لقد شكلت نتائج حزب جبهة التحرير الوطني في الاستحقاقات الانتخابية التي جرت في عهد الجمهورية الجديدة , و التي مكنته من الاستحواذ على أغلبية المقاعد في المجالس المنتخبة من القمة إلى القاعدة ؛ شكلت صدمة لمن كان يعتقد أن الحزب العتيد قد هوت به مسيرات الحراك الشعبي إلى « قاع « سحيق لا خروج منه , و إذا به ينهض من كبوته و يتجاوز عواصف الغضب الشعبي بحكمة التجارب التاريخية , و بجذوره الممتدة في عمق تربة الحركة الوطنية و إرثها الأصيل , إذ من الصعوبة بمكان اجتثاث حزب ارتبطت نشأته , بثورة التحرير الوطني, منذ أن قرر مؤسسو جبهة التحرير الوطني ال 22 الانتقال من النضال السياسي إلى الكفاح المسلح, لاسترجاع استقلال البلاد و تحريرها من نير الاستعمار الفرنسي , و ذلك وفق المبادئ التي تضمنها بيان أول نوفمبر 1954, الذي حدد الأبعاد الإستراتيجية للثورة الجزائرية المتمثلة في بناء الدولة الديمقراطية الاجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية. و هي الأرضية الإيديولوجية التي حاولت منذ البداية استقطاب كل الحساسيات السياسية التي أنتجتها الحركة الوطنية بمختلف تياراتها الإيديولوجية طيلة نضالها السياسي .حيث أصبح في إمكان أي جزائري الالتحاق بصفوف جبهة التحرير الوطني , شريطة أن يتخلى عن انتمائه الحزبي, و هذا الشرط الأخير ما زال ساري المفعول إلى اليوم من خلال انفتاح الحزب العتيد على بعض المتجولين عبر الأحزاب, بحثا عن منصب أو مكسب أو لمجرد الاستفادة من موقع الحزب على مستوى المؤسسات المنتخبة. و إذا كان عامل الوافدين يساهم في دعم صفوف الحزب بمنخرطين جدد من ذوي الخبرة السياسية, تجسيدا لمفهوم «خيمة كبيرة» الذي يتبناه الحزب رغبة منه في جذب وجهات نظر مختلفة داخل الحزب لبناء قاعدة انتخابية متنوعة, فإنه يتسبب في ذات الوقت في صراعات داخلية و خاصة خلال المواعيد الانتخابية, لاسيما خلال مرحلة اختيار المترشحين , التي تلفها غالبا الضبابية و التعتيم حول عمليات دراسة الملفات و انتقاء المترشحين, و عدم فسح المجال للرأي العام للاطلاع على سيرهم الذاتية و الموازنة بينهم من حيث الجدارة و الاستحقاق لتمثيل الشعب في المجالس المنتخبة. الاحتكام إلى الصندوق للفصل بين المترشحين و طيلة فترة الترشيحات , تظل الأعناق مشرئبة إلى ما تسفر عنه عملية فرز ملفات المرشحين من قبل الهيئات الحزبية المكلفة بهذه المهمة المعقدة بحكم حب الترشح و محدودية المقاعد , إذ بلغت نسبة الملفات المودعة بالنسبة للأفالان مثلا في بعض الاستحقاقات الانتخابية 14 ملفا مقابل مقعد واحد , مما يسمح بالاستنتاج نظريا أن إرضاء مترشح واحد يقابله إسخاط 13 آخرين , و عين السخط تبدي المساوئ كما قال الشاعر العربي, و لن تجدي الانتخابات الأولية الداخلية , للفصل بين المُصرين على الترشح , مما يفرز حالات التمرد على قرارات لجان الترشيحات , و تبعا لذلك مخالفة توجيهات الحزب بخصوص التصويت لصالح مرشحي الحزب حصرا. و ضمن هذا الإطار تندرج تحذيرات قيادة الأفلان منتخبيها من مغبة تمكين مرشح حزب آخر, من الفوز على حساب ممثلهم في الانتخابات الأخيرة ، مؤكدة حرصها على ضرورة التعبئة للأفلان ,وتكتلهم في صف واحد ضد أي مرشح ماعدا الذي يستظل تحت مظلة التحالف مع حزبهم .و لم يكتف الحزب العتيد بالتحذير بل أتبعه بالتجسيد حيث قررت قيادة الحزب عبر بعض المحافظات المعنية, إقصاء من صفوفه المنتخبين الذين ترشحوا خارج إرادة الحزب في انتخابات التجديد النصفي لأعضاء مجلس الأمة التي جرت يوم 05 فيفري 2022، و ذلك في كل من ولايات الجزائر العاصمة,المدية ,تيارت, أم البواقي , غيليزان , بني عباس و ورقلة . ويأتي هذا الإجراء تطبيقا لأحكام المادة «18» من القانون الأساسي للحزب حسب البيان الصادر في هذا الشأن. غير أن هذا الإجراء لا يخلو من بعض العواقب الجانبية , و منها حرمان الحزب من الترشح ببعض الولايات التي يُرْفَض مرشحه «الوحيد» بها لأسباب قانونية دون إمكانية تعويضه, و هو قصور في استشراف عواقب القرارات , لدى معظم الأحزاب, تحاول ترقيعه باللجوء إلى تحالفات هشة غير مثمرة في معظم الأحيان , حيث أهدر الأفالان عدة مقاعد بدوائر انتخابية يحوز بها على أغلبية مقاعد المجالس المحلية , أغلبية مطلقة على مستوى 124 بلدية و نسبية على مستوى 25 ولاية , هذا فضلا عن عدم الاستفادة من مناضليه الذي فازوا بمقاعد من خارج ترشيحات الحزب . و مع ذلك استطاع ذات الحزب فرض نفسه على الساحة السياسية الجزائرية , كون معظم الأحزاب التي تأسست خلال عهد التعددية الحزبية قد خرجت من معطف الحزب العتيد , و تنهج نهجه , و تتبع إيديولوجيته جزئيا أو كليا, من خلال قيم نوفمبر, التي أصبحت إرثا مشتركا لجميع التشكيلات السياسية التي أنتجتها التعددية الحزبية, غير أن الفضل يبقى للأصل حتى و إن تميز الفرع . و لذا يمكن اعتبار التراث الانتخابي للأفلان عبر العقود الستة الماضية من الاستقلال , أرضية خصبة بالتجارب «صالحها و طالحها» التي يمكن استثمارها في وضع نظام انتخابي مثالي خال من كل السلبيات التي تشوبه.