لم يجدوا لها أثرا وسط الركام وكل ما تبعثر من أقدار ومن نفوس وأشياء حميمة، كان جسمها قد تحول أشلاء بالرغم من أنها اختبأت في الركن الأكثر أمانا كما أقنعوها. أخذت قفتها المصنوعة من الصوف والحلفاء والتي لم تفارقها طوال فترة الموت المجاني والخوف والتنقل من مكان إلى آخر للتخفي، متى ما كانت بعض الأمكنة سخية بجدرانها وربما ببعض ناسها وأرواحها الطيبة أيضا. كانت قفتها العزيزة على نفسها بمثابة سفينة نوح التي تحميها من الطوفان، والتي تخبئ ذاكرتها وأشجانها من حمم البراكين المفاجئة والعواصف التي لم يعد لها ميزان، حملت فيها كل ما كتبته بين غفوة وأخرى، وما تيسر من الكتب التي تعشقها والتي لم تمل من قراءتها أكثر من مرة، تنبهت لآلة التصوير التي أهديت لها في عيد من أعياد ميلادها.. كل ما وجدوه ذراعا متجمدة، ويدا كامشة بإحكام على القفة، وأصابع رقيقة وناعة تخبئ وورقة معجونة في عمق الكف، تنام في عمقها جمل مفككة والباقي محته الدموع وبقع الدم، عرفوها بقلادتها الساكنة فيها أسماء الله الحسنى وآية الكرسي، والتي لم تفارقها منذ سن المراهقة، هدية جارتهم غيتا الخياطة. جارتهم أم الصبيان كما كانوا يسمونها، التي أحبتها وكأنها هي من حملتها ووضعتها. « لست أدري إن كنت أكلمك الآن أم أنا أهمس إلى نفسي فقط. تباعا، وحفنة حفنة، تواريخ قديمة وتواريخ جديدة، تصلني رسائلك المحملة بهمسك وبجوعي إليك، وبوجعي المستأصل فيك وبك. تسائلينني خفية هل يكفيني ما فيَ من شوق ومن وله ومن عشق ومن وجد ومن صمت ومن امتلاء وكل ما يمتد في الشرايين من جنون لأحملني إلى آخر الطريق وأسكن قوس قزح وبيوت الشمس والقمر وكل المجرات، أن أهز أجراسي ونواقيسي وأتسلق روحي جبالا و وهادا ومسالك وعرة مثل أحباب الله الهائمين، أن أصعد هشاشتي سلما سلما خوفا أن أتركني ورائي وأتلاشى مع هسيس الريح وسرّ الرماد. أجيئك محملا بكل أزمنتي وما جادت به الصدف من حنين وفرح، أرتب أبجدياتي وكل لغاتي المنسية عند عتباتك. هنا أسكب كل جمري وكل غيومي وكل أقداري وكل تواريخي. أسكبني مثل حمم بركان نسي موعد رحلته والهدأة المشتهاة. هنا أسئلتي؟؟؟ من يتبرع بالأجوبة؟؟؟ هنا لا تمْر ولا جمْر هنا لا ثدي يأوي أوجاعنا المرتعبة ولا حكيم يثبّت قوس قزح في روح الرمل هنا الفصول متعبة والعمر المرّ تزاحمت عليه المسافات!!! هل يكفي ما في الروح من خفقان وما في القلب من ارتجاجات وما في العمر من انتظار حتى أفتح فجواتك فجوة فجوة، وأطرق أبوابك بابا بابا، وأرسم خطاك خطوة خطوة دون عطب وشقوق، وأخطف نورك لمعة لمعة وأرتب أبجدياتي على أنغام لا يتقنها سواك.. ألامس الآن ما غاب من تفاصيل وسط الزحمة ووسط الهول والأجساد المرمية والرؤوس المقطوعة وسط ما خلفه هاجوج وماجوج من قحط وخراب، وما سرقوه من أعمار وأحلام. هنا كأسي تنتظر من يرفع هشاشتها ويرتشف شيئا من متاهاتها، تنتظر من يضم هبلها وجنونها، من يخيط جمره بجمرها حد الشغف، تنتظر من يعزف ألوانها البهية الراقصة على أجفان الريح، تنتظر من يهز أزهارها لعبق الآتي. هنا العمر الممتلئ حد الفيضان يشرع عيونه للجرح، يتخلى عن قاماته، يعرش أشجارا خرافية في دمي، ينفض القلب من رعشاته، يرشقه بالجمر، يداري الظلال الخفية يلفها في الألحان المجنونة أوتارا شفيفة، يراقصها كما ساكنات المعابد، وهن يصدحن، ردّوا العمر للعمر والروح للروح والعشق للعشق، واللهيب للهيب، والعزف للعزف، والألحان لأنينها، والموج لمده وجزره، والبحر لهدأته وهيجانه، ردّوا الظلال لغوايتها وضلالها ونيرانها، واشتعالها. لا زلت أتشهى صوتا موغلا في الحنين وأروّض أرواحي على محاذاة النار هل لي أن أخطف حفنة ابتهالات أخبئ فيها آخر فسيلة من نخيلي قبل أن يُسرق القلب!!!!»