رئيس الجمهورية يستقبل قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم"    جمباز: "مواصلة التطور من اجل احراز تتويجات اخرى"    اتحاد شمال إفريقيا لكرة القدم : ''اهتمام متزايد بكرة القدم المدرسية من طرف الكاف''    فلاحة: مزارعو الحبوب مدعوون للقيام بالتعشيب الكيميائي لحماية المحاصيل    بصفته مبعوثا خاصا لرئيس الجمهورية, مزيان يستقبل بماسيرو من قبل الوزير الأول لمملكة ليسوتو    اجتماع الحكومة: الاستماع الى عروض حول موسم الحج وقطاعات التربية والسكن والفلاحة    المدير العام للحماية المدنية يقوم بزيارة عمل وتفقد إلى ولاية المغير    دخول 30 حافلة جديدة محلية الصنع حيز الخدمة تدريجيا    وزير الثقافة الإيطالي في زيارة رسمية لتعزيز التعاون الثقافي مع الجزائر    الجزائر تسلم الرعية الإسباني المحرر إلى سلطات بلاده    مشروع قصر المعارض الجديد: سيفي يقف على سير الأشغال    كرة القدم: الجزائريون يهيمنون على التشكيلة المثالية لدور المجموعات    فلسطين : ارتفاع حصيلة الشهداء في جنين إلى 10 شهيد    الأمم المتحدة تبدي قلقها حول العملية العسكرية التي تقوم بها قوات الاحتلال الصهيوني في جنين    حماس: غزة أمام مرحلة جديدة لإزالة آثار العدوان الصهيوني وإعادة الإعمار    التلفزيون الجزائري يكشف عن شبكته البرامجية لرمضان 2025    عرقاب يشارك في الاجتماع الخاص بمشروع ممر الهيدروجين الجنوبي    رمضان القادم سيعرف وفرة في مختلف المنتجات الفلاحية    انطلاق الطبعة 20 للمسابقة الدولية لجائزة الجزائر لحفظ القرآن وتجويده    المشاركون في جلسات السينما يطالبون بإنشاء نظام تمويل مستدام    تحرير الرعية الاسباني المختطف: رئيس الجمهورية يقدم تشكراته للمصالح الأمنية وإطارات وزارة الدفاع الوطني    وحشية الصهاينة.. من غزّة إلى الضفّة    تحويل ريش الدجاج إلى أسمدة عضوية    الجزائر ستكون مركزا إقليميا لإنتاج الهيدروجين الأخضر    استيراد 63 طنا من اللحوم الحمراء تحسّبا لرمضان    استفزازات متبادلة وفينيسيوس يدخل على الخط    حاج موسى: أحلم باللعب في الدوري الإنجليزي الممتاز    لباح أو بصول لخلافة بن سنوسي    هذا موعد قرعة كأس إفريقيا    "فتح 476 منصب توظيف في قطاع البريد ودعم التحول الرقمي عبر مراكز المهارات"    دور محوري للجزائر بإفريقيا    إصدار 20500 بطاقة تعريف بيومترية و60 ألف عقد زواج    برنامج خاص لمحو آثار العشرية السوداء    9900 عملية إصلاح للتسرّبات بشبكة المياه    11 مليون لغم زرعها المستعمر الفرنسي بخطي شال وموريس    61 ألفا ما بين شهيد ومفقود خلال 470 يوم    وزيرة الدولة الفلسطينية تشكر الجزائر نظير جهودها من أجل نصرة القضية    القلوب تشتاق إلى مكة.. فكيف يكون الوصول إليها؟    غوتيريش يشكر الجزائر    تاريخ العلوم مسارٌ من التفكير وطرح الأسئلة    السينما الجزائرية على أعتاب مرحلة جديدة    "كاماتشو".. ضعيف البنية كبير الهامة    "زيغومار".. "فوسطا".."كلاكو" حلويات من الزمن الجميل    حدائق عمومية "ممنوع" عن العائلة دخولُها    36 ألف طفل في مدارس ذوي الهمم    من 18 إلى 20 فيفري المقبل.. المسابقة الوطنية سيفاكس للقوال والحكواتي        وفد برلماني يتفقد معالم ثقافية وسياحية بتيميمون    شايب يلتقي المحافظة السامية للرقمنة    دومينيك دي فيلبان ينتقد بشدة الحكومة الفرنسية    الجوية الجزائرية: على المسافرين نحو السعودية تقديم شهادة تلقي لقاح الحمى الشوكية رباعي التكافؤ بدءا من ال10 فيفري    الجوية الجزائرية: المسافرون نحو السعودية ملزمون بتقديم شهادة تلقي لقاح الحمى الشوكية رباعي التكافؤ بداية من 10 فبراير    وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ    بلمهدي: هذا موعد أولى رحلات الحج    رقمنة 90 % من ملفات المرضى    كيف تستعد لرمضان من رجب؟    نحو طبع كتاب الأربعين النووية بلغة البرايل    انطلاق قراءة كتاب صحيح البخاري وموطأ الإمام مالك عبر مساجد الوطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معظم النار من مستصغر الشرر
نشر في الجمهورية يوم 23 - 01 - 2011

كان الصورة التي يحملها كثيرون عن الشعب التونسي منذ عدة عقود هي صورة الشعب الوديع الهادئ الصبور، الذي لا يثور ولا يغضب ويتحمل كل الإساءات بصدر رحب، وهي صورة يراها البعض ضرورية لبلد سياحي بالدرجة الأولى.
