تشعر في حضرته وكأنك في رحلة سفر عبر التاريخ، إلى ماضي وهران العريق، بفضل معلوماته الغزيرة وذاكرته القوية وحرصه الشديد على التمسك بالتراث، وهو يتحدث عن عادات وتقاليد سكان وهران العريقة، خصوصا الأزياء التقليدية والأكلات الشعبية ومجالس الشيوخ وعادات الأمهات والجدات، وكيف كان أسلافنا يهتمون باللباس وتزيين الموائد بأشهى الأطباق، والتمسك بمختلف القيم الحضارية العربية الإسلامية الأصيلة.. إنه مصمم الأزياء والخياط المقتدر الأستاذ شايلة بشير، الذي زارته «الجمهورية» أمس في بيته وأجرت معه حوارا ثريا، دام قرابة الساعتين، تطرق فيه بحضور إسماعيل بن يوب المرشد السياحي والباحث في التاريخ، إلى عادات وتقاليد مدينة وهران الضاربة في أعماق التاريخ، ولمن لا يعرف هذه القامة الإبداعية والفنية، فالأستاذ شايلة ابن ال61 ربيعا، والمولود في مدينة وهران وكبُر بين أحضان أحيائها الشعبية العريقة، باحث مختص في التراث الوهراني، وخاصة كل ما يتعلق بالأزياء التقليدية، بدأ شغفه بها منذ نعومة أظفاره، وبالضبط سنة 1975، حيث قام بخياطة أول لباس تقليدي وهراني بيديه، باستعمال وسائل بسيطة، كان يقتنيها من محلات حي المدينة الجديدة الشعبي آنذاك على غرار : شارع قايدعمر المعروف بمحلاته التي يباع فيها مستلزمات الخياطة، ثم بدأت شهرته تتوسع سنة 1994، حيث قام بخياطة لباس «كراكو» التقليدي، لملكة جمال تلك الفترة، السيدة نادية فرحات في الجزائر العاصمة، حيث تحصل على جائزة تشجيعا له على لباسه الجميل، ثم على جائزة أخرى من قبل إذاعة وهران، وشهادات تقديرية أخرى عديدة في مجال الطرز التقليدي، كما أنه أبدع في ميدان الخياطة العصرية والتقليدية، حيث قام بخياطة أزياء للعديد من الفنانات القديرات، كالفنانة الراحلة صباح الصغيرة، والفنانة جهيدة، والفنانة حورية بابا، وجميلة ساحلي، وغيرهن من الفنانات اللواتي، ارتدين أجمل وأفخم الألبسة التي أبدع في خياطتها محدثنا، كما شارك المصمم شايلة بشير، في العديد من المهرجانات الثقافية المحلية، التي اختصت في مجال عرض الأزياء التقليدية الوهرانية، التي امتدت شهرتها إلى خارج الوطن، ليس هذا فحسب بل كرمه العديد من المسؤولين السامين في الدولة، نظير مجهوداته الجبارة في إبراز قيمة التراث التقليدي، وتاريخ الأزياء التي ميزت الجزائر في الماضي بصفة عامة، ووهران بصفة خاصة، حتى أن العديد من الفنانين والمعجبين باللباس التقليدي الجزائري، طلبوا اقتناء ألبسته وخياطة مثلها، لما تحمله من لمسة فنية عربية وعثمانية أصيلتين، بإضافته العديد من التعديلات والتحسينات التي لا يعرف سرها إلا هو، وقد ذاع صيته حتى وصل إلى سوريا الشقيقة، والعديد من البلدان العربية، التي اكتشفت بفضله جمالية الزي التقليدي الجزائري وقدمه واعتماده على الألوان الزاهية كالوردي والأحمر والأخضر والأصفر الذهبي، واستعماله وسائل ومواد خياطة ذات جودة عالية.. * جلسة لاستنطاق الذاكرة صراحة لمسنا ونحن نستمع لحديثه الشيق، أنه شغوف بكل ما هو عريق، بل ومتمسك إلى حد بعيد بعادات وتقاليد الأجداد، حتى منزله الذي استضافنا فيه، كان يحمل لمسة عربية عثمانية إسلامية، من حيث الأواني الفضية والنحاسية وأفرشة الأسرة والزرابي التي اختارها بعناية وحرص شديدين، وكانت هذه الجلسة الحميمية فرصة ليعبر فيها لنا الأستاذ شايلة عن تأسفه لعدم تقدير جيل اليوم من الشباب، لهذا الإرث العربي الإسلامي الوهراني الأصيل، والعمل على المحافظة عليه، وارتدائه في مختلف التظاهرات والمحافل الوطنية وحتى الدولية، مبرزا أنه وفي إطار تثمين التراث الجزائري وإبرازه للأجيال، قام بتأسيس عدة جمعيات وطنية ومحلية، تعنى بالأزياء التقليدية، كما نظم عدة تظاهرات سحرت أعين الزائرين، وجعلتهم يكتشفون رجلا عاشقا لكل ما هو جميل وملتزم بأصول أجداده الذين صنعوا أمجاد ولاية وهران، التي قال عنها :« إنها حاضرة الفن والعراقة والإبداع والتزاوج بين الحضارتين العربية والعثمانية الراسختين في تاريخ بلادنا المشرق». * ألبسة من صميم هويتنا العريقة وعن الصعوبات التي واجهته طيلة مشواره الحرفي، أوضح لنا الأستاذ شايلة، أن فترة العشرية السوداء، كانت أكبر عائق له، حيث تسببت في توقف العديد من المهرجانات ومنعت الأجانب والسياح من اكتشاف والتعرف على عاداتنا وتقاليدنا