إطلاق عملية رقابية وطنية حول النشاطات الطبية وشبه الطبية    يجسد إرادة الدولة في تحقيق تنمية متكاملة في جنوب البلاد    ملك النرويج يتسلم أوراق اعتماد سفير فلسطين    ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني على غزة    مقتل مسؤول سامي في هيئة الأركان العامة    الجزائر حاضرة في موعد القاهرة    بالذكرى ال63 لتأسيس المحكمة الدستورية التركية، بلحاج:    بيع أضاحي العيد ابتداء من الفاتح مايو المقبل, بالولايات ال58    المرأة تزاحم الرجل في أسواق مواد البناء    الدبلوماسية الجزائرية أعادت بناء الثقة مع الشركاء الدوليين    الاستفادة من التكنولوجيا الصينية في تصنيع الخلايا الشمسية    النخبة الوطنية تراهن على التاج القاري    15 بلدا عربيا حاضرا في موعد ألعاب القوى بوهران    التوقيع بإسطنبول على مذكرة تفاهم بين المحكمة الدستورية الجزائرية ونظيرتها التركية    مزيان يدعو إلى الارتقاء بالمحتوى واعتماد لغة إعلامية هادئة    مداخيل الخزينة ترتفع ب 17 بالمائة في 2024    وزير الاتصال يفتتح اليوم لقاء جهويا للإعلاميين بورقلة    رئيسة المرصد الوطني للمجتمع المدني تستقبل ممثلين عن المنظمة الوطنية للطلبة الجزائريين    إبراهيم مازة يستعد للانضمام إلى بايرن ليفركوزن    اجتماع لجنة تحضير معرض التجارة البينية الإفريقية    متابعة التحضيرات لإحياء اليوم الوطني للذاكرة    رئيسة مرصد المجتمع المدني تستقبل ممثلي الجمعيات    الكسكسي غذاء صحي متكامل صديق الرياضيين والرجيم    60 طفلًا من 5 ولايات في احتفالية بقسنطينة    وكالات سياحية وصفحات فايسبوكية تطلق عروضا ترويجية    انطلاق فعاليات الطبعة الخامسة لحملة التنظيف الكبرى لأحياء وبلديات الجزائر العاصمة    الجزائر وبراغ تعزّزان التعاون السينمائي    ختام سيمفوني على أوتار النمسا وإيطاليا    لابدّ من قراءة الآخر لمجابهة الثقافة الغربية وهيمنتها    قانون جديد للتكوين المهني    استقبال حاشد للرئيس    المجلس الشعبي الوطني : تدشين معرض تكريما لصديق الجزائر اليوغسلافي زدرافكو بيكار    رئيس الجمهورية يدشن ويعاين مشاريع استراتيجية ببشار : "ممنوع علينا رهن السيادة الوطنية.. "    تنصيب اللجنة المكلفة بمراجعة قانون الإجراءات المدنية والإدارية    توقيع عقدين مع شركة سعودية لتصدير منتجات فلاحية وغذائية جزائرية    عطاف يوقع باسم الحكومة الجزائرية على سجل التعازي إثر وفاة البابا فرنسيس    الأغواط : الدعوة إلى إنشاء فرق بحث متخصصة في تحقيق ونشر المخطوطات الصوفية    سيدي بلعباس : توعية مرضى السكري بأهمية إتباع نمط حياة صحي    عبد الحميد بورايو, مسيرة في خدمة التراث الأمازيغي    انتفاضة ريغة: صفحة منسية من سجل المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي    الرابطة الثانية هواة: نجم بن عكنون لترسيم الصعود, اتحاد الحراش للحفاظ على الصدارة    النرويج تنتقد صمت الدول الغربية تجاه جرائم الاحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين في غزة    نشطاء أوروبيون يتظاهرون في بروكسل تنديدا بالإبادة الصهيونية في غزة    تصفيات كأس العالم للإناث لأقل من 17 سنة: فتيات الخضر من اجل التدارك ورد الاعتبار    جمباز (كأس العالم): الجزائر حاضرة في موعد القاهرة بخمسة رياضيين    الصناعة العسكرية.. آفاق واعدة    وزير الثقافة يُعزّي أسرة بادي لالة    250 شركة أوروبية مهتمة بالاستثمار في الجزائر    بلمهدي يحثّ على التجنّد    حج 2025: برمجة فتح الرحلات عبر "البوابة الجزائرية للحج" وتطبيق "ركب الحجيج"    هدّاف بالفطرة..أمين شياخة يخطف الأنظار ويريح بيتكوفيتش    رقمنة القطاع ستضمن وفرة الأدوية    تحدي "البراسيتامول" خطر قاتل    هذه مقاصد سورة النازعات ..    هذه وصايا النبي الكريم للمرأة المسلمة..    ما هو العذاب الهون؟    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نصائح لتفادي الأخطاء
مناسك الحج:
نشر في الجمهورية يوم 25 - 10 - 2010

إنَّ الحجَّ إلى بيت اللهِ الحرامِ بمكةَ مِنْ شعائرِ الإسلامِ الكبرى، ومعالِمِهِ الظاهرةِ. وما شَرَعَ اللهُ تعالى الحجَّ إلا لِيُحَقِّقَ في جماعة المسلمين وآحَادِهِمْ جملةً من المقاصدِ الجليلةِ، والأهدافِ الساميةِ. فمِنْ بين تلك المقاصدِ والأهدافِ:
- إتاحةُ فرصةٍ للمسلمين مِنْ مُخْتَلَفِ أماكنِهِمْ وأجناسِهِمْ وألوانِهِمْ وألسنتِهِمْ للالتقاءِ والتعارفِ، وتَمْتِينِ العلاقاتِ فيما بينهم، وتذكيرِهِمْ بأنهم أمةٌ واحدةٌ، يَعبدون ربًّا واحدًا، ويَتَّبِعُونَ رسولاً واحدًا، ويَعتمدون كتابًا واحدًا، ويَستقبلون قبلةً واحدةً، ويَجتمعون سنويًّا في مكانٍ واحدٍ، لِيُؤَدُّوا مناسكَ واحدةً.