وكانت المكاسب التي منحت للمرأة التونسية، وخصوصا المرأة الحضرية، في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، كانت دعما لمقولة زائفة، زعمت بأن المرأة التونسية هي صاحبة القرار الأول والأخير في البيت وعلى الساحة التونسية، لتوازن مقولة تقول بأن من لم يتزوج تونسية مات أعزبا.
وأتصور بأن الدليل القاطع بأن الرجل في تونس رجل شرقي دائما لا يتخلّى أبدا عن اعتزازه برجولته وإحساسه بالتفوق أمام المرأة هو الإحساس بالغبن الذي شعر به بو عزيزي، ودفعه إلى الانتحار حرقا عندما صفعته امرأة، وهو ما كان الشرارة التي أشعلت ثورة الياسمين، وأثبت بأن المجتمع التونسي كان دائما مجتمع التكافل والتراحم والتكامل بين الرجل والمرأة، بدون أن يلغي هذا دور الرجل وهيبته.
وأيا كان ما يمكن أن يُحسب على عهد الرئيس الأول للجمهورية فإنه لا يمكن أن ينفي أنه حرص دائما على بناء الدولة التونسية، أو بمعنى أدق، حرص على دعم وجودها، حيث لم تتعرض تونس لما أصاب الجزائر مثلا في 1830 من هدم لكل مقومات الدولة وضمها لكيان غريب عنها في كل شيء.
وهكذا كانت مواقف الرئيس بو رقيبة كلها تجسيدا لإرادته في صيانة هيبة الدولة، والهيبة أهم مظاهر القوة في بلد صغير وطموح في الوقت نفسه، وخطابه في "البالماريوم" لا يُنسى، كما لا يُنسى إصراره يوما على أن يغادر أميرٌ خليجيّ البلاد على الفور، بعد أن سمع أنه أساء للضيافة التونسية، وهي قضية معروفة.
ورغم أن هيبة الدولة في تونس استثمرت غالبا لمصلحة الحزب الحاكم وقواته الأمنية فإن مما لا يمكن إنكاره أن تونس كانت دائما تعبيرا عن الدولة القوية التي تتمتع بالهيبة، وكلنا يعرف حجم الانضباط في الشارع التونسي.
وأتصور أن أساس الهيبة والانضباط أن الشعب كان يحس دائما بأن بلاده دولة _ أمة، وأن احترام الآخرين له مرتبط بذلك، وكانت اللغة الوطنية من أهم عناصر قوة الدولة، فلم تتعرض البلاد للشرخ الرهيب الذي نعاني نحن منه نتيجة للتشرذم اللغوي، وهكذا رأينا الجميع في التظاهرات ينشدون معا : "حماة الحمى يا حماة الحمى"، وهي نقطة يجب أن تؤخذ في الحسبان عند كل مقارنة، تماما كما يجب أن نتذكر بأن أحدا في تونس لم يرفع علما أسود تنديدا بالنظام، وتمسك الجميع بالعلم الوطني الذي كان رمز نضال الأمة وعنوان كفاحها.
