينيين قُتل هارباً مع زوجته من هذه الخلوة التي جاءها للتعبّد في أواخر رمضان. أمكنة وهران الرّوحية التي تحمل ذاكرة العُبّاد والمرابطين هي ما تشكل في المخيلة الشعبية ونسجت حولها الأقاصيص من البطولة والكرامات، وقد تمّ تأسيس أماكن أخرى رمزيّة تمّ طمسها أو نسيانها في الزمن الفرنسي، أمكنة التبرك الشعبية هي خلوات للعبادة أو مشاهد استشهاد مجاهدين ماتوا من أجل استرجاع هذا الثّغر. إنّ الطّلبة والفقهاء في الغرب الجزائري يستحضرون ثورة القرّاء (الفقهاء) تحت لواء عبدالرحمان بن الأشعث (ت 84) الذي شارك معه ما يقارب خمسمائة من بعض الصّحابة والتابعين لخلع الخليفة عبد الملك بن مروان ونائبه الحجاج بن يوسف ، كما كان تأسيس أوّل دولة إسلامية (الرّستمية) في شمال إفريقيا بفضل «حَملة العِلم» وهم عبدالرحمان بن رستم وعاصم السّدراتي وإسماعيل بن درار الغدامسي وأبو داود القبلي النفزاوي وقضوا مع شيخهم أبي عبيدة خمسة أعوام تلقُّوا فيه علوم المذهب في كتمان وسرّية وفي عودتهم للمغرب انضم اليهم أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمع المعافري اليمني وأثناء وجودهم تظاهروا بتعلُّم صناعة القِفاف في سِرداب تمويها للأمكنة في وهران قدسيتها الدينية سواء أكانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية، وتحمل وظيفيتين: إما السّخط أو الرّضا، وتكون علاقة الجماعة بهذه الأمكنة علاقة خوف ورهبة وأمل، فمغارات وهران هي الرباطات والخلوات التعبدية كما أشرنا إلى ذلك وجبالها تأخذ تسميتها من عبادها وأضرحة علمائها مقصداً شعبياً ورمزاً للجهاد، ومنها ما تمّ طمسه بعد احتلالها من طرف الفرنسيين مثل ضريح الشهيد شعبان الزناقي الذي قتل في معركة ضدّ الاسبانيين، وحتى إعادة إعمارها زمن الباي كانت العمارة مجاورة لهذه الأمكنة، وقد كانت «الرِّحلة الجهادية» تراعي مسالك التبرك بل خضع الباي لرأي متعبد صوفي في العودة إلى معسكر والإتيان عبر مسلك آخر (وهنا استحضار صلح الحديبية في عودة الرسول عليه السلام للمدينة)، « ....ولكن نحن وأنتم في رأي الأولياء والعلماء أولي الألباب، فهم أدرى منَّا بالأمور، وبإشارتهم يكون لنا الفوز والسُّرور، فبعثوا من حينهم لولي الله الشَّهير، السيد محمد بن دية الضرير، وهو بجبل (تاسالة)، فأتوا به في أكمل حالة، فاجتمع به وشاوروه وتردد القول بينهما وحاوروه، فقال له الولي المذكور قولته الكاملة، إنّك لا تفتح (وهران) في هذه السنة، وإنما تفتحها يوم الاثنين من رجب سنتك القابلة فسُرَّ بها الباي وفرح، واطمأنَّ قلبه وصدره انشرح، وكان هذا الباي معتمدا في فتحها على كلام سيدي الأكحل الخلوفي، فوافقَ ما قاله هذا الولي الصُّوفي، وكان هذا الولي يقول: مَن أبى الخبار، ما بقي من يعطي الأخبار، فارتحل الباي من حينه ولأم عسكر رجع، وصار يراصد الوقت الذي هو له أنفع، ولما كان سنة (1206) قدم لفتح (وهران) في مائة فسطاط، ونزل ب (تليلات) فجاءه وليّ بهلول من أولياء الله المفتوح لهم حجاب الكشف، وصار في