- تقويةُ إيمانِ المسلمِ؛ ذلك أنًّ الحاجَّ عندما يذهب إلى البقاع المقدسةِ، ويَرَى مسقطَ رأسِ نبيِّهِ (صلى اللّه عليه وسلم)، ومُنْطَلَقَ الرسالةِ المحمديةِ، والبيتَ العتيقَ وما يَحْمِلُهُ من ذكرياتِ أبينا إبراهيمَ وابنِهِ إسماعيلَ وزوجِهِ هَاجَرَ عليهم السلام، عند ذلك يَجِدُ زيادةً في إيمانه؛ لأنه حِينَذَاكَ يكون قد ارتبطتْ نفسُهُ بأماكنَ وشخصياتٍ كلِّهَا تَشِعُّ بالإيمان والتوحيدِ.
- تذكيرُ المسلمِ بالموتِ والآخرةِ؛ وهذا يُلاَحَظُ من خلال تَرْكِ الحاجِّ -كما يَتْرُكُ الميتُ- الأهلَ والأحبابَ والأموالَ والأوطانَ، والسفرِ والتفرُّغِ لأداء مناسكِ الحجِّ. وكذا عندما يَنْزِعُ الرجلُ لباسَهُ المعتادَ الْمَخِيطَ، ويَرْتَدِي لباسَ الإحرامِ الأبيضَ غيرَ الْمَخِيطِ الذي أَشْبَهُ ما يكونُ بالْكَفَنِ. وحِينَ يَقِفُ جميعُ الحجاجِ ذكورًا وإناثًا وهم ألوفٌ في عَرَفَةَ، يكونُ جمعُهُمْ صورةً مُصَغَّرَةً لساحةِ الْمَحْشَرِ وعَرَصَاتِ القيامةِ.
- تحصيلُ الفضلِ العظيمِ، ونَيْلُ الثوابِ الجزيلِ، الذي يتمثَّلُ في تكفير الذنوبِ، والظَّفَرِ بالجنةِ. يقول النبيُّ (صلى اللّه عليه وسلم): »مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ من ذنوبه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ« (رواه الشيخان). ويقول أيضًا: »العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لِمَا بينهما. والحجُّ الْمَبْرُورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنةَ« (رواه الشيخان).
والنَّاظِرُ في دنيا المسلمين اليومَ وعلاقتِهِمْ بالحج، سوف تَقَعُ عينُهُ على بعض الأخطاءِ التي يَقَعُونَ فيها؛ بسببِ الجهلِ بأحكامِ الشريعةِ المتعلقَةِ بالحج، وعدمِ معرفةِ أو استيعابِ المقاصدِ والأهدافِ التي لأجلها شُرِعَ. لذا أردتُ أنْ أَعْرِضَ بين يَدَيْ إخواني وأخواتي في الله تعالى أهمَّ هذه الأخطاءِ؛ من بابِ تصحيحِ المفاهيمِ والتصوراتِ، وكذا دعوةِ الْمُخْطِئِينَ إلى التوبة والرجوعِ إلى الصوابِ. فمِنْ بين هذهِ الأخطاءِ:
عنصر التعجيل
1. تهاونُ بعضِ القادرين ماليًّا وجسديًّا عن أداء حجةِ الإسلامِ: فمِنَ المعلومِ مِنَ الدينِ بالضرورةِ أنَّ الحجَّ واجبٌ على كل مسلمٍ مُكَلَّفٍ قادرٍ القدرةَ الماليةَ والجسديةَ؛ لقوله تعالى: »إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ« (آل عمران:96-97). بل إنَّهُ مِنَ الأركانِ الخمسةِ التي لا يُتَصَوَّرُ إسلامٌ بدون واحدٍ منها؛ لقولِ النبيِّ (صلى اللّه عليه وسلم) في حديثِ جبريلَ الطويلِ: » الإسلامُ أنْ تشهدَ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وتقيمَ الصلاةَ، وتُؤْتِيَ الزكاةَ، وتصومَ رمضانَ، وتَحُجَّ البيتَ إنِ استطعتَ إليه سبيلاً« (رواه مسلم). وعلى هذا، فإنَّ المسلمَ الحريصَ على الإتيانِ بواجبِهِ الشرعيِّ سيُبَادِرُ -إذا كان قادرًا- إلى أداءِ مناسكِ الحجِّ في أولِ فرصةٍ تُتَاحُ له. إلا أنَّنَا نرى أنَّ بعضًا من الشباب والكهولِ ومَنْ هُمْ على عَتَبَةِ الشيخوخةِ يتهاونون عن الأداءِ، رغم أنهم قادرون عليه ماديًّا وجسميًّا، حتى إنَّ بعضَهُمْ لا يكادُ يَتَصَوَّرُ الحجَّ إلا مِنْ شيخٍ هَرِمٍ. فهؤلاء يُقَالُ لهم: اتقوا اللهَ في أنفسكم، وبَادِرُوا إلى الحجِّ؛ فإنكم لا تَدْرُونَ ما يَطْرَأُ عليكم من الظروفِ والأحوالِ، التي قد تَحُولُ بينكم وبين الحجِّ في حال كِبَرِكُمْ. ولذا قال النبيُّ (صلى اللّه عليه وسلم): »تَعَجَّلُوا إلى الحجِّ « يعني: الفريضة-؛ فإنَّ أحدَكُمْ لا يَدري ما يَعْرِضُ له_(رواه أحمد). فكَمْ من إنسانٍ كان غنيًّا ثم افتقرَ، وكَمْ من شخصٍ كان صحيحًا مُعَافًى ثم مَرِضَ مرضًا أقعدَهُ. فهَذَانِ وأمثالُهما لو أنهم بَادَرُوا إلى الحج في حال الْغِنَى والصِّحَّةِ والفرصةِ السَّانِحَةِ، لَمَا حُرِمُوا منه بعد ذلك في حالِ الافتقارِ والمرضِ وفَوَاتِ الفرصةِ. بل إنَّ النبيَّ (صلى اللّه عليه وسلم) لَمَّا أرادَ أن يُرَهِّبَ مِنْ أمرِ التقاعسِ عن أداءِ الحجِّ قال: »مَنْ مَلَكَ زَادًا وراحلةً تُبَلِّغُهُ إلى بيت اللهِ ولم يَحُجَّ، فَلاَ عليه أن يموتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا« (رواه الترمذي، وفيه ضَعْفٌ). وعلى فَرَضِ أنَّ الحجَّ واجبٌ على التَّرَاخِي[1]، بحيث يُمْكِنُ للمسلم أن يُؤَدِّيَهُ في أيِّ وقتٍ من أوقاتِ عُمُرِهِ، فإنَّ المسارعةَ إليه مطلوبةٌ شرعًا؛ لعدةِ اعتباراتٍ منها:
- الظَّفَرُ بأجرِ المبادرةِ إلى القيام بأفعال الْبِرِّ التي منها الحجُّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ أن يرى تلك المبادرةَ مِنْ عباده، ولذا نَجِدُهُ في مواضعَ متعددةٍ من القرآن الكريمِ يَحُثُّ عليها. يقول تعالى: »وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ« (آل عمران:133). ويقول أيضًا: »فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ« (المائدة:48). ويقول كذلك:»سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ« (الحديد:21).
- أداءُ الحجِّ على الصورة الأكملِ، ولا يَتَأَتَّى ذلك في الأغلب إلا لِمَنْ كان في أَوْجِ قِوَاهُ الجسديةِ. ولذا نَجِدُ أنَّ مَنْ حَجَّ وهو شيخٌ كبيرٌ يتخلَّفُ عن الإتيانِ ببعض الأعمالِ المشروعةِ في الحج، ويَضْطَرُّ إلى الاستنابةِ فيها، نَاهِيكَ عن بعض السُّنَنِ التي لا يَقْوَى على فعلها؛ بحكمِ العجزِ.
- تَحَسُّبٌ للموتِ الذي يأتي بغتةً. فكَمْ مِنْ شابٍّ أو كَهْلٍ كان بإمكانه أن يَحُجَّ، ولكنه كان يُؤَجِّلُ ذلك، إلى أن جاءتْهُ الْمَنِيَّةُ، وهو في عِزِّ شبابِهِ أو كهولتِهِ، فانتقلَ إلى ربِّهِ ولم يَأْتِ بحجةِ الإسلامِ، فيُحْرَمُ بذلك مِنْ خيرٍ كثيرٍ كان سينالُهُ لو أنه حجَّ.
