بقلم : د. إبراهيم نويري باحث أكاديمي الحلقة الثالثة والأخيرة بيد أن هناك ملاحظة ربما لايجوز إهمالها في هذا المضمار أو السياق، ونقصد بها تميز تفكير الغزالي داخل نطاق الإطار الذي يجمع رموز وأقطاب هذا التيار الفكري، خاصة أن الغزالي قد تقدم به العمر بعد حسن البنا وبعد العديد من أعلام هذا التيار، واستجدّت أمور لم تكن مثارة في وقتهم، أو لم يكن بعضها بالصيغة التي أصبح عليها في المرحلة التي عايشها الغزالي في أوج نضجه العقلي وعطائه الفكري .. وربما ليس أدل على ذلك من الإشارة لاجتهاده وإضافته لعشر مقررات أو قواعد للتعاليم العشرين التي وضعها أستاذه الإمام حسن البنا لهذه المدرسة الفكرية (6). فهذه بعض محدّدات الموقع الفكري الذي ينتمي إليه فكر الغزالي واجتهاده وتنظيره، وهذا هو المنطلق الذي تحرك من قواعده وخلفياته وأسسه، فجاء مشروعه الفكري لبنة عامرة بالحيوية نابضة بالحياة، تبشّر بحركية جديدة وبأنساق فاعلة وواعدة وأنماط أخرى محتملة لمستقبل الفكر الإسلامي، تكون قائمة على قواعد منهجية صلبة ومنفتحة على المعرفة و على عطاءات العقل الإنساني والخبرة الإنسانية والفطرة الصحيحة؛ ونحن لانجدّف في استنباط وبسط هذه المحدّدات لموقع الغزالي الفكري، إذ إننا نجد الغزالي نفسه يشير بوضوح إلى هذا الانتماء الفكري وأهم خصائصه وقسماته، وذلك بقوله: "المدرسة التي أعتبر نفسي رائدا فيها أو ممهّدا لها تقوم على الاستفادة التامة من جميع الاتجاهات الفكرية والمذاهب الفقهية في التاريخ الإسلامي، كما ترى الاستفادة من كشوف الفلسفة الإنسانية في علوم النفس والاجتماع والسياسية والاقتصاد والتاريخ، ومزج هذا كله بالفقه الصحيح للكتاب والسنة .. إن الرؤية الصحيحة لأحكام الشريعة أو الحكم الصائب الذي ينبغي تقريره لا يتم إلاّ مع رحابة الأفق ووجود خلفية عظيمة من المعرفة القديمة والحديثة على السواء " (7). وليس من شك أن هذه الكلمة لها دلالتها العميقة في حسم التحديد الدقيق لموقع الغزالي الفكري، وهي وإن كانت في توصيفها تنطبق على الخطوط العريضة والمحاور الرئيسة لمشروع الغزالي الفكري، إلاّ أنها أيضا – فيما أحسب – تنطوي على إشارة تميّز موقع الغزالي الفكري داخل هذا الاتجاه أو الإطار المرن المنسوب للمدرسة التي ذكرنا بعض مميزاتها .. وهذه حقيقة لا مراء فيها يقف على معناها الصحيح كلّ دارس لمشروع الغزالي الفكري .. فقد عرف الفكر الإسلامي المعاصر على يد الشيخ الغزالي دفعا قويا، انتقل به من مواقع " النخبة " إلى " اهتمامات " معظم المستويات في الأمة، وتجاوز بخلفيته النقدية الواعية المستوعبة مرحلة الأوهام والشعارات والحلول الجاهزة في الخيال، إلى أفق آخر أساسه الأول المعايشة الواقعية لمشكلات الأمة المختلفة، ومواجهة التحديات الكثيرة والمتناقضة التي ما فتئت تحول دون تحقيق الانعتاق الكامل وتجسيد طموحات وأهداف الأمة الإسلامية في الواقع القائم في دنيا الناس فعلا لا وهماً وحقيقة لا خيالاً. ثالثا: ملاحظات حول مشروع الشيخ الغزالي الفكري: بعد هذه الوقفة التي رامت تحديد موقع الغزالي