تبْكِي العُرُوبةُ (صالِحًا) لِصَلاحِهِ والموْتُ حَقٌّ سَنَّهُ الرَّحمن الثابت في هذا البيت الذي وقعه الحضري في نصه أنه يعكس تعدد مسارات الراحل، والتي تتجاوز مسار حربه ضد الاستدمار الفرنسي إلى مسار يستمد إشعاعه من المخاض الذي عرفته الأمة العربية في حقب مختلفة، وهو ما عبر الشاعر مراد قرازة الذي عاد بنا إلى الحرب العربية/ الإسرائيلية عام 1967 حيث سجل الراحل حضوره في الصفوف الأولى مؤازرة ومساندة للخط العربي التحرري الذي وبد من رحمه(11): من كان في حرب المدمّر باسلا وبحرب صهيون من الثوّار وفي ذات المقام يقول الشاعر محمد برحايل[12]: أبكى بني صهيونَ ذات معاركٍ برواجم.. أمواجها نيران في ذات السياق يكشف الشاعر عبد الرحمن الأخضري عن شكل آخر لصورة تتجلى في مشاهد متعددة، ففي آخر رثائيته التائية يتقمص همة المرحوم أحمد ڨايد صالح في الشجاعة والشهامة والحلم، موجها خطابه لفرنسا(13): يا فرنسى لقد نسيت ذيولا فاسحبيها ذليلةً من فراتي الواضح في هذا البيت أن الشاعر يتجاوز برؤيته هذه، الفاعلية الجغرافية التي تحصر الرؤية للمرحوم في إطارها الجزائري الصرف إلى الفاعلية التاريخية التي تجعل منه رمزا تاريخيا للأمة بكل ما تعنيه تاريخية نهر الفرات وامتداداته الحضارية والثقافية والإنسانية، وعلى ذلك يصبح من الطبيعي جدا الإقرار بقدرته على هزيمة العدو الفرنسي عبر عقود من الكفاح، يقول محمد برحايل:(14) أبكي فِرنسا في القديم وحاضرًا وِفْقًا لما يقضي به الميزان قال: اَتركينا يا عدوّةَ شعبنا لا نبضَ عندكِ.. هاهنا.. لا شانُ تلك هي الحقيقة الناصعة التي لا ينكرها إلا جاحد أعمى الكبر بصيرته، وغلفه بحجب من الوعي الواهم تدعو صاحبها إلى ترك الصورة والارتماء في ظلالها التي تحضر أحيانا وتغيب أحايين أخر، مشكلة لدى الكثير تصورا مغشوشا في أفهامهم، وتعجل بينهم وبين الصورة الأصلية بونا واسعا، أو حجبا صلبة لا يقتحمها إلا من فتح الله له بالفهم، وألهمه بنوره في اكتشاف حقيقة الأشياء وأسرارها. ففي هذا السياق، يضعنا الشاعر محمد تاج الدين طيبي أمام مشهد في أرقى تجلية ضمنه (15)هذا البعد، إذ وصف المرحوم أحمد ڨايد صالح بالحالة المحجوبة الناس، وهي الحالة التي لا يماثلها في المشهد إلا حالة الصوفي أو الولي الذي يتستر تحت أثواب لا تبدي جوهره الخالص، ولا تكشف عن وظيفته التي هو على رأسها، فلما انتهى منها وانتهى، كشف للناس ما كانوا يجهلون، وانتبهوا إلى هول كارثة الزهد فيه، وهذه الحالة كثيرا ما نصادفها في التاريخ مع الكثير من الصلحاء والمشايخ والعلماء الذين أهملهم قومهم، فلما ماتوا أعلى الله من شأنهم في الأقطار وعلى مدار الزمن(16): قد كنتَ محجوبا عن الناس لم يرَوْا سوى (البزّة الخضراء) والظنُّ حائدُ وكنتَ (وليَّ اللهِ) أخفَى حضورَه و(ظاهرُه) عن (باطن) السرِّ ذائدُ كأنك (صوفيٌّ) له كل (خِرْقةٍ) حجابٌ .. وفي كهف (الخمول) الفوائدُ فلما ارتقى جادت (كراماتُه) الورى وقد كُسِرتْ منه العِدَى والعوائدُ وفي خاتمة القصيدة يستدرك الشاعر الحال فيغوص في تفاصيل الصورة ليشير إلى الجانب الخفي في شخصية الراحل أحمد ڨايد صالح، وهو – بحسبه – سيظل سرا من أسرار الله لا تؤكده إلا مشاهد قوافل الباكين وجموع المشيعين التي سارت في نعشه إلى مثواه: وها أنتَ سرٌّ (قدّسَ الله سرَّه) وحسبكَ في التاريخ أنك (قائد) في تقاليد العبارة الرثائية تختلف الأشكال وتتباين، وإن توّحدت حول الموضوع أو حول المقصد فإن الأنفاس