الموت بقدر ما هو عنيف ..بقدر ما هو جميل ..إلاّ أنّ جماله يخفيه حجاب الحياة. الصّقر المسافر صوب العلى ..دعني أخاطبك من دار الغدر .. والدّمع المالح ينهمر، أتذكّر حين جمعتني بك الأقدار بدار التّخي عبد الله ،و كنت ساجيا كالبحر ..مفتوحا كالكتاب ..خفيف الرّوح ..جميل الحجاب ،بتواضعك وابتسامتك التي لا تبارح شفتيك..وخفّة ظلّك وبداهتك ..التي ميّزك بها ملهم الفجور والتّقوى ،وكنت سعيدا أنا بمعرفتك..التي كانت غذاء المودّة والأدب. وتكرّرت اللقاءات،وتلتها عاصمة سيدي نايل،وفيها أيقنت فيك العربي القح ،صاحب المبادئ والطّرائف ،روّضت الفيزيا في مخابرها..وشغفت بالأدب العربي فشكّلتك اللغة ..ونحتك التراث الذي نهلت منه ..ومن مشائخه العرب.. الذين سكنوا باطن الأرض،فكنت الضّليع في العربية وأدابها ، ومرّت السّنون مرور الساعات .. وهاهو قرينك يقف الآن من حولي ينذر بالشجى، ذكّرني بوهران حين جمعتنا إبّان عرس الجلفة الثقافي بكنفها ..لأسبوع كامل..كلّه شعر ورقص وغناء ،وكان الحديث معك ماتعا وجميلا..وحديثك يتسرّب للجوانح يسكنها ، ميّزتك الدّعابة ..تقبّلت الآخر المختلف.. ونزلت له ولا تبالي بالترف.. يابن العروبة والبيداء والشّرف .. فزادك الله رفعة وشغلت قلوب الورى،وكانت لك المكانة المرموقة بين المهتمين والمتكلمين ومعشر الشعراء ..وكان لك حضور الأمير ببرجه وصولجانه.. وكم كنت منتشيا ساعتها ..وأنت ترى باديّة السباسب تحطّ رحالها بحاضرة سيدي الهواري..تزبرجها ..وتشغل نساءها ورجالها ، وعدت عودة الطّفل الضال إلى النّبع والأصل ،وكنت منتشيا بين الخيل والبارود، وحرائر الرّحل ..والأكلات الشعبية وقصائد الفصيح والملحون،والمسامرة مع الثّلة الطيبة من بلابل النوايل، وسحر المرسىى وبركة القطب الرّباني..سيدي الهواري ،أتذكّر الشاعرة عايدة سعدي حين خصّصت لنا كواستر صوب المعالم المهمة والطاعنة في القدم ،ومنها سانتا كروز.. التي تشهد على سعادتنا وانتشائنا ببعضنا ..»وحين تحضر المحبّة يسقط الأدب»،أذكر والقلب يدمى ،حين انثنى بنا عابر سبيل لإذاعة الباهية، رفقة الشعراء والكتاب الرائعين ، عقيل بن عزوز ، قربوعة عبد الباقي،عايدة سعدي ،هيثم سعد زيان ، ووحيد صابر بورنان ، وكانوا محملين بالمحبّة وعبق المكان ،وكنت قائدنا وبوصلتنا ،بحنا عبر الأثير بكلّ ما في جعبتنا وما نحمله من تراث ..من معقل ولاد نايل ، وتحدثت أنت بإسهاب كأنّك واحد من النوايل الأحرار ،ومازالت الأسطوانة في سيّارتي وإلى اليوم..تشهد لك وتذكّرنا بمحيّاك الجميل ، .. تذكّر يا راحلا ..حين نادتنا بسكرة السكرة ،أين حططّنا الرّحال بين أحضانها ،وآوتنا مع كوكبة من الشعراء والفنانين،أذكر منهم : الفنان أحمد وحيد صابر بورنّان ،الشاعر هيثم سعد زيان ،الأديب محمد الصّالح حرز الله، الشاعر بوزيد حرز الله ،الفنان فؤاد ومان ،الشاعر توفيق ومان ، الفنان الصادق جمعاوي ،وشعراء كثر من أرجاء وطني ،وكنت أيها المسافر رفقة حرمك تماشيك كظلّك ..منتشية بما تفضي الزّهور إلى الزّهور ،وكانت سهرة فنية أحياها الفنان فؤاد ومان وطاب السمر ،شعر ومدائح وغناء ..حتى انبلاج الفجر ،تذكرت اللحظة الحزينة كلّ ما دار بيننا من حديث ،والآن أراك شاحبا سقيما ..خلف السّحب أيها القمر..بعد أن حزمت أمتعتك للسّفر ،دعني أبكيك البكاء الصّامت ..الذي هو أصعب أنواع البكاء ،تبكيك وهران والجزائر قاطبة ،تبكيك العراق ،تبكيك مضاربك ومطارحك وملاعب شبابك ،تبكيك الطالبة والدكتورة..تبكيك الشاعرة والإعلامية والكاتبة..والطالب في جامعتك.. التي هي الأخرى تندب ذكرك وبصماتك ..وما تركته من خلال.. متجذّرة فيك..ورضعتها مع الحليب،يبكيك العيد و الملتقيات ومنابر التغريد ..تبكيك المدرّجات و والأمسيات،تبكيك أمّ المعارك وتذكّرنا بك ،تبكيك عيون الترك ،تبكي صقر العروبة.. الذي تتضوّع منه رائحة العرب الأقحاح..رائحة بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة ،وتبكيك كل الشطآن ،والآن ترجّل أيها الفارس لتبارحنا حيارى في زمن الوباء .. حزانى للرّحيل ،فنم نومتك السرمدية ،ولتعانق عيناك حبات الثرى وليرحمك ربّ العرش العظيم ،فلا تتعب نفسك بالتّفكير في الأهل والخلان ،فالكل يلتحق بك لا محالة ، فجلّ الأشياء ربّما لا تتحقّق لكن يتحقّق لا محالة كلّ رحيل ..