يواصل الكاتب والباحث الفلسطيني أحمد الدبش، في الجزء الثالث والأخير من قراءته لكتاب “أورشليم القديمة وأورشليم الجديدة. مطامع الولاياتالمتحدة فى الشرق الأوسط ومهمتها المقدسة (1918 1967).. المعرفة في خدمة الهيمنة”، للكاتب ماثيو إف جايكوبز، حيث يتناول هذا الجزء، الصراع العربي الإسرائيلي، وحدود المشكلة، وتخيل الشرق الأوسط (1918 1967). الفصل الخامس: الصراع العربي الإسرائيلي وحدود المشكلة قبل الحرب العالمية الثانية، لم يوضح الأعضاء الأوائل للشبكة غير الرسمية البازغة اهتماماً بالصراع المتنامى في فلسطين سوى إلى فترات متقاطعة. “كان الكثير من هؤلاء قد عبروا عن آرائهم لصالح إقامة دولة يهودية في فلسطين” (ص 290). “اتسم عمل Inquiry (…) بملمحين رئيسيين: أولاً، ومثل بقية أعمالها عن الشرق الأوسط، كانت تقاريرها عن فلسطين معيبة(…). ثانياً، افترض التقرير مسبقاً نتيجة محددة للصراع، حيث أنه(…) افترض قيام دولة يهودية” (ص 292). بحلول عام 1922، دعمت الولاياتالمتحدةالأمريكية، “إقامة وطن قومي لليهود بفلسطين” (ص 293). “بمنتصف العشرينيات، ظهر مجهود قوى لإقامة قاعدة عريضة لدعم قضية الصهاينة بين صناع السياسة، والأشخاص المهتمين بالسياسة، والمتبرعين المحتملين” (ص 294). عمد “الموالون للصهيونية، إلى الجمع بين الرابطة المتقبلة بعامة بين اليهود، والأرض المقدسة، وبين الرغبة القديمة، والتي لم تتوف عن التطور باطراد لخلاص المنطقة، وتغير وجهها” (ص 296). يعرض المؤلف مقالة بعنوان (اليهود في فلسطين)، للكاتب الصهيوني البريطاني، لينارد شتاين، بيد أن أهم ما جاء بالمقال هو، “الكيفية التي من خلالها عمل على إقناع الأخرين، كي يتخيلوا فلسطين يهودية، استناداً إلى مدركات الخلاص، والتحول الثابتة كي يدافع عن المطلب الصهيوني، ويوضحه، ويعبر عن رؤية مستقبلية لتعايش سلمي بين اليهود، والعرب في فلسطين(…) فعل ذلك بأسلوب عرض به فلسطين اليهودية بصفتها امتداداً طبيعياً حديثاً لحضارة غربية في الشرق الأوسط، حضارة مقدسة وعلمانية في آن” (ص 297). “أثارت أعمال العنف المميتة بين اليهود، والفلسطينيين، في آب (أغسطس) عام 1929، التساؤل حول تلك الرؤية للتعايش السلمي التي روّج لها شتاين وآخرون” (ص 298). “تجاهل الصهيوني البريطاني، هنري نفينسون، أي دور محتمل لليهود في أعمال العنف(…) من المحتمل أن بعض الأمريكيين، قد وجدوا تصوير نفينسون، لأحداث عام 1929، بأنها نتيجة لصراع حضارات، أمراً متقبلاً لا اعتراض عليه” (ص 299). ..مصالح أمريكا في فلسطين تبنى المحامي، والناشط بالحزب الديمقراطي، فليكس فرانكفورتر، أفكار شتاين، في مقال بعنوان (إعادة صياغة الوضع في فلسطين)، الذي نشره عام 1931. أمل فرانكفورتر “في إعادة توجيه انتباه الشعب الأمريكي إلى الحياة العضوية متناغمة الأجزاء لحضارة جديدة آخذة في التكشف باطراد في فلسطين منذ عام 1920. أكد أنه على الرغم من أن الوجود اليهودي هناك هو العامل الحاسم في تلك الحضارة الجديدة” (ص 300). “أدى المناخ السائد في عامي 1936 و1937، إلى أن يضاعف الصهاينة جهودهم لكسب الداعمين المحتملين، وصناع السياسة بالولاياتالمتحدة إلى جانبهم” (ص 302). في نهاية الثلاثينيات، تم “إضافة الوجود اليهودي في فلسطين إلى قائمة تلك المصالح(…). وتم