العريقة، زيادة على غياب الدعم المادي، من قبل السلطات الوصية على قطاع الثقافة، ناهيك عن ندرة وغلاء المواد الأولية المستخدمة، في خياطة وتطريز اللباس التقليدي الوهراني، كاشفا أن تاريخه يعود إلى ما قبل سنة 1900، على غرار : السروال العربي، و«القمجة» أو القميص، و«العراقية» أو الطربوش، و«الكراكو»، و«الجبادور» وغيرها من الألبسة الجزائرية، التي لا تعد ولا تحصى تؤكد أن بلادنا تتمتع بتنوع ثقافي وإبداعي عريق. وفي إجابته عن سؤال «الجمهورية» حول مستقبل اللباس التقليدي الوهراني، في ظل عزوف الشباب عن ارتدائه نتيجة اكتساح «الموضة» العصرية، أوضح لنا الباحث شايلة بشير، أنه وبعد تنظيمه في الآونة الأخيرة لتظاهرة ثقافية بقصر الباي بوهران، تلقى العديد من الاتصالات، محليا ووطنيا ودوليا، قصد الاستفادة من خبرته في المجال، مضيفا أنه يطمح إلى تعليم حرفة الخياطة والطرز التقليدي للأجيال القادمة، وتقديم شروحات ودروس حول العادات والتقاليد القيمة، التي تزخر بها وهران، معربا في الوقت ذاته عن أسفه، لتجاهل السلطات المعنية لهذا المجال، الذي يعتبر إرثا تاريخيا وجب المحافظة عليه وتثمينه ودعمه ماديا ومعنويا، حتى يبقى حيا في ذاكرة الأجيال القادمة، وحاضرا في المناسبات الاجتماعية كالأفراح وغيرها. * نداء للقائمين على الشأن الثقافي كما اغتنم شايلة بشير الفرصة، لتوجيه نداء إلى الجهات المسؤولة عن القطاع الثقافي بالولاية، قصد تكثيف المهرجانات، واستغلال المتاحف لعرض الأزياء التقليدية، ووضع برامج للتعريف بها، فالماضي الأصيل لوهران، هو لبنة حاضرها، ومستقبلها الواعد. وعن سؤال حول ما إذا تلقى اتصالا من قبل القائمين على قطاع الثقافة، للمشاركة في فعاليات ألعاب البحر الأبيض المتوسط، كشف محدثتنا أنه تلقى في الآونة الأخيرة، اتصالا من قبل مصالح مديرية الثقافة، تؤكد له أنه سيحظى مثله مثل العديد من المبدعين، بشرف تمثيل الولاية في التظاهرة، خصوصا في مجال الأزياء والألبسة التقليدية، مؤكدا لنا أنه جاهز لهذا الحدث الدولي الرياضي الكبير، وسيعرض من خلاله أجمل وأفخم الألبسة التي صنعتها أنامله، ما سيجعل ضيوف وهران، يكتشفون أصالة المدينة وعراقة تاريخها، وامتلاكها لكوكبة من الفنانين والخياطين والرسامين التشكيليين والمثقفين والرياضيين، الذين يبنون حاضرها ويرفعون من شأنها ويحافظون على رسالة الأجداد الذين صنعوا أمجادها، كما كانت الجلسة مع مصمم الأزياء شايلة بشير فرصة، للحديث عن بعض العادات والتقاليد التي بدأت تتلاشى رويدا وريدا، بسبب الغزو الثقافي الأجنبي والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدا أن وهران لديها لباسها الخاص بها، ولديها تراثها وأصالتها، وأن من يقول إنها مدينة الملاهي والفن غير الملتزم، لا يعرفها جيدا ويجهل أناسها وما قدموه من إبداعات على غرار كبار الأغنية الوهرانية من أمثال : أحمد وهبي وبلاوي الهواري والشاب حسني وصباح الصغيرة وأحمد صابر وغيرهم من الأيقونات الفنية الخالدة. * القفطان «عثماني» و«الجبادور» جزائري كاشفا أن العديد من الوهرانيين يجهلون أن «القفطان» هذا اللباس الجميل والمزركش بالألوان الذهبية الزاهية، كان يلبسه الرجل قبل المرأة وهو «عثماني» تركي في الأصل، وأن «الجبادور» هذا اللباس الذي يرتديه العديد من الشباب في الأعياد والأفراح وحفلات الزفاف، جزائري مائة بالمائة ومن ولاية البليدة تحديدا، مشيرا إلى وجود تزاوج بين اللباسين العربي الوهراني والعثماني التركي، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على تناقح الحضارات وتزاوجها، داعيا إلى المحافظة على التراث وتثمينه وتنظيم العديد من التظاهرات والمهرجانات ودعم الحرفيين والوقوف معهم، ماديا ومعنويا حتى يتمكنوا من تطوير وترقية مختلف الحرف، التي تبدعها أناملهم في مختلف الورشات التي يشتغلون فيها. خاتما حديثه معنا أنه مستعد لتكوين الشباب وتعليمهم أبجديات تصميم الأزياء التقليدية، حتى لا تضيع هذه الحرفة وتندثر، فنفقد بذلك أحد مقومات هويتنا الأصيلة، ونتفادى بذلك أية محاولات لسرقة تراثنا، الذي حافظ عليه أجدادنا وافتخروا به أمام الأمم، موجها نداءه في الأخير للشباب أن يكون على قدر المسؤولية لتثمين هذا الإرث الأصيل والتمسك به والتعريف به في كل فرصة سمحت لهم بذلك.