الفكري، نأتي الآن إلى تسجيل هذه الآراء والملاحظات حول مشروع الشيخ الغزالي الفكري، عسى أن تكون حافزاً لبعض الباحثين للعودة إلى قراءة هذا المشروع وإعادة تفكيكه وقراءته قصد الإفادة من معطيات زخمه فيما يفيد واقع حياة المجتمعات الإسلامية ومشكلات الإنسان المسلم المعاصر: 1 – يعكس مشروع الشيخ الغزالي الفكري بمراجعته الجادة لمعظم مساحات واتجاهات الفكر الإسلامي وجود أزمة فكرية حقيقية في نطاق المعرفة الإسلامية، وهو ما أثر سلبا في محاولات الانعتاق الشامل وبرامج الاستنهاض والتغيير والإقلاع الحضاري، كما يعكس في الوقت نفسه الإمكان الفعلي للعقل المسلم – في حال توافر المعطيات المناسبة والشروط الضرورية – لتجاوز المعوّقات والنقائص الموروثة وإعادة بناء وتأسيس الأنساق الفكرية وتأهيل وترقية المعرفة الإسلامية كي تصبح قادرة على إنشاء وصياغة البدائل في شتى الحقول التي يحتاج إليها المجتمع المسلم. 2 – القضية الجوهرية والمركزية في مشروع الغزالي الفكري تتمثل في الكيفيات المنهجية لإعادة صياغة الشخصية المسلمة المتوازنة والمتكاملة، الشخصية القادرة على تخطي أسباب وعوامل تراجع المسلمين الحضاري وسقوطهم المريع في هاوية التخلف والهوان والانحطاط، وهذا سر معالجة الغزالي مثلا لمشكلة الانفصام التاريخي بين القيادة السياسية والقيادة الفكرية، أو تركيزه على بعث وإحياء عوامل الوحدة بين المسلمين، وتهميش الخلافات التاريخية والمذهبية وتحييد أثرها في الواقع الإسلامي، ومحاربته الشديدة لظاهرة الخلط العشوائي بين تعاليم الإسلام في مصادرها المعصومة وبين العادات والتقاليد الموروثة تلك التي تتحكم في توجيهها الأعراف البيئية والأوضاع الخاصة أو المنحرفة أو الجاهلية. 3 – لقد حاول مشروع الغزالي الفكري الإجابة عن مجمل الإشكالات والتساؤلات المثارة في الأفق الفكري الإسلامي، والتي تثير التوتر والضجر باستمرار في فضاء ومحيط تفكير وتأمل العقل المسلم، ولم يكتف الغزالي بالإجابة النظرية المجردة، بل جعل حياته وشخصيته وكيانه كله سياجا لحماية تلك الأفكار والإجابات، ووقودا ينفث فيها الحياة والحركة ويدفع بها إلى الواقع الماثل، وهذه الميزة الرائعة في الالتزام والتماهي الصادق مع المبدأ يُحسب لمشروع الغزالي الفكري، ويضفي على خصائصه قدرا هائلا من الجدوى والقيمة النظرية والعملية. 4 – إذا قيست المشروعات الفكرية بأهمية ووزن القضايا التي تعالجها وتبحث لها عن حلول مناسبة، وبالغايات والأهداف التي تروم تحقيقها، فإن مشروع الغزالي الفكري يعتبر وفق هذا المعيار من أثرى وأنضج وأينع المحاولات الاجتهادية التي أنتجها العقل المسلم المعاصر، فقد نجح هذا المشروع في استدعاء معظم أو جل اللبنات التي ما تزال صالحة لإعادة البناء المذخورة في التراث الإسلامي، وذلك بواسطة منظور نقدي له أسسه ومحدّداته المنهجية، وإقامة علاقة حيوية دائمة لمناقشة ومجادلة زخم الموروث الثقافي الإسلامي، واستنطاق العناصر الحية في هذا الموروث، قصد تجديد أساليب أداء العقل المسلم واستكمال الأدوات المنهجية الضرورية لبلورة مرجعيته القائمة على مبدأ " فكريّة الإسلام الكليّة "، سواء تعلق الأمر بالمنهج أو بالمعرفة أو الواقع. 