محال أن تتوّحد، والأوجاع لا يمكن أن تتماثل، ومرّد ذلك إلى فردانية الإنسان وخصوصيته التي لا تشبه في عمقها خصوصية أخرى، ذلك ما يجسده المسار العام للرثائيات التي بين أيدينا، فمن متانة الخطاب مع بعض الشعراء إلى نزوع الخطاب الشعري نحو الغنائية، وهذا ما تقتضيه النزعة الرثائية التي تعزف على الوتر الخافت والحزين في قالب مفعم بملامح رومنتيكية تغطيها ذاتية الشاعر وأحاسيسه وآلامه أمام صورة الفقد، ولعلّ ذلك ما نلمسه مع عدد من الشعراء، فها هو الشاعر عبد الرحمن الأخضري في حالة شعرية تذكرنا بالكبار من قبيل جبران خليل جبران وأبي القاسم الشابي ينقلنا في رحلة تتجسد فيها البطولة في أجواء من الجمالية التي تحيا في عنفوان ربيعي تجعل من شهامة المرحوم عملا مفعما بالطمأنينة والثبات، ذلك لأنه نابع من فاعلية الأخوة التي تعيدنا إلى المشرب الأول، المشرب المحمدي الذي تخرج منه سادة الأمم، بل ويكفي أن يكون اسمه أحمد تيمّنا بالحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك فنحسبه ولا نزكي على الله أحدا من الشهداء الذين أخّر الله اصطفاءهم إتماما لمشروع صيانة الكرامة وتأدية الأمانة وحمل المشعل(17) : كم أنسنا ببسمة الفجر لكن رُفعت رايةٌ ضحى للصلاة رحم الله صالحا كان حقّا صالح الرأي صادق العزمات جمعتنا أناة أحمد لمّا فرّقتنا حماسة الطرقات صان عطر الورود من لفح نار وحدا بالسفين نحو النجاة كان لله فيه سرٌّ لطيف أيّ موت يكون عند الحياة ليس عارا إن مات في الخدر ليثٌ عاش فوق الجبال والغيمات إلى أن يقول: وشهيد تأخّر الموت عنه ليصون الكرام والمكرمات هذه الحالة التي تشع بدفء خاص يتخذ من الانسيابية الدامعة ملاذا لها يتقاطع فيها مع الشاعر عبد الرحمن الأخضري الشاعر قصابي جلال الذي جاءت رثائيته فيضا دامعا يتخذ من الطبيعة ملاذا له فيقدم مشهدا يرتكز على تعداد قيم الإنسان في أعلى درجات الصدق، يقول(18): غاب الّذي وهبَ السّرورَ لقومهِ غاب الّذي غنّتُ لهُ الأزمانُ الموتُ يخطو للهزبْرِ مُتَمتمًا لكأنَّهُ عنْ لمسهِ خَجْلانُ ! ما كان ممّنْ يعْتلي أهْواءَهُ فُلْكُ اليقينِ، وبحْرُهُ القرآنُ ما البأسُ إلا نبْرةٌ من صوتهِ وخصالُهُ – حامي الحمى- لُقْمانُ ما الأمْنُ إلا بسْمةٌ في ثغْرهِ رجلٌ، بهِ لم تحفَلِ النّسوانُ فلْتبكهِ النّخلاتُ في عليائهَا ولْيَبكهِ «الهُقَّارُ» والكُثْبانُ فلْتبكهِ الأمواجُ في جَزَراتِها ولْيبْكهِ الياقُوتُ والمُرجانُ فلْتبْكهِ الثّكَناتُ ملءَ دمُوعها ولْيَبكهِ الفّلاحُ والفنَّانُ والواقع أن جملة المراثي تعكس في مسارها العام عربون صدق ووفاء لهذه القامة التي بذلت النفس والنفيس، وتحملت المسؤولية كاملة إزاء أمة مرهقة عبر قرنين من الصراع مع الآخر الاستدماري، بصورة مباشرة كما هو معروف خلال الحقبة الاستعمارية، أو بصورة غير مباشرة بعد الاستقلال حيث ظل شبح التحرّش بهذه الأمة بارزا بقوة، مما يجعل الفعل المقاوم يأخذ مدلوله العميق في الوعي الجمعي للأمة لا تتنكر للجميل المقدم إليها، بل وتجعله حقا له وواجبا عليها، يقول الشاعر حسان بن طاهر(19): مَا مات من أهدى الأمان لشعبه فَهُوَ الذِي في قلبهِ الإيمانُ حتّى ولوْ ضمَّ الترابُ عِظامه يَبقَى عظيمًا حقُّه العِرْفانُ وفي ذات المقام يقول الشاعر عبد الرزاق وغليسي(20) كنت المجاهد والزمان شهادة شهد الوقيعة..