المسار التاريخي للحركة النقابية في الجزائر بدأ كولونياليا مع الكونفدرالية العامة للعمل الفرنسية التي ظهرت لأول مرة بهذه التسمية أواخر سبتمبر 1895 , و سيطر عليها الحزب الشيوعي الفرنسي الأقل عداء للعمال الجزائريين , و للقضية الجزائرية فيما بعد , لذا كانت الخطوات الأولى للجزائريين في النشاط النقابي ضمن هذا التيار الإيديولوجي , و تدرجوا ضمنه في المسؤوليات حتى بلغ بهم الأمر إلى الاستقلال بتنظيم نقابي خاص بهم أواخر أربعينيات القرن الماضي حينما أسسوا الاتحاد العام للنقابات الجزائرية , غير أن هذا التنظيم سرعان ما تشتت مناضلوه بعد اندلاع الثورة التحريرية , و التحق بعض إطاراته- فرادى- بالاتحاد العام للعمال الجزائريين الذي أسسته جبهة التحرير الوطني يوم 24 فبراير 1956 غداة تأسيس الميصاليين لتنظيم مواز "باسم الاتحاد النقابي للعمال الجزائريين". و ستة أسابيع بعد تأسيسه أضحى للاتحاد العام للعمال الجزائريين نشريته الخاصة بعنوان "العامل الجزائري "l'ouvrier algerien) و التي حدد عددها الأول الخطوط العريضة لبرنامج عمل الاتحاد تتمثل أساسا في بلورة وعي لدى العمال يؤهلهم لمواجهة كل أنواع الاستغلال, و نبذ كل تمييز في الدفاع عن الطبقة الشغيلة, و توجيه نضال العمال لتحسين ظروف الحياة و ضمان ديمومة العمل . و يندرج تأسيس الاتحاد العام للعمال الجزائريين ضمن استراتيجية الثورة التحريرية التي ترتكز على الاستعانة في بلوغ أهدافها بالمنظمات الجماهيرية , و منها المنظمة النقابية التي أسندت لها مهام إشراك العمال في النضال التحرري . و بالفعل فإن هذا التنظيم استطاع في ظرف وجيز استقطاب أكثر من مائة ألف عامل قاربت اشتراكاتهم في بعض التقديرات 500 مليون فرنك فرنسي قبيل الاستقلال .غير أن هذه المساهمة على أهميتها في دعم المجهود الثوري , لن تضاهي وزن ودور المنظمة النقابية في المعارك السياسية التي خاضتها جبهة التحرير ضد النظام الكلونيالي الفرنسي . ففي العام الذي تأسس فيه , استطاع الاتحاد العام للعمال الجزائريين انتزاع الاعتراف به من طرف المجلس التنفيذي للكونفدرالية العالمية للنقابات الحرة , مما أتاح له المشاركة في جميع الإضرابات التي دعت إليها جبهة التحرير و من أهمها إضراب الثمانية أيام الذي قدم الدليل القاطع على شعبية الثورة و برهن للجمعية العامة لمنظمة الأممالمتحدة , أن جبهة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الجزائري .و من خلال النشاط النقابي الدولي للاتحاد , تعرف عمال العالم على عدالة القضية الجزائرية .و قد لجأت السلطات الاستعمارية إلى كل أساليب القمع لعرقلة هذا النشاط , حيث اعتقلت إطارات الاتحاد و زجت بهم في السجون والمعتقلات و سلطت عليهم أشنع أنواع التعذيب مما تسبب في استشهاد أول أمين عام للاتحاد المرحوم عيسات إيدير جراء التعذيب الذي تعرض له طيلة فترة اعتقاله بين 1956و 1959 . من النضال التحرري إلى النضال التنموي و بعد الاستقلال , ظل الاتحاد العام للعمال الجزائريين , وفيا لدوره السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي مستبدلا النضال التحرري بالنضال التنموي دون أن يتخلى عن دوره النقابي المطلبي . و منذ استرجاع السيادة الوطنية تعاقب على الاتحاد سبعة أمناء عامون كلهم ترعرعوا في أحضان هذه المنظمة و تلقوا مبادئ النضال النقابي بالممارسة الميدانية بمختلف هيئاتها العمودية و الأفقية . و إلى غاية 1989 كان الاتحاد العام للعمال الجزائريين التنظيم النقابي الوحيد الذي يمثل فئة العمال بحكم رصيده التاريخي و النضالي , معتمدا في تمثيلهم على لغة الحوار و التشاور , و على اعتراف الدولة بوصفه الشريك الاجتماعي الوحيد الممثل للعمال في اجتماعات الثلاثية , و في مجالس الإدارة للعديد من صناديق الضمان و التأمينات الاجتماعية (صندوق الضمان الاجتماعي للعمال الأجراء – صندوق التقاعد – صندوق التأمين على البطالة – صندوق دفع العطل في قطاع البناء والأشغال العمومية – صندوق معادلة التوزيع للخدمات الاجتماعية ...) , مما سمح له طيلة ثلاثة عقود تقريبا من الحفاظ على الحد الأقصى من التوازن بين الواجبات نحو السياسة التنموية للبلاد و بين الحقوق المهنية و الاجتماعية للعمال و في مقدمتها قدرتهم الشرائية و الحفاظ على مناصب العمل . و بعد 1989 أقرت الجزائر التعددية السياسية و الإعلامية و النقابية , مما أدى إلى ظهور الكثير من التنظيمات و الكيانات في هذه المجالات , و رغم تعدد النقابات حافظ اتحاد العمال الجزائريين شبه احتكاره للنشاط النقابي مع تغليب الجانب السياسي , رغم إعلانه في مؤتمر 1990, التخلي عن كل الوصايات, و تحوله إلى منظمة مستقلة في علاقاته مع السلطات العمومية و الحكومة و الأحزاب ... إذ انخرط في اللجنة الوطنية للدفاع عن الجمهورية , و شارك في ندوات الوفاق الوطني , و كان عضوا مؤسسا لحزب وطني . كما سعى من أجل التخفيف من تبعات الاتفاق مع صندوق النقد الدولي و ما نتج عنها من تسريح للعمال , و دعم البرنامج الوطني للإنعاش الاقتصادي , كما أنه أعلن جهارا تزكيته لمرشح في الاستحقاقات الرئاسية منذ 1999 إلى اليوم . النقابات المستقلة و إن اتحدت ليست بديلا للمركزية النقابية و مع كل الانتقادات الموجهة لهذه المنظمة النقابية بوصفها أداة في خدمة السلطة , غير أن العمال الذين تعترضهم مشاكل مهنية و خاصة على مستوى الشركات الخاصة و الأجنبية أو المختلطة , لا يجدون ملجأ إلا إلى الاتحاد العام للعمال الجزائريين , لأنه المنظمة التي لها خبرة و قدرة على التعامل مع مثل هذه الحالات , فضلا أنه يمثل الجزائر في مختلف الهيئات النقابية الدولية , الجهوية و الإقليمية . و من هنا ؛فإن تصريح السيد طيب لوح منذ 9 سنوات عندما كان وزيرا للعمل و الحماية الاجتماعية , و الذي تحدى من خلاله النقابات "المستقلة" بأن تقدم دليلا واحدا ينفي تمثيل الاتحاد العام للعمال , أو يثبت تمثيلها هي لهم ؛ مثل هذا التصريح مازال ساري المفعول إلى حد كبير. لأن النقابات المستقلة التي تجاوز عددها السبعين , انحصر نشاطها على مستوى قطاعات الوظيفة العمومية و لاسيما التعليم بمختلف أطواره و فئاته العمالية و الصحة و الإدارة و قلما غامرت باقتحام القطاعات الصناعية و الطاقوية و البناء و الأشغال العمومية و عمال القطاع الخاص (حتى بالنسبة للفئات العمالية التي تمثل هذه النقابات نظراءهم في القطاع العام) .كما ينحصر النضال النقابي لهذه التنظيمات في الجانب المطلبي "الراديكالي" و خاصة منه ذلك المتعلق بالأجور و المنح و التعويضات التي يتجاوب معها معظم العمال لما تعود به عليهم من منافع مادية , بينما يضعف تجاوبهم مع مطالب لا يرون أي نفع مباشر لهم . بل إن المطالب غير "الريعية" لا تستقطب العمال حتى عندما تلجأ هذه النقابات المستقلة إلى التكتل في تنسيقيات وطنية لإسماع صوتها , و للضغط على السلطات العمومية , مثلما هي الحال بالنسبة للمطلب الرافض لقانون التقاعد الجديد . و زيادة على الاحتجاجات و الاعتصامات والإضرابات التي تبادر بها هذه النقابات , فإن هذه الأخيرة لا تتوانى عن دعم و مساندة محتجين غير مهيكلين من خارج وعائها النقابي و مجالها القطاعي , بحثا عن الشعبية من جهة و نكاية في السلطات العمومية التي ترفض التعامل معها كشريك اجتماعي . و قد أظهرت تجربة النقابات المستقلة خلال العقود الثلاثة الأخيرة مدى ضعف هذه النقابات في قراءة الوضع الاقتصادي للبلاد. و لذا , لا يمكن لهذه النقابات أن تكون بديلا للاتحاد العام للعمال الجزائريين , حتى في حالة نجاحها في التكتل ضمن تنسيقيات أو فيديراليات قطاعية , إذ لا يمكن لوزارة واحدة كوزارة التربية التعامل مع أكثر من 12 نقابة (كل نقابة تلغى بلغاها), ونفس الأمر يخص وزارات النقل و الصحة و البناء و التعمير ... إذ لا يمكن استبدال تنظيم يضع الدور الاجتماعي للنضال النقابي في مقدمة أولوياته ,بنقيضه الذي يرمي بكل ثقله في الجانب المطلبي . غير أن وجود التنظيمين معا ليكمل أحدهما الآخر , قد يكون مفيدا لتطور الحركة النقابية في الجزائر بفعل التنافس الإيجابي.