المحلة أيُّها الباي إذا أردت أن تفتح (وهران) فآت لها على جنين مسكين، وكان هذا الجنين ببلاد أولاد علي فلما سمع الباي ذلك أحضره لديه، وقال: ماذا تقول يا هذا السيّد، فقال له القول هو ذلك، فرجع الباي لأم عسكر وخرج بمحلته على أبي الحنيفة، ثمَّ نزل ب (الزفيرف) وجاء على القعدة فنزل ب (جنين مسكين)، ثمَّ قدم (تليلات) فجاءه ذلك الولي وقال له الآن تفتحها بإذن الله تعالى، ثمَّ ارتحل ونزل بالضَّابة قبلتها، ثمَّ ارتحل ونزل عليها وحاصرها وضايقها مضايقة شديدة، وكان القتال عليها مترادفا، وحضر لقتاله عدد من الطَّلبة يقرب الخمسائة، وكبيرهم الشّيخ محمد بن المولود المخيسي، وفيهم العلاّمة وليُّ الله الشّيخ سيدي محمد بن أبي طالب المازوني صاحب الحاشية التي اسمها: (دارة الحواشي في حل ألفاظ الخرشي)» مسالك سير الجيوش نحو وهران تحوّلت إلى رمزيات يتفاءل بها الباي أو الأمير عبد القادر فيما بعد، وحضور معاني الأمكنة ودلالتها وتأويل أسمائها حاضرة في النصوص التراثية ومنها رحلة الحج التي قام بها العربي شنتوف من معسكر التي هي رحلة عبر تأويل روحي للجبال والأمكنة وزيارة الأولياء انطلاقاً من مدينته معسكر سردية فتح وهران من خلال القِراءة للرّمزية الثّقافية لتحرير وهران يتبيّن لنا أنّ «رُوح الجماعة» في التأسيس والإنجاز وإعادة التّأسيس حاضرة بالرغم من الكتابة التاريخية التقليدية يحضر القائد الحربي أو الزعيم أو السياسي أو النبي، فانّ الأنثروبولوجيا التاريخية وتاريخ الذهنيات والبنى والمتخيّل يسمح لنا برصد «روح الجماعة» في الذّوق والجمال والتشكيل الاجتماعي والعمارة ومن خلال تلك الثقافة والروح ندرك التصورات للكون والوجود، إن «سرديّة فتح وهران» تفتح أمامنا فهم «قوّة المتخيّل» في الفِعل المنجز، وهي فاعليّة لها قوتها مثل «فِعل السّياسي أو العسكري» بل تُوجِّه فِعل هذين الأخيرين مثل ما رأينا دور الصّوفية والكرامات والرّؤى المنامية، كما أن حضور أزمنة التأسيس التّاريخي حاضرة في ثقافة هذا «السّرد الفتحي الوهراني» سواء أكانت غزوات الرسول ومنها المعركة الشهيرة بدر، أو تحرير بيت المقدس. إن الفعل الإنجازي الذي أدّاه محمد الباي بن عثمان الكبير هو شراء المدينة من الأولياء، حماتها وتكمن هذه المرابحة في تجسيد النصب التذكارية (قِباب) أو إعادة بنائها، وإعادة بعث المدارس العلمية في حاضرة انطفأت شمعتها، وقد خصص الباي لدراسة كل متن أو كتاب ليس في الدين فقط ولكن في الآداب والفلسفة والتاريخ مثل كتاب الأغاني مبالغ مالية معتبرة، هكذا عبّر عن ذلك بانتشار ثلاثة أسواق: «سوق الأذكار، وسوق العلم، وسوق الجهاد» وتكثفت هذه الأسواق في رباط وهران، وانتعشت بعد الفتح، وهذا سمح لأن تكون هذه المدارس ومدينتها وهران فضاء للتعايش والتسامح، للإشارة الأمير عبدالقادر ومن كان معه من بعض الخلفاء والفقهاء تخرّجوا من «المدرسة المحمدية» التي أنشأها الباي ومدرسة أرزيو (بطيوة) التي كان شيخها القاضي ابن الطاهر الرزيو (عالم الأديان والمنطق).