من ترى ينساك لما أرادوا هتك عرض بلادنا كنت الهمام وكنت أنت حراكا وسمعت آلاف الشتائم صابرا حلما جميلا.. ربنا أعطاك وفيت عهدك أن تصون وديعة ومنعت أنهار الدما بخطاك ويقول أيضا الشاعر محمد تاج الدين طيبي(21) ألم تعِشِ الأهوال (عشرة أشهرٍ) وقد أُحْكِمَت دونَ النجاةِ المَصائدُ لقد شكلت فضائل الراحل أحمد ڨايد صالح وشهامته وصدقه وهمته فضاء رؤيويا واسعا استنفر الشعراء في لحظة مباغتة، فانصرف كل واحد منهم إلى مغازلة اللغة مغازلة مرتبكة، ذلك أن العبارة عاجزة عن الإفصاح التام عن الرؤيا التي تجاوزت العناصر المادية إلى المعنوية لتشكل فضاء روحيا عميقا مفتوحا على المجاهدات الشعرية التي لا تملك سوى اللغة كوسيلة في تشكيل الكون الرثائي، لكن أنّ تكون مطواعة، يقول جمال الواحدي(22) رثاؤك في الفمِ نارٌ وجمرُ وموتك يا (قائد) الجيشِ مُرُّ رثاؤكَ تعجزُ عنهُ الحروفُ ويقصرُ عن وصفِ فقدكَ شعرُ ويضحي القريضُ مجرد هدرِ ومن ذا يسليه في الناس هدرُ لقد كانت هذه المقدمة(23) عبارة سياحية بين النصوص احتفت بها منصات التواصل الاجتماعي، كتبها شعراء لحظة زلزال أعقب بشائر الفرح بمناسبة خروج الجزائر إلى بر الأمان بانتخابات أفرزت رئيسا منتخبا، بعد عشرة أشهر من تأزم الوضع، ولقد كان صوت المرحوم أحمد ڨايد صالح يملأ الآفاق طمأنة للشعب الجزائري، بأن هذه الأرض مسقية بدماء الشهداء، وبأن هذه الجزائر تمرض ولا تموت، وبأن هذا الشعب درعها المصون، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ضاربا بذلك مثلا أعلى في الحفاظ على الأمانة، والوفاء للشهداء، والصدق في العمل، والهمة في البناء تيمّنا بقوله تعالى: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا»(24) والله من وراء القصد وإليه تؤول الأمور ( انتهى) ............. الهوامش (1) سورة الرحمن 27 (2) سورة الأحزاب 23 (3) قصيدة: تبكي الجزائر (4) قصيدة: يا فارساً ترك الجزائر وارتقى (5) قصيدة: سَتَظَلُّ فِينَا قلبا نَابِضًا (6) قصيدة: يَا قَائِدًا هَزَّ العِدَى بِصَرَامَةٍ (7) قصيدة: سَتَظَلُّ فِينَا قلبا نَابِضًا (8) قصيدة: كي لا ننسى... (9) قصيدة: في رثاء أسد الجزائر (10) قصيدة: تبكي الجزائر (11) قصيدة: سالت دموع العين (12) قصيدة: ترجل الفارس للشاعر محمد برحايل (13) قصيدة: في رثاء صالح، والملاحظ أن الشاعر يكتب (فرنسي) بألف الأفعى كما يسميها.. (14) قصيدة: ترجل الفارس (15) قصيدة: لك المجدُ يا فحل الجزائر (16) نفسه (17) قصيدة: في رثاء صالح (18) قصيدة: غاب الّذي وهبَ السّرورَ لأمة.. (19) قصيدة: يا عينُ لا تبكِي (20) قصيدة: أبكيك أم أبكي (21) قصيدة: لك المجدُ يا فحل الجزائر (22) قصيدة: رثاؤك في الفمِ نارٌ وجمرُ (23) هذه المقدمة جعلت كمدخل لكتاب جمعت فيه أزيد 16 قصيدة رثائية ، حمل عنوان: بكائية كعبة الشهداء /رثائيات على جدارية المجاهد أحمد ڨايد صالح رحمه الله سيرى النور متى أتيحت له الفرصة. (24) سورة الأحزاب23 إيضاحات 40 يوما مرّت على رحيل فقيد الجزائر، الفريق أحمد ڤايد صالح، الذي توفاه الله صباح، الاثنين 23 ديسمبر 2019، مخلفا وراءه زلزالا هزّ أوساط شعب أحبه، لما فيه من همة ووطنية وحِلم وثبات، في وقت كان أغلب الجزائريين يتوّجسون خوفا من انفلات الوضع السياسي في البلاد إلى ما لا يحمد عقباه. كانت خطاباته الدورية تبدّد ظلمة الخوف في الشعب، وتطمئنه على نفسه وعياله وماله، مؤكدة على أن هذا الوطن في أياد أمينة. في أربعينية القائد وقفة تأمل ورصد مسيرة نضالية تحت عنوان: «بكائية كعبة الشهداء» تنشرها «الشعب» على حلقتين. التحرير