القصد الطيب
2. تكرارُ بعضِهِمْ للحجِّ مَرَّاتٍ عديدةً: إذ إنَّ بعضًا من المسلمين من مَيْسُورِي الحالِ من الناحية الماليةِ يَحُجُّ سنويًّا، أو سنةً بعد سنةٍ، أو في كلِّ أربعِ أو خمسِ سنواتٍ مرةً. فهؤلاء إذا أَحْسَنَّا بهم الظنَّ[2]، فإنَّنَا نَعتبرُ تصرُّفَهم خلافَ الْأَوْلى، خاصةً إذا كانوا من بلادٍ بعيدةٍ عن مكةَ، كما هو الحالُ بالنسبة لأهلِ الجزائرِ؛ وذلك لاعتباراتٍ كثيرةٍ منها:
- أنَّ أهلَ العلمِ قديمًا وحديثًا مُجْمِعُونَ على أنَّ الحجَّ واجبٌ على المسلم مرةً واحدةً في العمر؛ استدلاَلاً بحديث أبي هريرةَ (رضي الله عنه) الذي قال فيه: "خَطَبَنَا رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فقال: »يا أيها الناسُ إنَّ اللهَ قد فَرَضَ عليكم الحجَّ، فَحُجُّوا«. فقال رجلٌ: "أَفِي كلِّ عامٍ يا رسولَ اللهِ؟" فسكتَ، حتى قَالَهَا ثلاثًا، فقال رسولُ اللهِ (صلى اللّه عليه وسلم): »لَوْ قلتُ "نَعَمْ" لَوَجَبَتْ، ولَمَا استطعتُمْ«"(رواه مسلم). وعلى هذا فإنَّ مَنْ حجَّ مرةً واحدةً فقد قام بالواجب الشرعيِّ، وبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ عند اللهِ تعالى، فما يكون منه بعد ذلك من حَجَّاتٍ فهو مِنْ قبيلِ النافلةِ.
- فَسْحُ مجالٍ لِمَنْ لم يَحُجَّ من إخوانه المسلمين؛ لأنَّ بعضَ البلدانِ تعتمدُ نظامَ القرعةِ لتحديدِ أعيانِ الذين سيَحُجُّونَ، فإذا ما أراد الذي حَجَّ مِنْ قبلُ تكرارَهُ، فإنه سيُزَاحِمُ إخوانَهُ مِمَّنْ لم يحجُّوا أصلاً، الأمرُ الذي يُقَلِّلُ من حظوظِهِمْ في الظَّفَرِ بفرصة الحجِّ. والأصلُ في المسلم أنْ يُحِبَّ لإخوانه المسلمين ما يُحِبُّ لنفسه.
- تخفيفُ الضغطِ على البقاع المقدسةِ، والقائمين على شؤونِ الحجاجِ من أهل الحرميْنِ الشريفيْنِ؛ ذلك أنَّ عددَ المسلمين في تزايدٍ مستمرٍّ، وهو الآن يُقَارِبُ المليارَ ونصفَ المليارِ، الأمرُ الذي يجعلُ عددَ الحجاجِ يتزايدُ في كل سنةٍ، حتى أصبحَ يُعَدُّ بالملايين، مع أنَّ أماكنَ الشعائرِ محدودةٌ في مساحتها وقدرةِ استيعابِهَا، رغمَ التَّوْسِعَاتِ المتتاليةِ لها[3].
ولعلَّ الذي يُكَرِّرُ الحجَّ يريدُ أن يَتَأَسَّى ببعض السلفِ الصالحين الذين نُقِلَ عنهم في تَرَاجُمِهِمْ بأنهم كانوا يُكْثِرُونَ من الحج، حتى إنَّ بعضَهُمْ يكادُ عددُ حجاتِهِ يُقاربُ عددَ سِنِي عمرِهِ. فنُذَكِّرُ مَنْ له هذا القصدُ الطيبُ بأنَّ أولئك لهم مُسَوِّغَاتُهُمُ الكثيرةُ آنذاك، التي تختلفُ عن معطياتِ حياتِنَا المعاصرَةِ. فمِنْ بين تلك المسوغاتِ:
- سُكْنَى بعضِهِمْ مكةَ، أو قريبًا منها، وحينئذٍ لا يكلِّفُهُ الأمرُ شيئًا. في الوقت الذي يَصْرِفُ فيه مَنْ أراد أن يُكَرِّرَ الحجَّ من أهل البلادِ البعيدةِ عن الحرمِ أموالاً طائلةً في الذهابِ والإيابِ والإقامةِ ومراسيمِ التوديعِ والاستقبالِ، هذه الأموالُ لو أنها صُرِفَتْ في مشاريعَ خيريةٍ يحتاجُهَا المسلمون في تلك البلدانِ، وفي إغناءِ فقرائِهِمْ -وما أكثرَهُمْ!-، وتزويجِ شبابِهم، ومَحْوِ أُمِّيَّتِهِمْ، ونشرِ الثقافةِ الصحيحةِ والعلمِ الشرعيِّ فيهم، لَكَانَ الأمرُ أفضلَ[4].