التركيز على مصالح الولاياتالمتحدة النفطية في المنطقة” (ص 306). “كانت غالبية تلك المصالح موجودة في مناطق يتحكم فيها عرب مناهضون لإقامة دولة يهودية بفلسطين” (ص 307)، حيث ذهب لوى هندرسون، سفير الولاياتالمتحدةالأمريكية في العراق اثناء الحرب إلى أن “دعم قيام دولة يهودية سيؤدي إلى أن يتوجه العالمان العربي والإسلامي إلى مكان آخر من أجل الدعم بدلاً من أن يتوجهوا إلى الغرب(…) أيضاً، اعتقد بعض المتخصصين الحكوميين، أن دعم الولاياتالمتحدةالأمريكية للوجود اليهودي في فلسطين الآخذ في التوسع يعمل على تقويض الصورة الإيجابية التي كانت الولاياتالمتحدةالأمريكية قد طورتها في أنحاء المنطقة على مدى العقود السابقة” (ص 308 309). بحسب المؤلف، عارض مكتب شؤون الشرق الأدنى، “إنشاء دولة يهودية في فلسطين في الفترة من أواسط الأربعينيات، وحتى نهايتها. أيضاً بقايا البعثات التبشيرية، والاستشراقيين، وقفوا بحزم ضد الخطة، وكان الإثنان الأبرز بين هؤلاء، هما ويليام إدى، وكرميت “كيم” روزفلت. كان إدى قد عبر علانية عن معارضته لمشروع دولة يهودية بفلسطين، ثم أعقب ذلك باستقالته في نهاية عام 1947 من وزارة الخارجية” (ص 311). و”هناك تنظيمات يهودية، لا صهيونية، أو معادية للصهيونية، عبرت عن معارضتها لقيام دولة يهودية في فلسطين. كاللجنة اليهودية الأمريكية والمجلس اليهودي الأمريكي” (ص 312). أضافت الأطروحات المبكرة بإنجاز تحول في فلسطين من خلال توسع التواجد اليهودي هناك، أطروحتين هما: “أولي الأطروحتين(…) الوجود اليهودي في فلسطين، ليس فقط مصلحة للولايات المتحدةالأمريكية، كما كان الصهاينة يؤكدون، بل بإمكانه أيضاً أن يكون ذا دور مركزي في كسب الحرب، وبخاصة في الشرق الأوسط. أما الأطروحة الثانية القائمة على أساس الإلزام الأخلاقي بالسماح لليهود بقيام دولة خاصة بهم لم تكن جديدة في حد ذاتها، إلا أن الهولوكست أكسبتها معنى أعظم)” (ص 314 315). وبحسب المؤلف إن “المعركة على فلسطين كانت، في واقع الأمر، صراعاً على السلطة السياسية، وعلى عقل الرئيس، وأنها معركة كانت فيها المجموعات المؤيدة للهجرة، والداعمة للصهاينة بعامة، هي الرابحة طوال الأربعينيات” (ص 316). “يرى المؤرخ بيتر هان، أن صناع السياسة الأمريكية، فيما بين عامي 1945 و1961، قد أمسك بهم في ورطة الشرق الأوسط، أثناء سعيهم لضمان مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية بالمنطقة(…) فيما انتهى بهم المطاف إلى اغتراب جميع الأطراف عنهم. بالإمكان أيضاً، أن نقول نفس الشيء تقريباً عن المتخصصين في الشرق الأوسط من أعضاء الشبكة غير الرسمية في الفترة التي من نهاية الأربعينيات، وإلى حوالى عام 1960. وفيما كان ثمة استثناءات مثل ويليام إدى، فقد اعترف غالبية هؤلاء المتخصصين بأنه لا خيار أمامهم سوى القبول بوجود إسرائيل” (ص 322 323). ..