وهكذا كانت اللغة العربية الجامع الرئيسي لكل المواطنين عبر التلفزة الوطنية وقناتي نسمة وحنبعل، وهو ما جعل صورة الشعب التونسي تبدو منسجمة تمام الانسجام، يتكامل فيها هتاف الشارع الثائر مع تعبيرات المثقف الوطني، ولا تتناقض فيها زفرات امرأة ريفية مع تحليلات هشام جعيّط، وتبرز فيها صورة تونس الحقيقية، التي أطاحت بأوهام كثيرة عاشت وعششت في أدمغة الكثيرين.
ومن هنا فإن انتفاضة الشعب التونسي الرائعة تستحق أكثر من وقفة متأملة، تضع نقاطا فوق بعض الحروف وتحت بعضها الآخر، وتفرض على كل وطني أن يقول لكل من تجاهلوا في السنوات الماضية محنة الشعب التونسي ألا يعوضوا استفاقتهم المتأخرة بالدروس الغبية التي يتشدقون بها، متناسين أن أهل مكة أدرى بشعابها.
والواقع هو أنه إذا كانت الثورة الفرنسية فتحت أبواب أوروبا أمام النهضة السياسية، وإذا كانت الثورة الجزائرية فتحت أبواب إفريقيا أمام حركية التحرر من الاستعمار، فإن الثورة التونسية فتحت، أولا وقبل كل شيء، باب الأمل أمام الوطن العربي للتخلص من مرتزقة الاستقلال الذين يجثمون على صدر الأمة منذ عقود، وأعطت صورة متحضرة لثورة شعبية واعية، وهو ما يمنح تونس موقع الريادة العربية بل والريادة بالنسبة للعالم الثالث كله، وتؤكد ذلك التحركات السريعة من بعض القيادات العربية لإلغاء رفع أسعار بعض المواد الاستهلاكية أو لدعم القدرة الشرائية للمواطنين.
ذلك أن كثيرين لم يفهموا أن الانتفاضة لم تكن قضية خبز أو زيت، ولكنها هبة من أجل الكرامة والحرية، أنهت إلى الأبد خرافة فعالية الدعم الخارجي لأي نظام مكروه داخليا، وهي تذكرنا بدرس شاه إيران، الذي كان يتصور أن علاقاته الوثيقة بأمريكا ستحميه من غضبة الشعب الإيراني فإذا بواشنطون ترفض مجرد استقباله على أرضها بعد أن أطاحت به ثورة الشعب.
ولم يتعظ العرب يومها من الدرس الإيراني، وليتهم يتعظون اليوم بعد أن كررت فرنسا نفس الدرس ورفضت مجرد هبوط طائرة الرئيس الفارّ من غضبة شعب صبور، علّم الدنيا أسرها أن للصبر حدودا.
ولقد راح أشباه المحللين السياسيين يذكرون بإسقاط صدام حسين، في حين أن ما حدث في العراق كان هدما لدولة اتخذ قرارٌ انتقامي خارجيّ بإعادتها إلى العصر الحجري، بتعبير مسؤول أمريكي أحمق، فتم تحطيم الجيش العراقي، وتخريب النظام المالي، وتدمير معالم الدولة، وزرع عناصر الفرقة في بلاد الرافدين، أما في تونس فقد جسدت الجماهير مقولة الشابي عن إرادة الشعب الذي يريد الحياة، وأسقط رأس النظام بإرادة شعبية مستقلة، وظلت الدولة قائمة بكل معالمها، وكان الجيش التونسي الدعامة الحقيقية الواعية للثورة الشعبية.
ثم إن ما حدث في العراق كان غزوا أجنبيا حظي بتواطئ معظم دول المنطقة التي لم تستخلص التجربة من درس الشاه، واصطحب قيادات عميلة مرتزقة كانت تعيش في الخارج فجعل منها واجهة لوجوده، فكانت أقرب لعوازل منع الحمل المطاطية، ومن هنا فإن من تولوا السلطة في العراق كانوا، في معظمهم، أذنابا للإمبريالية الأمريكية أو عملاء لجيران يحملون حقدا لا حد له للرئيس العراقي الأسبق، وتعاونوا جميعا على تحطيم العراق الواحد، وهذا كله غير وارد في أرض الخضراء، حيث أن ثورة تونس كانت انطلاقة شعبية عفوية لا يستطيع أحد أن يزعم لنفسه فضلا في قيامها، وسواء تعلق الأمر بزعامات داخلية أو قيادات خارجية.
