تحتاج المجتمعات العربية الإسلامية في هذه الآونة إلي موجة تحررية ثانية، تستهدف هذه المرة المجتمعات والبني الثقافية والعقلية وإنجاز التنمية الاقتصادية والمساهمة العلمية والفكرية لانتقال البشرية من مرحلة المنافسة والصراع بين الدول والأوطان لاحتكار الهيمنة والسيطرة إلي مرحلة التعاون والتكافل لإنتاج تاريخ مشترك للإنسانية، وذلك بعد الموجة التحررية الأولي في الخمسينيات والستينيات، التي استهدفت استعادة السيادة وبناء الدولة الوطنية وما انتهت إليه في العديد من الدول من تفكك وصراعات وحروب أهلية وضعف الجيوش الوطنية والقصور في استيعاب التنوع والتعدد الديني والمذهبي والطائفي واختطاف الإسلام من قبل قلة قليلة أساءت للإسلام وجموع المسلمين في العالم. في مواجهة الأزمة التي تعصف بالعالم العربي والإسلامي والتي يبدو أنها كالقدر لا مفر منه ورغم تعدد أسبابها الداخلية والخارجية وتشابكها، فإنه من الجلي أن قصور العقل والفكر باعتبارهما متلازمين عن توفير حلول ملائمة ومبتكرة وممكنة وعملية لتجاوز الأزمة يمثل أبرز هذه الأسباب التي تحول دون توليد العلاج والحلول وفتح الطريق أمام العالم الإسلامي لتجاوز عثرته واللحاق بركب العصر وروحه والاندماج فيه بقدر كبير من الثقة. لقد واجهت الدعوة الإسلامية منذ البدايات اختبارات صعبة وقاسية ولكنها تمكنت من تجاوزها وتثبيت قواعدها ومرتكزاتها الكونية والإنسانية، حيث واجهت الدعوة الإسلامية بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم أول وأخطر الاختبارات حيث فقد المسلمون بعد وفاته مصدر المعرفة الدينية وتطبيق الأحكام الشرعية، بما يتوافق مع الدين واهتدي المسلمون إلي نظام الخلافة الإسلامية الراشدة التي تبوأها صحابة الرسول وأقربهم إليه وأكثرهم معرفة به واقتداء بحكمته وتعاليمه. وامتدت الدعوة الإسلامية والدولة الإسلامية إلي بلاد وامبراطوريات مختلفة ذات قيم وتقاليد ومنظومات ثقافية مختلفة وتمكنت من الانتشار والتفاعل والاقتباس واكتسبت القدرة علي التأقلم مع بيئات جديدة ومتنوعة والتعايش معها. وتمكنت الحضارة الإسلامية ، رغم المحن والنكبات والصراعات من تحقيق إنجازات فكرية وعلمية وفلسفية شكلت أحد مرتكزات الحضارة الحديثة باعتراف الأوروبيين أنفسهم، حيث قدمت الحضارة الإسلامية شروحات أرسطو لأوروبا.بيد أن الدعوة للتجديد الديني تستعصي علي الإنجاز، ما لم تسترشد بمبادئ عقلية صارمة تستطيع توجيه الفكر نحو فتح الطريق أمام التحرير الممكن أول هذه المبادئ يكمن في الإقرار والاعتراف بمشكلات العالم الإسلامي الراهنة في السياسة والثقافة والعلوم والفنون والاقتصاد والتهميش والمكانة المتدنية في عالم اليوم، فإذا لم نعترف بالمشكلة في وعينا وتفكيرنا فسنظل نتصرف وكأنها غير موجودة، لأن هذا الاعتراف سيحفز التفكير في حلها وعلاجها، وذلك كما يقولون «نصف الحل» أي الاعتراف والتشخيص ثم التفكير والعلاج، وكما ينسحب ذلك علي المسلمين في بلدانهم ودولهم ينسحب بدرجة أخري أو بدرجة أكبر علي الجاليات الإسلامية في بلدان المهجر. أما ثاني هذه