- كان أولئك السلفُ يَوَدُّونَ اغتنامَ موسمِ الحجِّ لقضاء مصالِحَ كثيرةٍ، كالالتقاءِ بأهل العلمِ واستفتائِهِمْ، وكذا الأقاربِ وَصِلَتِهِمْ، ومعرفةِ أحوالِ إخوانِهم من المسلمين الذين تَنْقَطِعُ أخبارُهم لِبُعْدِ المسافاتِ بينهم، ونحوِ ذلك مِنَ الأغراضِ المشروعةِ التي يَصْعُبُ عليهم بإمكاناتِ ذاك الزمانِ أن يُحَصِّلُوهَا في غيرِ موسمِ الحجِّ إلا بِشِقِّ الأنفسِ. أما نحنُ الآنَ فقد حَبَانَا اللهُ تعالى بوسائلَ اتصالٍ كثيرةٍ مريحةٍ وسريعةٍ وغيرِ مُكَلِّفَةٍ، تُمَكِّنُنَا من استفتاء علمائِنَا، وصلةِ أقاربِنَا، ومعرفةِ أحوالِ إخوانِنَا في كل مكانٍ من بقاعِ الأرضِ، وقضاءِ مَآرِبِنَا الكثيرةِ، ونحن في بيوتنا لا نَبْرَحُهَا.
لذا فإنَّ المسلمَ يكتفي بحجةِ العمرِ[5]، ويتركُ الفرصةَ لإخوانه مِمَّنْ لم يحجُّوا، ويُسَاهِمُ في التخفيفِ مِنْ حِدَّةِ الضغطِ الذي يجدُهُ الحجاجُ والقائمون عليهم أثناءَ أدائِهم سائرَ المناسكِ. ولو أنَّ مَيْسُورَ الحالِ يتركُ تكرارَ الحجِّ وهو يستحضرُ هذه المعانِيَ الساميةَ، مع أنَّ نفسَهُ تَتُوقُ إليه، فإنه بإذنه تعالى يَنَالُ أجرًا عظيمًا على هذا المقصدِ النبيلِ.
شروط الإستطاعة
3. سُلُوكُ بعضِهِمْ طريقًا محرمًا للتمكُّنِ من الحجِّ: ذلك أنَّ بعضًا من الناس يكون مصدرُ رزقِهم مشبوهًا أو محرمًا، ومع ذلك يحجُّون به. ومنهم مَنْ يسلكُ الطرقَ المشروعةَ مراتٍ عديدةً للظَّفَرِ بتأشيرةِ الحجِّ، أو جوازِ سفرٍ إليه، ولكنهم لا يُوَفَّقُونَ إليه، فيَنْتَقِلُونَ إلى طرقٍ غيرِ مشروعةٍ للحصول على التأشيرةِ أو الجوازِ، بحيث يُقَدِّمُونَ مبالغَ ماليةً إلى وُسَطَاءَ مُعَيَّنِينَ، لا يَهُمُّهُمْ إلا جمعُ المالِ، واستغلالُ حاجاتِ الناسِ. فهؤلاء نقولُ لهم: إنكم أَوْقَعْتُمْ أنفسَكم في الحرام، وكَلَّفْتُمْ أنفسَكم ما لم يُكَلِّفْهَا اللهُ تعالى به؛ بدليل:
- أنَّهُ U عَلَّقَ الحجَّ على الاستطاعة، فمَنْ لم يجدِ الوسيلةَ المشروعةَ إليه، فهو معذورٌ ليس بمستطيعٍ؛ إِذْ »لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا« (البقرة:286).
- أنَّهُ تعالى لا يقبلُ منهم هذا الحجَّ الذي صُرِفَ عليه، أو تُوُسِّلَ إليه بالحرام، كما لا يقبلُ منهم ما يَتْبَعُ الحجَّ من أعمالِ الْبِرِّ الكثيرةِ. فقد صحَّ عن أبي هريرةَ (رضي الله عنه) أنه قال: "قال رسولُ اللهِ r: »إنَّ اللهَ طيبٌ لا يَقْبَلُ إلا طيبًا، وإنَّ اللهَ أَمَرَ المؤمنين بما أَمَرَ به المرسلين، فقال: »يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ« (المؤمنون:51). وقال: »يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ« (البقرة:172). ثم ذَكَرَ الرجلَ يُطِيلُ السفرَ[6] أَشْعَثَ أَغْبَرَ[7] يَمُدُّ يديْهِ إلى السماء: "يا ربُّ، يا ربُّ"، ومطعمُهُ حرامٌ، ومَشْرَبُهُ حرامٌ، وملبسُهُ حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ، فأنَّى يُسْتَجَابُ لذلك؟!"(رواه مسلم).
- أنَّ ما يُعْطَى إلى أولئك الاستغلاليِّينَ، يُعَدُّ من قبيلِ التعاونِ معهم على الإثم والعدوانِ الذي لا يَحِلُّ شرعًا؛ لأنهم سيُمَكِّنُونَهُمْ من مالٍ لا حقَّ لهم فيه. واللهُ تعالى يقولُ: »وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ« (المائدة:02).