إسرائيل ووجه الشرق الأوسط تصور المتخصصون التواجد اليهودي في فلسطين على أنه يعمل على تغير وجه الشرق الأوسط، وبصفته حليفاً محتملاً للولايات المتحدةالأمريكية بالمنطقة(…)، وبأن الوجود اليهودي قاعدة ديمقراطية غربية متقدمة في الشرق الأوسط التقليدي” (ص 324). وانتشرت خطابات تقوم “على أساس العرق، والإثنية(…) عززت هذا الحس القوي بالهوية المشتركة بين الإسرائيليين والأمريكيين في الخمسينيات” (ص 325). أيضاً، “كان للخطابات المقدسة، والدنيوية أثرها على الكيفية التي تخيل بها المتخصصون، والأمريكيون الآخرون إسرائيل” (ص 326). وهكذا، “فقد كان للخطابات الاجتماعية/ الثقافية(…) وفرت هذه الخطابات التي دعمتها الأفلام السينمائية، والأعمال الأدبية(…). الأرضية لتقوية العلاقة الأمريكية / الإسرائيلية” (ص 327). وفي هذا السياق الثقافي، والسياسي، “ركز أعضاء الشبكة غير الرسمية من المتخصصين على قضيتين أساسيتين(…) أن الصراع يعزز عدم وجود استقرار خطير في المنطقة، ويهدد مصالح الولاياتالمتحدة في أنحائها” (ص 331). ومن ثم شجع أعضاء الشبكة نهجاً من شعبتين لمقاربة هذا الوجه من الصراع،”أولاً، اقترحوا أن تقبل إسرائيل وضعها كدولة شرق أوسطية، لا كدولة غربية(…). ثانياً، حث العرب على القبول بإسرائيل كجار لهم” (ص 332- 333). “كان المجال الرئيسي لقلق الشبكة(…)، هو قضية اللاجئين، التي بدت لهم مشكلة جوهرية بحاجة إلى حل قبل أن يحدث أي تقدم على أي من الجبهات الأخرى” (ص 335). “عكس تقييم المتخصصين لأزمة اللاجئين مزيجاً من الاهتمام الإنساني، وحساً بأنها كانت تتسق مع الصور الثابتة للعرب، والمسلمين بصفتهم أناساً متخلفين، كسالى، تتجاذبهم تقلباتهم العاطفية” (ص 336). ..قضية اللاجئين “بحلول السنوات النهائية من الخمسينيات، وأوائل الستينيات، كان أعضاء الشبكة من المتخصصين قد أصابهم الإحباط من عدم إحراز أي تقدم بشأن قضية اللاجئين، أو تشجيع علاقات أفضل بين إسرائيل، والدول العربية، وانتهوا إلى أن البيئة الإقليمية في نهاية الخمسينيات لم تكن مواتية لحل الصراع العربي/ الإسرائيلي/ الفلسطيني” (ص 340). غدت جهود أعضاء الشبكة غير الرسمية من المتخصصين لتخيل حل سلمي صعبة المنال طوال الستينيات، فقد “أجبر سباق التسلح المتصاعد في المنطقة، والذي أسهم فيه الاتحاد السوفييتي، والولاياتالمتحدة معاً، وظهور حركات سياسية فلسطينية، وحرب 1967، أجبر المشاركين في الشبكة على إعادة التفكير في محاولاتهم السابقة لإدارة الخلافات. وجدت الشبكة نفسها، في مواجهة مع ما اعتبروه صراعاً أكثر تعقيداً وزخماً عما كان سابقاً(…). مع دخول مزيد من الأطراف في الصراع، ووجود علاقات إسرائيلية/ أمريكية أقوى، واحتلال إسرائيلي لأرض عربية وفلسطينية، بدا وجود حل للصراع إمكانية بعيدة المنال” (ص 341). “وفي مواجهة تلك الأوضاع، تشعبت جهود الشبكة لتخيل حل للصراع العربي/ الإسرائيلي/ الفلسطيني إلى مسارين منفصلين: اعترف الأول،(…) بعدم احتمال التوصل إلى تسوية شاملة، لكنه حث صناع السياسة على مواصلة الجهود في ذلك الاتجاه، فيما يحاولون، في الوقت ذاته، التفاوض على حلول لأوجه متفرقة من الصراع، بيد أن ذلك الاحتمال غدا أكثر صعوبة(…). أما البديل الثاني يقوم على فرضية الاعتقاد بأن الصراع العربي/ الإسرائيلي، وبالرغم من أهميته، والاهتمام الذي يلقاه، ليس هو القضية الوحيدة في المنطقة، كما أنه ليس الأكثر حسماً في العلاقات الواقعية بين القوى العظمى” (ص 354). ..