5 – إن مشروع الغزالي الفكري يشرح ويبرهن في الوقت نفسه على كون أزمة الأمة الإسلامية الأولى ليست أزمة عقيدة أو قيم ومبادئ ، وإنما هي أزمة فكرية، وأنّ كل الأزمات هي في حقيقتها مظاهر وانعكاسات طبيعية لهذه الأزمة، وأن العلاج والحل يجب أن يبدأ بتصحيح فكرها وترشيد مسار ومنهج العقل المسلم، وبذلك نستطيع القول بأنّ مشروع الغزالي الفكري يهدف أساساً إلى وضع الأمة وفكرها ومؤسساتها في بداية الطريق الصحيح. 6 – إن المراجعة المنهجية الدقيقة لجهود الغزالي الفكرية ولقسمات مشروعه الفكري بما في ذلك معالم شخصيته وخصائص خُلقه وسلوكه، تجعل الباحث والدارس يقتنع بأن هذه الجهود وهذا النموذج وهذه الاجتهادات والرؤى والمرئيات التي قدمها الغزالي تمثل مدرسة رائدة مميزة في الفكر الإسلامي المعاصر، لاسيما أن فكر الغزالي له تأثيرات واضحة سواء على صعيد الامتدادات الأفقية للمجتمعات الإسلامية أو على صعيد النخبة المفكرة والواعية من أبناء هذه الأمة، فهذا المشروع الفكري – فيما أعتقد – قد نجح في تحديد المنطلقات الصحيحة وبناء الرؤية السليمة لمنهج النظر والاستنباط والتفكير الإسلامي المتوازن. و بناءً على ذلك فإن الجهود اللاّحقة والمتفاعلة مع هذا المشروع، تقع عليها مسؤولية تبنّي معطيات وثمرات هذا المشروع الفكري، والبناء على أسسه وتطوير برنامجه ومفرداته في الإصلاح الفكري والتغيير الاجتماعي والتأسيس الحضاري على ضوء إفرازات ومستجدّات تدافع الوقائع والظروف والأحداث، وطوارئ ونوازل الصراعات والمدافعات والعلاقات، حتى يسترجع العقل المسلم المعاصر عافيته النهائية ويستردّ دوره التاريخي والإنساني في الشهود الحضاري، ويستأنف مسيرته المبدعة الخلاّقة في نفع الإنسانية والكائنات والكون بعطاءات رسالة الاستخلاف الصحيح، وفيوضات الخير الحقّ، والرحمة الصحيحة المنبثقة من المنهج الأقوم والهداية الأزلية. فرحم الله المفكّر المجدّد المجتهد الشيخ محمد الغزالي في ذكرى مئوية مولده الأولى، التي صادفت يوم 22 سبتمبر 2017 م، لقاء ما قدم لدينه وأمته وأجيال الصحوة الإسلامية، والله وليّ كلّ توفيق وسداد و رشاد. هوامش 1 محمد شلبي، الشيخ الغزالي ومعركة المصحف في العالم الإسلامي، دار الصحوة، القاهرة، ط1، 1987 م، ص 24. 2 محمد الغزالي، تأملات في الدين والحياة، دار الدعوة، الإسكندرية، ط2، 1992 م، ص 50. 3 محمد الغزالي ، حصاد الغرور ، دار الثقافة، الدوحة، ط 3، 1985م، ص 272-273. 4 محمد الغزالي، مجلة الدعوة السعودية العدد (1181)، الصادر في 24 رجب 1409 ه، ص 28 – 29. 5 محمد عمارة، الشيخ محمد الغزالي: الموقع الفكري والمعارك الفكرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط 1، 1992م، ص 40 – 41. 6 محمد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دار الكتب، الجزائر، ط1، 1988 م، ص 268 – 269. 7 حوار مع الشيخ محمد الغزالي، إعداد دار المختار الإسلامي، القاهرة ، ط1، 1996 م، ص 58.