وأغتنمُ الفرصةَ لأقولَ لِمَنْ هو قادرٌ على الحج ماديًّا وجسديًّا، ولكنَّهُ لم يَجِدِ الوسيلةَ المشروعةَ للتَّمَكُّنِ من أدائه، وكذا الذين لا يَمْتَلِكُونَ القدرةَ الماديةَ أو الجسديةَ للقيام به، أقولُ للجميع: إنَّ القاعدةَ الشرعيةَ عندنا نحنُ المسلمين أنَّ "الْمَرْءَ يَبْلُغُ بِنِيَّتِهِ ما لا يَبْلُغُ بعملِهِ". فمَنْ كان يتطلَّعُ إلى الحج، ويسعى لأدائه، ولكنْ يحولُ بينه وبين الأداءِ حائلٌ، فإنه بفضلِ اللهِ وكرمِهِ يَحُوزُ أجرَ الحجِّ كاملاً دون أن يَحُجَّ؛ جزاءً على نِيَّتِهِ الطيبةِ الصادقةِ. ولذا ثَبَتَ عن أنسٍ بنِ مالكٍ (رضي اللّه عنه) أنَّ رسولَ اللهِ r رَجَعَ من غزوة تَبُوكٍ، فَدَنَا من المدينة فقال: »إنَّ بالمدينة أقوامًا، ما سِرْتُمْ مَسِيرًا، ولا قَطَعْتُمْ واديًا، إلاَّ كانوا معكم«. قالوا: "يا رسولَ اللهِ، وهُمْ بالمدينة؟" قال: »وهُمْ بالمدينة؛ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ« (رواه البخاري). وأصحابُ الأعذارِ في هذه الغزوةِ هم الذين قال عنهم تعالى: »لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْاْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا ينفقون« (التوبة91-92) فهؤلاء المعذورون رغم أنهم ما شَهِدُوا هذه الغزوةَ، إلا أنهم شَارَكُوا مَنْ شَهِدَهَا في الأجر؛ لأنَّ اللهَ تعالى عَلِمَ منهم أنهم لَوْ لَمْ يَتَلَبَّسُوا بالعذرِ لَمَا تخلَّفُوا عنها.
4. الانشغالُ بالمباحاتِ، أو فعلُ بعضِ المحرماتِ في البقاعِ المقدسةِ، وعدم العنايةِ بالطاعاتِ: إذ إنَّ بعضًا مِمَّنْ يُوَفِّقُهُمُ اللهُ تعالى إلى الذهابِ البقاع المقدسةِ، لا يُعْنَوْنَ بالطاعات كثيرًا هناك، فنَجِدُهم يتفرَّغُونَ للنوم في الفنادقِ أو الخيامِ، أو ينشغلون باقتناءِ السلع والبضائع، بل إنَّ بعضَهم يَقَعُونُ في الحرام فيَنْظُرُونَ إلى ما حَرَّمَ اللهُ تعالى وهم في الْحَرَمِ الشريفِ، ويَجلسون مجالسَ الْغِيبَةِ والميسرِ وهم في صعيدِ عرفات. فهؤلاء نقول لهم: اتقوا اللهَ تعالى في أنفسِكم، واعْلَمُوا أنَّكم مُنِحْتُمْ فرصةً ذهبيةً لا تُعَوَّضُ أبدًا، وأنَّ إثمَ المعصيةِ يتضاعَفُ في تلك البقاعِ لشرفِهَا عن غيرها من بقاعِ الأرضِ، وفي ذاك الزمانِ مِنْ شهرِ ذي الحجةِ لفضْلِهِ عن سائرِ أوقاتِ السنةِ، وأَنَّهُ كان مِنَ الْمُفْتَرَضِ فيكم وقد خَصَّكُمُ اللهُ تعالى عن غيركم من الناس بأنْ سَاقَكُمْ في ذاك الزمانِ الفاضلِ إلى تلك الأماكنِ الشريفةِ، أنْ تَنْشَغِلُوا بالطوافِ والأذكارِ المشروعةِ[8] وتلاوةِ القرآنِ الكريمِ، وكذا بالصلواتِ فرضًا ونفلاً بالمسجد الحرامِ أو بالمسجدِ النبويِّ؛ فإنَّ أجرَ الصلاةِ فيهما مضاعَفٌ. يقولُ النبيُّ r: »صلاةٌ في مسجدي أفضلُ مِنْ ألفِ صلاةٍ فيما سِوَاهُ، إلاَّ المسجدَ الحرامَ. وصلاةٌ في المسجدِ الحرامِ أفضلُ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ فيما سِوَاهُ« (رواه أحمد وابن ماجة). وإذا ما كنتُمْ على صعيدِ عرفات الشريفِ، فأَكْثِرُوا من الدعاء، وسَلُوا اللهَ خيرَ الدنيا والآخرةِ، لأنفسِكم وأَهْلِيكم وأُمَّتِكم ومَنْ أَوْصَاكم بالدعاء إليه؛ فإنَّ الدعاءَ ثَمَّةَ مستجابٌ بإذنه جلَّ وعلاَ. يقول النبيُّ r: »خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قلتُ أنا والنَّبِيُّونَ مِنْ قبلي: لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ، ولَهُ الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ« (رواه الترمذي). وإنَّنِي -واللهِ- أتعجَّبُ مِنَ الحاجِّ الذي يسمحُ لنفسه باقترافِ المعصيةِ، أو التثاقلِ عن الطاعة في عرفات، والنبيُّ r يقول: »مَا مِنْ يومٍ أكثر مِنْ أنْ يُعْتِقَ اللهُ فيه عَبْدًا مِنَ النارِ مِنْ يومِ عرفةَ، وإنَّهُ لَيَدْنُو، ثم يُبَاهِي بهم الملائكةَ فيقولُ: مَا أرادَ هؤلاءِ؟« (رواه مسلم). لذا فإنَّ الحاجَّ الذي يريدُ من الله تعالى أن يُعْتِقَهُ من النار، وأن يدخلَهُ الجنةَ مع الأبرار، عليه أن يُرِيَ ربَّهُ من نفسِهِ في ذلك الموقفِ المشهودِ ما يُرْضِيهِ عنه.