الخاتمة: تخيل الشرق الأوسط (1918 1967) منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وحتى سنوات الستينيات الأخيرة، كان ثمة شبكة ناشئة غير رسمية من المتخصصين عبر/ دولية في مداها تضم أفراداً من المجال الأكاديمي، وعالم الأعمال، والحكومة، والإعلام مسؤولة عن تفسير الشرق الأوسط للجماهير الأمريكية. “تخيل المشاركون في هذه الشبكة الشرق الأوسط في الماضي، والحاضر، وما سيكون عليه في المستقبل بتركيزهم على أربع تيمات مفاتيح رئيسية. اتجه المتخصصون أولاً للإسلام، وما اعتقدوا أنه طبيعته السياسية، والشمولية المتأصلة، بصفته المعْلَم الأول الأكثر وضوحاً للاختلاف بين الولاياتالمتحدة، والشرق الأوسط(…) كانت التيمة الثانية،(…)، تأويليْن للقومية شرق الأوسطية، صور أحدهما القومية على أنها نتاج للحركات الفكرية المعادية للاستعمار(…) وركز التفسير الثاني، على الشخصيات الكاريزمية، من أمثال مصطفى كمال أتاتورك، وعبد العزيز بن سعود، ورضا خان، كنقاط مركزيرة انطلقت منها قوة حميدة. أما التيمة الثالثة،(…) اتباع سياسة تنموية ليبرالية في فترة ما بين الحربين، وأعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة (…) ووظف الصراع العربي/ الإسرائيلي كتيمة رابعة” (ص 358 361). أخيراً، “كان سعي أمريكا، والذي ظل قائماً منذ وقت طويل لإنجاز ما اعتبرته مهمتها المقدسة، والدنيوية في الشرق الأوسط، اقتضت المهمة المقدسة، والدنيوية أن تبذل (أورشليم الجديدة) الولاياتالمتحدةالأمريكية الجهد من أجل خلاص ما زُعم أنه أورشليم القديمة المتخلفة، والمُدنسة، وكان للإيمان بتلك المهمة جذوره في تأسيس الولاياتالمتحدة ذاتها” (ص 365). “أدت عملية تخيل الشرق الأوسط في نهاية الستينيات، ومطلع السبعينيات إلى تغييرات مهمة في الشبكة غير الرسمية ذاتها، وفي طبيعة مرجعية شؤون الشرق الأوسط، والخبرة بها” (ص 365). “أدت حرب 1967، ومعها كثير من الأحداث(…) إلى إعادة تقييم مصالح الولاياتالمتحدةالأمريكية الأمنية بالمنطقة طوال سنوات منتصف السبيعينيات، تزامن حدوث انكماش اقتصادي بالولاياتالمتحدةالأمريكية، تسببت فيه جزئياً الإتفاقات الهائلة من أجل تمويل حرب فيتنام في الخارج(…)، إضافة إلى التنافس المتصاعد من جانب أوروبا، وآسيا، تزامن مع صعود منظمة أوبك(…). تطبيق مقاطعة لمبيعات النفط للولايات المتحدة أثناء حرب 1973(…)، وصول الاتحاد السوفييتي إلى مرحلة شبه تكافؤ نووي مع الولاياتالمتحدةالأمريكية(…) أعادت الثورة الإيرانية، المخاوف من الإسلام إلى الواجهة” (ص 366 367). على الرغم من ذلك، فإن “الأساليب المقدسة، والدنيوية لتخيل الشرق الأوسط، قد ظلت مستمرة في مرحلة ما بعد 1967. ثمة مثالان موجزان للبرهان على هذا، يتعلق الأول، بدعم الولاياتالمتحدة لإسرائيل الذي غدا أكثر وضوحاً، وشيوعاً على مدى العقود الأربعة الأخيرة. يتمثل الأسلوب الدنيوي لتخيل المنطقة(…) غدوا ينظرون لإسرائيل بصفتها (أيقونة). أما الأسلوب المقدس(…)، يتمثل بالرأى المترسخ لدى المسيحيين الإنجليين، والذي يرى دعم إسرائيل بصفته إلزاماً دينياً. أما المثال الثاني، فيتعلق بالحرب على العراق التي بدأت في عام 2003 (…)،كفرصة سانحة لتجديد مهمة أمريكا المقدسة، والدنيوية لتغير وجه الشرق الأوسط” (ص 375). إن هذا المعنى، هو الذي ظلت تقوم عليه كل طبقات الفهم، والتأويلات اللاحقة، ظل استناده إلى المعرفة، والمهمة المقدسة، والدنيوية، ومازال، قوة دافعة في كيفية تخيل الأمريكيين للشرق الأوسط.