المبادئ، فيتمثل في أن بقاء مشكلات العالم الإسلامي علي ما هي عليه حتي اليوم رغم محاولات الإصلاح الديني وإن أصاب محتواها التغيير، فإن ذلك يعني قصور الفكر عن ابتكار حلول ناجعة ومبتكرة لهذه المشكلات، حلول تتوافق مع العصر وروحه وعقليته التي حققت نهضته، وأن الحاجة تفرض محاولات جديدة وجسورة لاستكمال بناء نسق فكري جديد. أما ثالثة الأثافي أي المبدأ الثالث فهي النظر إلي الموروث الديني من فقه وتفسير وتأويل دون تهويل أو تهوين، أي دون تقديس أو رفعه إلي مرتبة القداسة لأنه اجتهاد بشري وإنساني نسبي أو دون استخفاف وتحقير بل ينبغي النظر إليه علي أنه اجتهاد ارتبط بعصره ومشكلاته ومكانه وزمانه، وأن المرحلة الراهنة في تطور العالم الإسلامي والعالم المعاصر تقتضي اجتهادات جديدة ومبتكرة ومتوافقة مع روح الدين ومع روح العصر في وقت واحد، وأن نتخذ من هذا الموروث حجة لنا لبلورة إسهام جديد يضيء الطريق لحل المشكلات الراهنة. الخبرة الإسلامية زاخرة بالاجتهادات النيرة، حيث أوقف ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إقامة حد السرقة في عام الرمادة ورأي أن تطبيق هذا الحد في مثل هذا العام يتنافي مع العدل والمساواة اللذين نادي بهما الإسلام، كما أوقف صرف الزكاة «للمؤلفة قلوبهم» ورأي أن الإسلام لم يعد في حاجة إليهم، وإذا ما استثنينا هذه الاجتهادات النيرة فإنه من شأن الوقوف عند اجتهادات السلف الصالح والاكتفاء بما قدموه تعزيز انتفاء الحاجة إلي الابتكار والتفكير في حلول المشكلات الراهنة بمعايير سابقة عليها ووليدة مراحل تاريخية مختلفة. وأخيرا وليس آخرا وهو المبدأ الرابع الخروج من التخندق المذهبي والطائفي، لأنه يحجب الرؤية الكلية ويغيب المصلحة العليا والعامة للدين الإسلامي والمسلمين، كما أن هذا التخندق المذهبي يعزز النظرة الأحادية ويناهض التنوع وفي أحيان كثيرة يفضي إلي التكفير وتجذير الكراهية ويحافظ علي استمرار الوضع الراهن والمأمول تغييره إلي الأفضل. إن المعارك والمحن والصراعات والاختبارات التي جرت في إطار تشكل وتكون المذاهب الكلامية وبين المعرفة الدينية والإلهية والمعرفة البشرية، مصادر مهمة للاسترشاد بها إذا استخلصنا منها ما هو إيجابي وبناء ومشترك بينها جميعا، فمثلا هناك اتفاق بين الكثير من المذاهب في ضرورة النظر العقلي وحرية التفكير والإرادة والقدرة علي الفعل إن بالعقل أو بالاكتساب وهي القيم التي علينا الاسترشاد بها لإيجاد خطاب ديني جديد يستعيد الإسلام من خاطفيه ويعيد إليه القيم الكونية والإنسانية والأخلاقية، وقدرته علي التعايش مع الثقافات والمعتقدات، حيث تميز تاريخ الفكر الإسلامي في شتي مراحله المتنوعة بنظرة عقلية مستمرة رغم الصراعات الاجتماعية والسياسية، ورغم ما انزلقت إليه بعض هذه الصراعات من شطط وإقصاء. ولا شك في أن مصر مؤهلة لدور كبير في تجديد الفكر الديني إن بحكم الدعوة إلي التجديد من قمة الدولة أو بحكم أنها بؤرة ومركز الاعتدال في العالم الإسلامي أو بحكم وجود الأزهر وسبقه إلي التقريب بين المذاهب. الأهرام المصرية