إياك والزحام
ويُعْجِبُنِي تصرُّفُ بعضِ الأخيارِ مِنَ المسلمين؛ وذلك أنَّهم إذا عَزَمُوا على الحجِّ، يَقْصُدُونَ قبلَ السفرِ إليه سُوقَ بلدِهِمْ، فيَشترون بعضَ الحاجيَّاتِ التي تَعَوَّدَ الحجاجُ أن يُهْدُوهَا لأقارِبهم وجيرانِهم وأصدقائِهم ومُهَنِّئِيهم، ويَحفظونَها في مكانٍ آمِنٍ؛ حتى لا يُضَيِّعُوا أوقاتًا كثيرةً في اقتنائِهَا من أسواقِ البقاعِ المقدسةِ، وإذا ما رجعوا أخرجُوها ووَزَّعُوها على مَنْ أرادوا. كما أنهم يَتَخَيَّرُونَ مِنَ الصالحين من أهلِ بلادِهم مِمَّنْ سيَحُجُّ معهم في تلك السنةِ؛ لِيَكُونُوا لهم عونًا على النشاطِ في العبادة أثناءَ التواجدِ في الحرميْنِ الشريفيْنِ.
5. إيذاءُ بعضِ الحجاجِ إخوانَهُمْ في بعضِ المواقفِ: فمِنَ الْمُفْتَرَضِ في الحاجِّ وهو يأتي بمناسكِ الحجِّ أن يكونَ رفيقًا بإخوانه، حريصًا على فعلِ كلِّ مَا مِنْ شأنِهِ أن يُوَطِّدَ علاقتَهُ بهم، مُغْتَنِمًا تلك الفرصةَ الربانيَّةَ لاكتسابِ مَا أَمْكَنَهُ من الأجرِ والثوابِ. ولكنِ الذي نَرَاهُ مِنْ بعضِهم هو العكسُ من هذا تمامًا؛ إذ إنَّهم تَصْدُرُ منهم أفعالٌ خَشِنَةٌ، تُلْحِقُ الضَّرَرَ بإخوانِهم، الأمْرُ الذي يجعلُهم يتحمَّلون أَوْزَارًا كانوا في مَنْأًى عنها. فمِنْ بين تلك الأفعالِ:
- إصرارُ بعضِهم على اسْتِلاَمِ الحجرِ الأسودِ بالْيَدِ، أو تقبيلِهِ بشفتيْهِ، مع أنَّ ذلك لا يَعْدُو أن يكونَ سنةً، وتَكْفِي عنهما الإشارةُ باليدِ ونحوِها ولو مِنْ بعيدٍ.
- الزِّحَامُ والتَّدَافُعُ الشديدانِ عند رَمْيِ الْجِمَارِ، وعدمِ احترامِ الْمَسَارَاتِ المحدَّدَةِ مِنْ قِبَلِ الْمُنَظِّمِينَ، مع أنَّ الحاجَّ لو تَرَيَّثَ، أو تَرَخَّصَ بالرخصِ الشرعيةِ، لَمَا حَدَثَتْ تلك المجازرُ الْمُخْزِيَةُ التي تكرَّرَتْ في أكثرِ من موسمٍ.
- الرَّمْيُ باستعمالِ الحجارةِ الكبيرةِ، أو أجسامٍ لها جِرْمٌ مُعْتَبَرٌ كالنعلِ ونحوِهِ، مع أنَّ الرَّمْيَ من السنةِ أن يكونَ بالْحُصَيَّةِ الصغيرةِ فقط.
لذا ينبغي على المسلم أن يَعْلَمَ بأنَّ أَذِيَّةَ المسلمين محرمةٌ لا سِيَّمَا إذا كانت في حقِّ الحجاجِ أثناءَ أدائِهم للمناسك؛ ذلك أنَّ اللهَ تعالى يقول: »وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً« (الأحزاب:58). والنبيُّ r يقولُ: »لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ« (رواه مالك في الموطأ). بل إنه مِمَّا يُعَظِّمَ إِثْمَ الأذيةِ في الحج، أنَّ تلك المشاهدَ الْمُخْزِيَةَ للتدافعِ والتزاحمِ الشديديْنِ، والتي تُنْقَلُ عَبْرَ الشَّاشَاتِ إلى العالَمِ أجمعَ، وما يترتَّبُ عنها مِنْ قتلٍ وجرحٍ، مِمَّا يُشَوِّهُ صورةَ الإسلامِ عند غيرِ المسلمين، الأمرُ الذي يُنَفِّرُهم منه، فيصبحُ الحاجُّ الذي تسبَّبَ في ذلك مِمَّنْ فَتَنَهُمْ عن دينِ اللهِ الحقِّ، فيَقَعُ فيما كان يَتَخَوَّفُ منه الصالحون عندما كانوا يَدْعُونَ ربَّهم بقولِهم: »رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ« (الممتحنة:05).