ولقد كانت أحداث الساعات الأولى في تونس، تعيينا للوزير الأول طبقا للمادة 56 من الدستور، ثم تغييرا سريعا في اليوم الأول ليتولى فؤاد المبزع رئاسة الدولة طبقا للمادة 57، ثم استقالة كليهما من الحزب لتأكيد الحيادية، كانت كلها دليلا على أن في تونس شعب يتابع ما يحدث بعيون يقظة وأن هناك رجال دولة يعيشون هواجس الجماهير ويستجيبون لإرادتها.
وكانت عمليات النهب والسلب والاغتيالات في العراق تصرفات قامت بها شراذم كانت بالأمس تهتف لرأس النظام صارخة : بالروح بالدم، بينما تميزت الثورة التونسية بالوعي الرائع الذي برز عبر كل التظاهرات الشعبية، فلم تمارس الجماهير أي عمل تخريبي أو استفزازي للأمن يدفعه إلى استعمال العنف، لأنها كانت تدرك أن ذلك سيكون تهديدا لمستقبل بلد يعيش أساسا على السياحة التي تتطلب إحساس الزائر بالأمن وبالطمأنينة، وهو ما عبر عنه بوضوح سائحون أجانب رجعوا من تونس مؤكدين أنه لم يصب أحد منهم بسوء خلال الأحداث.
وهنا يتبين غباء العناصر التي قامت ببعض عمليات التخريب، لأنها سجلت بذلك أنها عناصر مأجورة لا تمثل الشعب التونسي بأي حال من الأحوال.
وبينما لم يجد العراق تجمعات شعبية أو تنظيمات حزبية أو جمعيات مدنية تتحمل مسؤولياتها في مواجهة الانهيار جسد المواطنون في تونس روح المواطنة العالية وواجهوا ما حدث بكل رجولة وبتلقائية رائعة، وتطوع الشباب بتنظيف الشوارع وحماية الأحياء السكنية.
وربما تكون هناك مقارنة نسبية مع إسقاط نظام جعفر نميري في 1985، لكن الثورة الشعبية في السودان لم تنجح إلا عندما قام الجيش بقيادة المشير سوار الذهب بتحرك عسكري أطلق رصاصة الرحمة على النظام، وهو ما لم يحدث في تونس وظل الشعب قائد لحركته متابعا يقظا لكل التطورات.
ويبقى أن المقارنة بين الجزائر وتونس مقارنة تتسم بالغباء.
فواضح أن ما حدث في تونس كان انتفاضة عفوية صادقة قام بها الشباب والتفت حولها الجماهير، أما في الجزائر فقد كان أساسا استنساخا لأحداث 1988، التي كانت عملية مفبركة لاستباق الانتفاضة الحقيقية، ولقد توقفت الجماهير في الجزائر حول المستفيد من الأحداث، وتساءل كثيرون حول دور محتمل لبعض المستوردين الذين استفادوا، فيما بعد، من إلغاء الرسوم الجمركية والضريبية على وارداتهم من المواد الاستهلاكية، ومن هنا لم يسر أحد خلف مجموعات النهب والحرق، خصوصا بعد أن لوحظت انتقائية واضحة في المواقع التي جرى استهدافها، وترك الملثمون المشبوهون وحدهم ليؤكدوا أنهم، ومن حرّضهم أو موّلهم، غرباء عن إرادة الشعب متآمرون على مصالحه.
وكان الأمن في الجزائر بالغ الذكاء فلم يسقط في فخ أكتوبر المشبوه، رغم أنه دفع ثمنا غاليا لصبره.
وبينما كان انتحار الشاب بو عزيزي في سيدي بو زيد عود ثقاب ألقي في موقع مشحون بالمواد القابلة للاشتعال السريع، كان الانتحار المؤسف لشباب جزائري عود ثقاب ألقي في أرض مبللة بالمياه، ومع أننا ندعو بالرحمة والمغفرة للجميع فمن الحماقة أن نقارن بين أمور قد تبدو متشابهة لجنرالات المقاهي ومنظري قنوات التلفزة بينما يؤكد الواقع أنه لا مجال فيها للمقارنة الحقيقية.
ويبقى أن الشعب التونسي أعطانا جميعا درسا لا يمكن أن يتناساه إلا الحمقى، وما أكثرهم، وكل هذا لا يلغي وضعية الإحباط التي يعيشها الجميع، والفراغ السياسي الذي تعاني منه البلاد، وهو ما يتطلب دراسة واعية معمقة، كنت أشرت لها في الحديث الماضي.
ولنتذكر أن معظم النار من مستصغر الشرر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.