6. عدمُ تَغَيُّرِ حالِ الحاجِّ في حياتِهِ إلى الأحسنِ بعد حَجِّهِ: إنَّ الأصلَ في الحاجِّ أن يستفيدَ مِنْ حجِّهِ، فتَتَحَقَّقُ فيه مقاصدُهُ، بحيث يعودُ وهو صفحةٌ بيضاءُ بعدَ أن مُحِيَتْ عنه ذنوبُهُ السالفةُ، ويرجعُ وقد قَوِيَ إيمانُهُ، وتذكَّرَ الموتَ والآخرةَ، وعَزَمَ على الاستعدادِ لهما بفعلِ سائرِ الصالحاتِ، وعدمِ الاستجابةِ للشيطان الذي رَمَى ما يشيرُ إليه بالحجارةِ. ولذا فإننا نتصوَّرُ منه استقامةً تامَّةً على دينِ اللهِ تعالى إلى أن يَلْقَى ربَّهُ U. وهذا هو الذي نَرَاهُ فعلاً مِنَ الْمُوَفَّقِينَ منهم. ومِنْ خلالِ تلك الاستقامةِ نَسْتَشِفُّ أنَّ اللهَ تعالى قد قَبِلَ منهم حجَّهم؛ بدليل أنَّهُ وَفَّقَهُمْ إلى الثباتِ على الطاعةِ، والاستزادةِ منها بعدَهُ، والقاعدةُ الشرعيةُ تقولُ: "مِنْ علاماتِ قَبُولِ العملِ الصالحِ مِنَ المسلمِ، أن يُوَفِّقَهُ اللهُ تعالى إلى عملٍ صالحٍ آخَرَ بعد الفراغِ منه".
وبمقابلِ هذه الفئةِ الْمُوَفَّقَةِ نَجِدُ بعضَ الحجاجِ سُرْعَانَ ما يَعُودُونَ إلى ما كانوا عليه قبلَ حَجِّهِمْ مِنْ سَيِّئِ الأعمالِ، وكأنَّهم بلسانِ حالِهم يقولون: إنَّنَا لَمْ نستفدْ من الحجِّ شيئًا، فلا قَوَّى إيمانَنَا، ولا ذَكَّرَنَا بالموت والآخرةِ. كما أنَّ تلك المناسكَ التي أَدَّيْنَاهَا، والمشاهِدَ التي رَأَيْنَاهَا وعَايَشْنَاهَا، لَمْ تُؤَثِّرْ فِينَا، ولَمْ تُغَيِّرْ مِنْ شخصيَّاتِنَا شيئًا. بلْ لَعَلَّ الحجَّ لَمْ يُقْبَلْ مِنَّا أصلاً؛ بدليل انتكاسَتِنَا بعدَهُ مباشرةً.
لذا فإنَّنَا نُنَاصِحُ إخوانَنَا الحجاجَ، بأنْ يُحَافِظُوا على تلك الفضائلِ التي ظَفَرُوا بها مِنْ خلالِ حجِّهم، ولْيُوَظِّفُوا تلك الشحناتِ الإيمانيةِ التي عُبِّئُوا بها، لِيُقِيمُوا ما بَقِيَ لهم من حياتِهم على ما يُرْضِي عنهم ربَّهم، وحِينَهَا بإمكانِهم أنْ يُبَشِّرُوا أنفسَهم بأنَّ اللهَ تعالى قد قَبِلَ منهم حجَّهم، وغَفَرَ لهم ذنوبَهم، وأَعَدَّ لهم الجنةَ التي وَعَدَهُمْ بها.
نسألُ اللهَ جلَّ وعلاَ أن يُكْرِمَنَا جميعًا بالذهاب إلى البقاع المقدسةِ، وأن يَمُنَّ علينا جميعًا بالظَّفَرِ بحجةِ العمرِ. كما نسألُهُ سبحانه وتعالى التوفيقَ والسدادَ في أمورِنَا كلِّها. اللهمَّ بَصِّرْنَا بعيوبنا، وأَعِنَّا على إصلاح ما فَسَدَ من أحوالنا. اللهمَّ أَرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وأَرِنَا الباطلَ باطلاً وارْزُقْنَا اجتنابَهُ. اللهمَّ اهْدِنَا واهْدِ بنا، واجعلْنَا سببًا لِمَنِ اهتدى. »رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً« (الكهف:10). اللهمَّ اخْتِِمْ لنا بالْحُسْنَى؛ حتى نَلْقَاكَ ونحن على أحسنِ حالٍ. وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.